طلال سلمان

على الطريق شهيد روح المصالحة

مهيباً كان الدوي، جليلاً وصاعقاً، كأنه صوت الحرب، كأنه صوت الزلزال! كأنه النذير المثقل برائحة النجيع وصورة الفاجعة.
قرع الدوي المهيب كل بيت في بيروت المجرحة الوجه المكلومة الفؤاد المفتوح وجدانها على الحزن، فانفتحت الأبواب المغلقة واهتزت الجدران المصدعة أصلاً بنيران الحروب المتناسلة وصواريخها وقذائفها العشوائية أو تلك المتقنة التصويب كالتي شهدتها منطقة دار الفتوى خلال الأسبوعين الماضيين.
الدوي بمستوى النعي، والذهول الذي أعقبه بمستوى الفقيد الذي فقدنا،
هو مفتي الجمهورية اللبنانية، إذن،
هو صاحب السماحة الشيخ حسن خالد، الرجل الطيب الذي سمعت دارته في عرمون الصرخات الأولى لمن أفزعتهم ضراوة الحرب الوليدة في العام 1975، والذي أخذته الحرب بعد أربعة عشر عاماً ونيف وهو يكاد لا يصدق إنها “الحرب” وإنها لا ترحم ولا تراعي قيمة أو مقاماًز
كان إيمانه أعظم من استشعاره بالخطر، وكانت قدريته أفعل وأرسخ من أن تهتز بضغط الذين استولوا على مقدراتنا وادعوا القدرة على اصطناع أقدارنا.
ربما لهذا عاش في أحضان الحرب، ومسته نيرانها أكثر من مرة، وظل يعتبرإنها أمر عارض وإن لبنان أقوى من تأثيراتها ومن نتائجها المريعة، وإنه هو الباقي بعدها وإن كل ما عداه من إفرازاتها إلى زوال.
ومع إنه “كان دائماً يدعو إلى إقامة العدل ورفع الغبن وإجراء إصلاحات جذرية في بنية النظام اللبناني”، كما جاء في الترجمة الرسمية لحياته التي وزعتها دار الفتوى، إلا أنه كان يرفض اللجوء إلى العنف تحقيقاً للمطالب، وظل يرفض العنف حتى يومه الأخير… وهو أحد أبشع أيام العنف الدموي وأبقاها أثراً.
مسالماً، كان، برغم طبعه الانفعالي الذي يحمل من بصمات الطفولة أكثر مما يعبر عن موقف، بدليل إنه كان ينسى ويسامح ويتجاوزعن الخطأ متى شرحت له ظروف المخطئ وأسبابه التخفيفية.
وميالاً إلى التبسيط في تحليله السياسي، ولذلك كان يجنح إلى الاعتدال حتى في وجه المتطرفين، مفترضاً إن الاعتدال هو المحطة الأخيرة للبنانيين عموماً، وهو صلة الوصل بين الغربية والشرقية، أو بين الجناحين، أو بين “الفئات اللبنانية” وهو التعبير المهذب للطوائف وغرائزها ومطامحها السياسية الجامحة.
معتدلاً مع المتطرفين في الضفة الأخرى، كان، ولكنه كان عنيفاً في ثورته على المتطرفين باسم المذاهب في بيئته، فالاعتدال هناك كما الثورة هنا من شروط “الحلول الوسط” التي هي ضرورات لبنانية.
من قتل صاحب السماحة؟!
من استغل فاصل الهدوء المؤقت، ووقف النار الهش والمحدود، من أجل إطلاق نار الفتنة والحرب الأهلية من عقالها، مجدداً، وبما يمكنها من أن تنتشر في الهشيم اللبناني بأسرع وأكثف وأبسط مما كانت قبل 6 أيار 1989؟!
من اغتال داعية المصالحة، حتى مع التساهل في الشروط لأن المصالحة بذاتها أغلى وأثمن من أي شرط؟!
وهل من أجل مثل هذه العمليات الإجرامية التي تستهدف تغييب بعض الرموز والمراجع كان الضغط الدولي الواسع واستطراداً الضغط العربي، ولو بصيغة الرجاء والتمني، والتوسل، لوقف إطلاق النار في لبنان؟!
الكل طلب وقف إطلاق النار بلا شروط، ومع الوعي الكامل بأنه سيكون وقفاً محدوداً وهشاً وبلا قدمين يقف عليهما… ومع ذلك فقد أصروا عليه وكأنه غاية المنى والهدف المنشود وواحة الرجاء.
الكل، إلا صاحب القضية وحامل همها، كان يريد وقفاً للنار من دون إزالة أسبابها ومن دون محاسبة مطلقها والموجه قذائفه ضد ما تبقى من ملامح الترابط الوطني ورموز التقدم الحضاري، ومن هنا إن منطقة عائشة بكار نالت النصيب الأوفى من الأوسمة ووشم الشجاعة.
… وفي عائشة بكار التي لم تركع ولم تهن، برغم جراحها، كان الكمين لمفتي الجمهورية،
في البداية كان اغتيال الجمهورية واغتصاب مؤسساتها، بما في ذلك قصر الرئاسة،
ومن ثم جاء اغتيال مفتي الجمهورية وهو يواصل مساعيه من أجل بعثها وإعادة الروح إليها وإلى مؤسساتها المندثرة.
وبين المفارقات إن اغتيال الشيخ حسن خالد يجيء بعد سنتين إلا أسبوعين من اغتيال أحد ركائز النظام اللبناني المعتل وأحد دعاة الاصلاح سلما الرئيس الشهيد رشيد كرامي.
وبين المفارقات إن الشيخ حسن خالد الذي نجا من محاولة اغتيال سابقة، في عيد الفطر قبل أربع سنوات (مطلع أيلول 1984)، قد قضى بالأسلوب ذاته (السيارة المفخخة) يوم أمس،
وبين المفارقات إن الراحلين الكبيرين كانا يلتقيان على نبذ العنف واللجوء إلى السلاح للتغيير وإصلاح النظام، وإنهما قد غيبا وكأنما بدافع الحرص على بقاء الخلل في النظام.
لكأن عيوب النظام أغلى على أهله والمنتفعين به من رموز وحدة البلاد والحرص على نظامها سليماً معافى.
من المبكر إطلاق الاتهامات حول منظمي اغتيال مفتي الجمهورية وتحديد المسؤوليات عن هذه الجريمة التي من شأنها أن تغرق لبنان في دم المأساة وأحزانها، مرة أخرى،
وبرغم إن أطرافاً عديدة قد تستسهل الربط بين الانتقادات الموجهة إلى بعض المواقف السياسية التي صدرت عن دار الفتوى أو عن اللقاء الإسلامي، أو بشكل خاص إلى تلك المواقف التي لم تصدر أقله في ا لوقت المناسب،
وبرغم إن مناخ الحرب الأهلية، بكل الصراعات المحتدمة داخل أتونها، يسمح بإطلاق الاتهامات عشوائياً وفي كل اتجاه، بحيث يصيب رذاذها الجميع، وكل بحسب قدرته على تنفيذ مثل هذه العملية الإجرامية المتقنة،
وبرغم إن جرائم الاغتيال السابقة التي استهدفت معظم مراجع وقيادات الصف الأول قد قيدت ضد مجهول، وطمست الأدلة والمعلومات والقرائن التي تشير إلى الجناة المعروفين إلى حد أن أحداً لا يعرفهم ولا يتعرف عليهم ولا يشهد ضدهم.
وبرغم إنه من السهل استخدام التهمة مرة بوجهها الأول ومرة أخرى مقلوبة، بحيث يصبح المتهم جانياً والجاني متهماً،
برغم هذا كله فإن التوقيت يظل “البوصلة” الصالحة للاستدلال على الجناة،
فالاغتيالات السياسية كانت محطات تحدد – بتوقيتها ومكانها – وجهة الحرب في كل مرحلة من مراحلها المتعددة.
وبالتأكيد فإن مشعلي نار حرب 14 آذار وما بعده هو في موقع المستفيد من وقوعات هذه الحرب، سواء تلك التي قصدوها ونفذوها عمداً أو تلك التي تنفذ على هامش مخططهم، حتى وإن كانت لها أغراض أخرى.
فمن اختار لغة الحرب لتحقيق أهدافه أو مطامحه أو أغراضه الخاصة هو المسؤول عن نتائجها جميعاً، ما يناسبه منها وما يتخطاه ويعاكس مقاصده.
مشعل الحريق في المنزل الامن لا يحزن كثيراً إذا التهمت النيران لعب الأطفال، أو ثوب الزفاف أو الكتاب المقدس أو غيره مما كان ينوي الحرص عليه واستخدامه دليل براءة وحسن نية.
لا مكان بعد للحزن،
لقد طفحت النفوس مرارة وألماً وتعاسة، وغرق الناس في لجنة البؤس، البلا ضفاف،
ولا حدود للجريمة ، ولا تخوم للمؤامرة،
واغتيال المفتي حسن خالد يأتي ليؤكد إننا ماضون في النفق المعتم ولا أمل في التماعة ضوء، أ, في شعاع نور يسدد خطانا في الوجهة السليمة.
بل إن هذا الاغتيال يأتي بمثابة إنذار ومؤشر على طبيعة المرحلة المقبلة، أكثر منه إيذاناً بنهاية المرحلة (السابقة) التي نعيش اليوم ساعاتها الأخيرة.
وإذا كانت قمة الحسن الثاني العتيدة، بعد أسبوع، في الدار البيضاء، هي نقطة البداية الرسمية للتحولات الهائلة والمخيفة التي ستهز أرضنا العربية وتغير في حدودها ومعالمها في الأيام المقبلة، فإن اغتيال مفتي الجمهورية اللبنانية يشكل عنواناً أولياً لتلك التحولات وطبيعتها.
تصغر، البلاد وتكبر قضيتها.
تمزق البلاد وتتناثر مزقها أشلاء، تتحول إلى برزخ، لا يشعر شمالها بهم جنوبها، ولا يهتم بقاعها بمحنة عاصمتها، وتقسم حمى الحرب جبلها جبلين مقتتلين لا يعنيهما ما يجري خارجهما،
تكبر القضية، تصغر البلاد، وتتضاءل المؤسسات ويغيب الرجال وتذوي المنظمات وتسود الفوضى فتبيض ويفقس بيضها مزيداً من الشرور، ولا ضابط أو رادع أو وازع من ضمير أو خلق أو خوف من سلطة تقتص من المجرم وتحمي البريء والعامل لخير الوطن والمواطن.
تكبر القضية، تتصاغر البلاد، تتعاظم الفوضى وتطال ألسنة النار رموزاً وقيماً ومراجع يحيطها الناس بهالة من التقدير والاحترام بحيث يفترضونها خارج دائرة النار،
لكن النار لا ترحم أحداً ولا تمنعها عصمة ولا تستعصي عليها حرمة.
هي الحرب علينا، على الإنسان في لبنان يشعلها مجرم ويذهب ضحيتها البسطاء والسذج، والمؤمنون بغد أفضل يمكن استنقاذه من العنف ومصالح المنتفعين بالعنف.
هي الحرب على ملامح لبنان الذي كان من دون ترك فسحة لتبين ملامح لبنان الذي سيبقى، بعد كل التصفيات التي تتناوله كياناً ودولة مؤسسات ومراجع وبشراً عاديين.
هي الحرب.
قدر جيل آخر من أجيالنا،
تفرض علينا من قبل أن نستكمل عدتنا لمواجهتها،
نقاتل رياحها التقسيمية بمبدأ الوحدة مع رفض دولتها القديمة ومع عجز عن تصور دولتها الجديدة،
ونقاتل ميليشياتها الطائفية بشعار إلغاء الطائفية السياسية ثم يهزنا الخوف من الضياع فنعلن استسلامنا لقدر من الطائفية بوصفه شروط وجود الكيان السياسي.
إنها الحرب، الحرب ضد الذات والحرب ضد الشقيق،
وإلا فكيف يكون الصلح مع العدو؟
والجواب عند الحسن الثاني وقمة التحولات التي يستضيف والتي لن تكون “عائشة بكار” بين المدعوين إليها،
في دار الفتوى، همس الدكتور حسن صعب من خلال دموعه:
-لقد كنت آخر من التقاه قبل خروجه، وقدمت له نص برقية موجهة إلى قمة الدار البيضاء فوقعها قبيل انصرافه… والبرقية تلفت الملوك والرؤساء، والأمراء إلى أن لبنان ليس مشكلة أمنية بل هو أزمة عربية، وأزمة سياسية على وجه التحديد!
رحم الله الشيخ حسن خالد،
رحم الله لبنان واللبنانيين، واستبقى منه ومنهم ما ومن ينفع ويكفي للخروج من أتون الحرب،
.. هل ترى عصر السلام الآتي، إذا ما أتى، سيجد في استقباله العدد اللائق من المستقبلين؟!

Exit mobile version