طلال سلمان

على الطريق شهادة في قضية مفتوحة: وما إذا كان مهدي الحاج حسن بريئاً؟

للقضاء وحده، مبدئياً، أن يقول الكلمة الفصل في قضية العميد مهدي الحاج حسن، رئيس جهاز أمن المطار، الموقوف الآن، والمتعرّض لأبشع عملية تشهير شخصية، و”المعزول” بلا حكم، والمطروح “منصبه” في سوق المبادلات السياسية والمقايضات الحكومية المفتوح “بازارها” على الآخر.
لكن القضاء، حتى لحظة إصدار الحكم، صامت طبعاً، والعدالة مع أمثال مهدي الحاج حسن، في أصولهم وسير حياتهم عمياء…
وخارج القضاء، وإن تحت عباءته، ومن خلال قاضي التحقيق أو كتابه، تدفقت الاتهامات طوفاناً من التفاصيل ناسجة لهذا الضابط المتميز في كفاءته وفي حسن خلقه “تاريخاً” حافلاً من التواطؤ مع بعض شبكات تهريب المخدرات أو التستر عليها أو تقديم التسهيلات لها، من خلال موقعه الحساس.
كل هذا والضابط العالي الرتبة، والذي يعرفه لبنان كله حق المعرفة، مفروض عليه الصمت ومحروم من حق الدفاع الطبيعي عن نفسه، في انتظار استكمال التحقيق.
لماذا إذن قيل ماقيل ونشر ما نشر قبل استكمال التحقيق؟!
وماذا تبقى مستوراً، أو مجهلاً أو مصاناً من أجل سلامة التحقيق؟
بل ماذا تبقى من هذا الرجل الذي أغطى ثلاثين سنة ونيفاً من عمره لخدمة بلاده وأمنها عبر المواقع العديدة التي تدرّج فيها من الجبل إلى الشمال فإلى بيروت، ومن معهد قوى الأمن الداخلي إلى قيادة الدرك (كمعاون) وانتهاء بجهاز أمن المطار؟!
ثم لماذا الآن، والآن فقط، “اكتشفت” العلاقات الخفية والمريبة بين العميد الحاج حسن ومهربي الكوكايين، علماً أنه خدم في مطار بيروت “الدولي” بضع سنوات، كقائد لسرية الدرك، ثم عاد إليه بعد انقطاع قصير، كرئيس لجهاز أمن المطار، وكان ساحة مفتوحة بلا باب أو حرس فضبطها إلى حد كبير، وكان مشاعأً فأعاده إلى الدولة وأعاد الدولة إليه، وكان “محطة” لمختلف أنواع الارتكابات والتجاوزات والتسيب والتداخل في الاختصاصات والتصادم بين الأجهزة، فأسهم بدور حاسم في منع الممنوع وإحلال النظام وتوضيح “الحدود” التي كان ضياعها يوفر المناخ الأمثل لكل مستفيد من الفوضى، وفي الطليعة شبكات التهريب على إطلاقه؟!
للقضاء أن يقرر، بالنتيجة، مدى مسؤولية العميد مهدي الحاج حسن وهل هو مقصر أم متورّط، أم أنه – كما يعرفه كل اللبنانيين – شهم يسهل استغلال طيبته وحبه للناس واندفاعه في خدمتهم، بغض النظر عن مراتبهم وحجم ثرواتهم أو مدى نفوذهمز
لكن من حق أي مواطن أن يطرح مجموعة من التساؤلات التي استولدتها “إدارة” هذه القضية، بالإضافة إلى توقيتها، والتي يعجز عن تفسيسهرا ببراءة منها:
*لم يتعوّد اللبنانيون مثل هذه السرعة في تحرك النيابة العامة، لاسيما لجهة التوقيف، خصوصاً مع ضباط بمثل رتبة العميد مهدي الحاج حسن…
*ولم يتعوّد اللبنانيون مثل هذه السرعة في تعميم النتائج الأولية المتوفرة لدى قاضي التحقيق على الصحف ووسائل الأعلام،
فبين التوقيف والنشر بضع ساعات لا تكفي، في العامة، لإنجاز مثل هذا السبق الصحافي، إلا إذا كان التسريب مطلوباً وبفعل فاعل ولقصد مقصود.
*ولأن التحقيقات الأولية ليست، بالضرورة، حقائق ثابتة،
ولأن كل شيء في لبنان، مسيس، ومخضع للتوازنات الطائفية والجهوية، وقابل للتأثر بطبيعة الصراع القائم (والمستمر) بين مراكز القوى في اللعبة السياسية الداخلية وتشعباتها وامتداداتها خارج الحدود وفي ما وراء البحار،
ولأن مهدي الحاج حسن، باسمه وبمسقط رأسه، “سلعة” قابلة للتصدير والتسويق “عالمياً”، ولاسيما عند الجهة الهائلة القوى التي تتزعم اليوم حملة مكافحة المخدرات، ولأسباب سياسية واقتصادية أساساً لا دخل لها بالأخلاق،
لهذا كله لم يستطع المواطن العادي ان يوقف الدوي الذي يضج به رأسه وهو يتابع التفاصيل المثيرة لعملية ضبط صفقة الكوكايين الخطيرة في مطار بيروت (12 كلغ، في ما يقال)… وصمدر الدوي السؤال: أهي مرة أخرى حكاية “استضعفوك فوصفوك”؟!
للقضاء وحده، مبدئياً، أن يقول كلمته في قضية العميد مهدي الحاج حسن،
لكن ما قيل حتى الآن ذهب بالكثير من قيمة ما سيقوله القضاء: فمجرد إعلان التهمة بمثابة حكم قاطع بالإدانة، والتشهير أقصى من الأشغال الشاقة المؤبدة،
ولنتصور أن القضاء قضى غداً ببراءة مهدي الحاج حسن، فماذا ستنفعه براءته في مستقبله، بعدما هدر دم ماضيه وحاضره وسجله المشرف في خدمة لبنان واللبنانيين؟!
من يعوّض على مهدي الحاج حسن وعائلته، وكيف، وبماذا، إذا انتهى التحقيق إلى القطع ببراءته مما نسب إليه؟!
بعد التساؤلات، وهذه عينة منها فحسب، لا بد من شيء من الكلام في الموضوع العام، المخدرات وبيروت، أو لبنان، كمركز للتهريب (على الخطين وللأنواع جميعاً، والأغلى فالأغلى)، والشبكات التي تنطلق منه أو تتخذه قاعدة لحركتها، من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، مروراً بالبقاع والزراعات الممنوعة، وصولاً إلى بيروت ومطارها، بغير أن ننسى المرافئ عموماً، الشرعي منها وغير الشرعي إلا بمالكيه أو المهيمنين عليه ومستثمري قدرتهم على حمايته بمن وما فيه.
وأول ما يمكن (ويجب) أن يقال في هذا السياق أن لبنان – الجمهورية الثانية “أبيض” في حين الجمهورية الأولى كانت “خضراء” داكنة، وإن “إنجازات” عهد الطائف أغلى بما لا يقاس من “إنتاج” دولة الاستقلال الطرية العود!
لقد أخذ – لبنان – في هذا المجال، بأسباب التقدم والتكنولوجيا والعلم كافة،
استورد المواد الأولية من مصادرها في أميركا اللاتينية، وجاء “بالخبرات” من النبع في تركيا، وصدّر عبر وكلاء يمثلون أرقى الحضارات الغربية، وبعضهم يشغل في بلاده مناصب رفيعة أو يحمل ألقاباً مجيدة ويتحذر من سلالات الدم الأزرق!
على إن الملفت هو ما يتصل بدور السلطة والسياسيين والقوى النافذة في حركة تهريب المخدرات، زراعة ونقلاً وتسويقاً، لتعميم الإشعاع اللبناني على العالم باتساعه.
فلم يشهد لبنان، في أي عصر، مثل هذا التناول لسمعة كبار المسؤولين فيه، واللغط بتورطهم – بأشخاصهم أو بذريتهم الصالحة أو بمصاهراتهم الكريمة – في عملية تهريب المخدرات أو الاتجار بها.
صحيح إن هذه التجارة القاتلة كانت تحظى (دائماً) بحماية بعض “الكبار” ممن كانوا أطرافاً في الشبكات الدولية أو بين كبار المستفيدين، نتيجة مقايضة النفوذ بالمنافع،
لكن الحرب الأهلية فتحت الباب على مصراعيه لكل راغب أو قادر أو طامع، فاقتحم التهريب (ومعه المافيات) دنيا السياسة والطوائف والميليشيات من الباب العريض وصار مصدراً أساسياً من مصادر تمويل الحرب وإدامتها.
ومنطقي اتهام كل الجهات المستفيدة من الحرب بأنها قد سهلت التهريب وفتحت له آفاقاً جديدة، مسبغة عليه نوعاً من الحماية الدولية انطلاقاً من وظيفته السياسية.
وشهيرة هي الحالات التي ضبطت فيها كميات هائلة من المخدرات “المصدّرة” من لبنان إلى فرنسا وبعض دول اوروبا الغربية، وعلى صناديقها الضخمة والتي لا يمكن إخفاؤها أو تمويهها، شعارات أحزاب سياسية وتنظيمات عسكرية طائفية تتلطى – عادة – تحت أفياء الأرز الخالد.
وغني عن البيان أن المزارع الفقير في البقاع هو آخر المستفيدين والأقل مرتبة بحجم انتفاعه، فهو إنما يعمل لأجل الآخرين من أصحاب الوجاهات والهيبة و”الوهرة” والقدرة على حماية العمليات الخطرة وتأمين المرافئ ووسائل النقل وشبكات الاتصال والوكلاء في الخارج… كل ذلك من غير أن يخافوا من افتضاح أمرهم، لأن من يعرف أخرس فإذا حاول النطق أخرسوه إلى الأبد.
للقضاء أن يقول كلمته في قضية العميد مهدي الحاج حسن،
لكن لكل مواطن عرف مهدي الحاج حسن أن يقول ما يعرفه عنه، وأن يقدم شهادته في هذا الضابط الكفؤ والشهم والفقير بحيث إنه – برغم الثلاثين سنة من الخدمة وفي المواقع الحساسة غالباً – وبرغم رتبته العالية والتي تفتح لحاملها (لو شاء) أبواب الثراء على مصراعيه، لم يستطع أن يبني بيتاً (مجرد بيت) في شمسطار (وليس في الرابية أو المشرف أو النقاش أو خلدة أو دوحة عرمون)…
ولكن مواطن يعرف أن يشهد بأن هذا الفقير ابن الفقراء قد حفر الجبل بأبرة، وبنى نفسه بعرقه وكده وتعبه وسهر الليالي، ونال رتبته بكفاءته وليس بشفاعة أصحاب الشفاعة ممن تخلوا عنه، بل لعل بعضهم قد ساهم في إعداد الكمين له للخلاص منه.
للقضاء أن يقول كلمته،
لكن السياسيين وأصحاب الحل والربط في هذا البلد الأمين غالباً ما عطلوا القضاء أو لجموا حركته، أو حاولوا تسخير بعض العاملين في ميدانه لخدمة أغراضهم السياسية والتنفيس عن أحقادهم وإزاحة بعض “المتشددين” و”المزعجين” والممتنعين عن تسهيل الأمور، من مواقع “استراتيجية” يفضل أن يكون فيها من يتفهم “الوضع” فيفيد ويستفيد.
ومع كل الجهد المبذول لإغراق الناس في تفاصيل بوليسية فإن السياسية تطل من خلال قضية العميد مهدي الحاج حسن، أو إن الناس المستريبين بكل ما يقال ويعلن يرون أشباح ساسة وأصحاب مراكز قوى خلف ستار التحقيق،
إنها حبكة بوليسية ناجحة،
لكن السؤال عن الحقيقة وليس عن شطارة من حبكها،
والقضاء هو المرجع الصالح لاعلان الحقيقة، إلا إذا عطله “قدر” السياسة والسياسيين، لاسيما من ضلع منهم في التهريب والاتجار بالمخدرات (على الخطين وبالأنواع جميعاً).
وبقدر التخوّف من أن تكون الأغراض السياسية (المتماهية مع الأحقاد الطائفية والمذهبية) هي التي أوقعت بمهدي الحاج حسن، يتنامى الخوف من أن يرتدي الدفاع عنه الطابع الطائفي – المذهبي المموّه بالسياسة ذاته، فيدان هذا الضابط الكفوء مرتين… ويحرم تماماً من أية فرصة لاعلان براءته، إذ تغدو التهمة توريطاً والبراءة واسطة!
إن “الكبار” في عالم المخدرات معروفون، محلياً وعربياً ودولياً، واحداً واحداً، وبألقابهم المفخمة والمعظمة والعالية الرنين.
ولو إن العميد مهدي الحاج حسن منهم أو معهم أو على صلة بهم لما أمكن الاقتراب منه أو إثارة الشكوك حوله، فيكف بالإيقاع به؟!
… ونرجو أن يأخذ المحققون هذه الواقعة بعين الاعتبار،
ونرجو أن نجد لها صدى أو أثراً في الكلمة الأخيرة التي سنظل ننتظرها من القضاء وليس من جهة أخرى،
هذا مع التمني بأن يكون ما زال للقضاء حرمته لدى “الكبار” كما لدى المواطن المعرّض للظلم في كل لحظة، والذي بالكاد يستطيع الحصول على شهادة ببراءته من هؤلاء “الكبار” الذين يحكمون بقوة الحرب في حين كان يفترض أنه سيكون أقوى عليهم بالسلام.
… والسلام على من أتبع الهدى.

Exit mobile version