طلال سلمان

على الطريق شرعية “الشرعيين” وشرعية الشارعيين!

حسناً… لقد أمكن، أخيراً، وقف النزف القاتل، وتم أو يكاد يتم إطفاء الحريق الذي كان يتهدد بالفناء آخر ما تبقى من بيروت، بناسها وعمرانها وتاريخها، وبالتالي آخر ما تبقى من رموز المدينة – العاصمة – الدولة – مشروع الوطن الواحد الموحد في انتمائه كما في مصيره.
ولسوف تدخل اليوم قوة من الجيش العربي السوري، توطد – باسم الشرعية ولحسابها، من حيث المبدأ – النظام في العاصمة، وتضمن أمن المواطنين وسلامة ما تبقى من مقتنياتهم وممتلكاتهم (إذ توجت حرب الزواريب الوحشية بحملة خطف وسلب ونهب وابتزاز وسرقات منظمة شملت أوسع رقعة ممكنة من الأحياء المنكوبة بتواجد المسلحين فيها)..
إذن، سوف يكون الغد يوماً آخر ونقطة بداية لمرحلة جديدة في عمر هذه المدينة العريقة التي احتلت مكاناً مميزاً على خريطة التقدم الإنساني، فكانت وما تزال مركزاً ومرصداً ومنبراً للتيارات والاتجاهات والإبداعات عز نظيره في الدنيا،
وإذا كان من المبكر أن نحكم على أو نحدد طبيعة هذه المرحلة الجديدة فإن تعاقب الأيام وتبدل الأحوال لن يُسقط ولن يلغي عشرات الأسئلة والهواجس المتوالدة كالفطر في أذهان اللبنانيين، بل لعلها جميعاً تسهم في تحديد من ينتظرنا أو ما يتوجب علينا أن نتوقعه، فلا شيء يأتي من الفراغ ولا بد من والدة لكل مولود.
ومؤكد إن السعي لتوفير إجابات منطقية مقنعة، أكيدة أو محتملة، لتلك الأسئلة والتساؤلات والهواجس، يعزز “المشترك” بين اللبنانيين عموماً في هذه اللحظة وهو إحساسهم إنهم أمام فرصة تاريخية حاسمة يُخشى أن يضيعوها كما أضاعوا سابقاتها نتيجة لقصر النظر أو لتفاهة التقدير أو لحمى المزايدات والمناقصات بين قياداتهم السياسية وتنظيماتهم الانكشارية المسلحة.
بين تلك الأسئلة، على سبيل المثال وليس الحصر:
*- إن “الجبهة اللبنانية” ومعها بل وقبلها “القوات اللبنانية”، قد أثارت موضوع “شرعية” الدخول السوري إلى بيروت، فطرحت عبره، ربما دون أن تدري أو دون أن تقصد، موضوع الشرعية على إطلاقه، في لبنان اليوم.
هل رئيس الجمهورية بظروف انتخابه المعروفة “شرعي”؟!
هل مجلس النواب بالتمديدات المتوالية لذاته “شرعي”؟!
هل الحكومة التي لا تجتمع ولا تشكل مجلس وزراء وتسير أمور وزرائها ومنافع أصحابهم بـ “المرسوم المتجول” شرعية؟!
هل الجيش، بأوضاعه المعروفة، قيادة وألوية ومؤسسات، شرعي؟!.
ثم من يقرر شرعية الشرعي من غير الشرعي بين هذه المؤسسات التي نتواطأ جميعاً على اعتبارها شرعية ثم ينكر عليها كل طرف ما لا يتلاءم مع أغراضه من شرعياتها المزيفة؟!.
ربما لهذا اكتفى الرئيس أمين الجميل بتسجيل اعتراض مبدئي على “لا دستورية” طلب الدخول السوري، في حين ذهب سمير جعجع “الشرعي” حتى العظم، بشخصه وبتنظيمه، إلى حد التلويح بإمكان استخدام “السابقة” لاستقدام قوات إسرائيلية بطريقة “شرعية”،
وربما لهذا ينصح الناصحون بإقفال هذا الملف حتى لا تسقط أوراق التوت الأخيرة عن عورات الجميع،
فبيروت لم تسمع، وهي تحترق، كلمة عزاء واحدة، لا من رئيس الجمهورية الذي كان يجول بين العواصم الراقية البعيدة، ولا من أقطاب “الجبهة” أو “القوات اللبنانية”، اللهم إلا كلمات الشماتة والتشفي والاستقواء بخطأ الانكشارية هنا لتبرير تمادي الانكشارية هناك في أخطائها الأحسن تنظيماً والأرقى في أسلوبها!
وبيروت أغلى من الشرعيات جميعاً، وكذلك لبنان،
وقلامة ظفر في سبابة طفل أغلى من دساتير الأرض، شرقاً وغرباً، وأغلى بالتأكيد من الجبهات والقوات والأحزاب والتنظيمات والميليشيات المفلسة سياسياً والغنية جداً بمنهوباتها من أموالنا وأرزاقنا وثروات بلادنا ومواردها.
*- إن التنظيمات المتسببة أو المتورطة في حرب الزواريب قد أقرت بذنبها ومسؤوليتها ثم جلست إلى طاولة المفاوضات تشارك في صياغة الحل، الحل لمعضلتها هي أولاً، وكأن شيئاً لم يكن وبراءة الأطفال في عينيها!!
ولأن مسلسل حروب الانكشارية كان دائماً ينتهي بـ “فتح صفحة جديدة” و”طي صفحة الماضي السوداء” عملاً بحكمة “عفا الله عما مضى”، أو تمثلاً بالقول المأثور “من كان منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر”.. فإن أحداً لم يحاسب أحداً، وظل المواطن وحده يدفع الحساب عن الجميع، مع كونه يؤدي الحساب بانتظام لكل من تناوب على الحي من الانكشارية الأشاوس،
ولكن كيف يمكن أن يستعيد الحزب صورته الأولى إذا هو لم يجهز على الميليشيا التي خرجت أصلاً من رحمه، وارتكبت المعاصي باسمه، وغطت على مخازيها بشعاراته البراقة؟!
وهل تستطيع هذه القيادات التي رعت الميليشيات وحمتها واستخدمتها في أداء المهام القذرة، أن تقتل الآن الوحش الذي ربته وأطلقته على المواطنين يفتك بهم فتكاً؟!
وهل إذا ما أقدمت على ذلك يبقى لها، من تاريخها في النضال السياسي (؟!) ما يبرر استمرارها كقيادات مسؤولة أيضاً عن مستقبل العباد والبلاد؟!
ومن هي الجهة المؤهلة أو القادرة على إلزام هذه القيادات بإجراء مراجعة نقدية للتجربة تستنقذ عبرها نفسها والحزب الأصلي، وتستنقذ بالتالي مشروعية الصراع السياسي بقوانينه المعروفة والتي تشكل ركائز الديموقراطية والحريات السياسية؟!
إننا لا نخاف على القيادات، ولكننا نخاف منها بالذات، ثم من بؤس تجربتها على مصير الحريات بما هي المبرر الأساسي لوجود الكيان اللبناني.
ومع إننا لسنا في عداد المتحمسين لهذا الكيان فإن أخشى ما نخشاه الآن هو أن نفقد – بافضال قياداتنا المجيدة وانكشاريتها – ما كان يصنف في عداد المزايا لهذا الكيان ولا تتبقى لنا غير عيوبه ومخازيه وأهمها مجافاته للوطنية وللقومية وموجباتها الطبيعية.
إننا نخشى أن يصيبنا مع الكيان ما أصابنا مع النظام الفريد: ننعم بسلبياته، كمواطنين، ويتنعم الأمراء بخيراتهثم يحاضرون فينا ويمنون علينا بإدامة ظله الوارف!
*- إن، مسلسل الحروب بين انكشارية الزواريب، إضافة إلى “الانتفاضات” في قلبها، قد دمر مؤسسات العمل الشعبي جميعاً أو عطل دورها،
فالحزب كان عطل العمل النقابي وحجر عليه في إطاره، ثم جاءت الميليشيا فعطلت الحزب، ثم جاء “الأمن” فعطل الميليشيا الخ.
وبغض النظر عن مدى الصح والغلط في برامج الأحزاب أصلاً، ثم في تركيبها، فإن هذه التحولات، ثم “الإنجازات” التي ارتكبت باسمها ميدانياً، قد نفرت منها “الجماهير” حتى صارت تهمة من التهم المشينة، وصار طبيعياً أن نسمع المواطن العادي يختم صلاته بالدعاء: اللهم نجنا من الشرير وارحنا من الأحزاب جميعاً، آمين!
ومع وعينا الكامل لقصور البرامج الحزبية المطروحة،
ومع اعتراضاتنا المبدئية على بعض التنظيمات الطائفية أو المذهبية التي تحمل “لافتات” الأحزاب وتتسمى بأسمائها، فمن البديهي أن نتمسك بحق العمل الحزبي، لكل الناس، تمسكنا بسائر حقوق المعتقد والتفكير والتعبير.
ومن الواجب أن نتصدى جميعاً لهذه الموجة من التشهير بالأحزاب والحزبيين والعمل الحزبي، ليس لأنها متجنية أو حاقدة أو انفعالية، بل لأنها، تجسد نزعة انتحارية تحول لبنان إلى شلو، أي إلى جسد بلا روح،
فأي قيمة للبنان بلا حركة جدل، وبلا صراع سياسي وفكري مفتوح،
وإذا كان الخطأ في برنامج هذا الحزب أو ذاك فليس الحل بتعطيل العمل الحزبي، أو التنظيم الشعبي، أو بإلغائه وتحويل المواطنين إلى قطيع أمنه أعز عليه من أمنياته، وأكله أغلى عليه من أفكاره، وأثات بيته أثمن عنده من حقه في التعبير عن نفسه، أي عن صياغة حياته ومستقبله بحرية تامة وباختياره الحر لما يناسبه ويتناسب مع ظروفه ومصالحه من التيارات الفكرية وأشكال التنظيم الشعبي.
وبقدر ما علينا أن ننقذ الشرعية من لا شرعيتها تمسكاً منا بمؤسسات الحكم البرلماني الديموقراطي، فإن علينا أن ننقذ الحزبية من الحزبيين وخطاياهم المميتة تمسكاً منا بمؤسسات العمل الشعبي.
بهذا المعنى علينا أن نقاتل أمين الجميل بأمين الجميل، وحسين الحسيني بحسين الحسيني، ورشيد كرامي برشيد كرامي، ونبيه بري بنبيه بري ووليد جنبلاط بوليد جنبلاط وجورج حاوي بجورج حاوي والجعاجعة بالجعاجعة ناهيك بالشماعنة.
شرطنا الوحيد أن يتخلى “الشرعيون” بقوة السلاح عن سلاحهم حتى نتمكن من إنقاذهم، من أنفسهم ومن إنقاذ أنفسنا منهم،
فالسلاح قد ألغى شرعيتهم على مختلف المستويات، ولا يمكنهم أن يستعيدوها إلا إذا تخلوا عنه،
ومتى تخلوا عن السلاح يمكن للمواطن أن يقول رايه في شرعياتهم جميعاً، بالأسلوب الديموقراطي، فلا يبقى منهم إلا القوي بإرادة الناس وبتعبيره المباشر عن مصالحهم وطموحاتهم.
ربما لهذا علينا أن نجبرهم على خيار محدد: السلاح أو الشرعية،
ولعل دخول هذه القوة من الجيش العربي السوري ، بما هو فرصة لتعطيل السلاح وإلغاء دوره في قهرنا، يعطينا جميعاً المجال لمثل هذا الخيار بما هو شرط لإعادة بناء لبنان الذي هدمه الانكشاريون، دولة ومشروع وطن.
فلنفترض إننا نشهد ولادة فجر جديد،
ولنتصرف على هذا الأساس، حتى لو كان افتراضنا حلماً،
فالأحلام هي المقدمات لصنع الحقائق الكبيرة.

Exit mobile version