طلال سلمان

على الطريق سياسة الأمن ولا قضية

سقطت “السياسة” سهواً (!!) من الحياة العربية،
ارتحل بعضها عبر المفاوضات مع “العدو” الإسرائيلي إلى وزارة الخارجية الأميركية في واشنطن،
وتم تهجير بعضها الآخر عبر الحصار المضروب على عدد من الأقطار العربية (ليبيا، العراق، السودان و… الصومال!) إلى وزارة الدفاع الأميركية وملحقاتها كالبنتاغون ووكالة المخابرات المركزية ، في واشنطن أيضاً،
أما القرار السياسي فقد صودر معظمه وأخذته إسرائيل رهينة، لاسيما بعد المفاوضات عموماً وبالذات منمها اتفاق غزة – أريحا وملحقاته الأمنية المستمرة فصولاً.
فجأة بدت هذه الأرض العربية الواسعة وكأنها “أرض فضاء” أو مشاعات أو غابات تصطرع فيها مجموعات من “المسلحين” بلا هدف إلا السلطة، ومن أجل السلطة “يتعاونون” على تدمير البلاد.
لم تعد الأمة الواحدة أمة واحدة أو أمماً شتى، بل باتت مجموعة من الأقوام والشراذم والطغاة والسفاحين والإرهابيين، كلهم يحترفون العنف ويقتلون من كانوا في الماضي خارج دائرة الإعدام، إما لحصانة من علمهم أو إبداعهم الفني أو منزلتهم الثقافية في مجتمعهم.
ولم تعد “الدولة” في معظم الأقطار دولة واحدة، بل تعددة مراكز القوة والنفوذ فيها بحيث بات لكل مجموعة مسلحة “دولتها”، فطارت الدولة المركزية مطيّرة معها وحدة الشعب والأرض والمؤسسات.
وعبر الصدامات اليومية الدامية تم مسخ كل ما هو “سياسي” إلى “أمني”، وتهالكت القضية الجامعة، حتى كادت تندثر ، بل هي تحولت – عملياً – إلى مزيج غريب من العبء المضني والمهزلة المبكية، ووقف “العرب” على أطلالها يبكون ويستبكون، ثم يسخرون من تراثهم وتاريخهم ويؤكدون ضرورة التخلص منه لكي يمكنهم دخول العصر… في ظل السلام الإسرائيلي الآتي باسم النظام العالمي الجديد!
الأرض العربية مخضبة بدماء أبنائها التي تسفح بلا انقطاع،
والقبور مفتوحة دائماً لاستقبال المزيد من الشهداء المنكورة عليهم شهادتهم والمتساقطين في أربع رياح الأرض العربية كالهوام، يُدفنون بغير مشيعين ولا يقبل فيهم عزاء ويكاد ينكرهم ذووهم حتى لا يلحقوا بهم تأديباً وتهذيباً وبقصد تطهير المجتمع من الفاسدين المفسدين.
“الأخبار” المتداولة، يومياً، عما كان يسمى “الوطن العربي” هي أخبار أمنية.. أما ذلك “الوطن” فقد بات الآن مجموعة من “المجاهل” و”الأدغال” و”الآبار” التي تنتظر الانتظام في الخريطة قيد الطبع للشرق الأوسط الجديد،
لا سياسة، لا صراع، فقط اقتتال، قتل، اغتيال، نسف، تفجير، كمائن، سجون ومعتقلات، مجازر منظمة أو مطلقة بين متطرفين يطلبون رأس السلطة فتقطع السلطة رؤوسهم بطرف سيفها البتار.
لا سياسة، فقط هناك تمسح بذكر الله سبحانه وتعالى. فالاغتيال من أجل نصرة كلمته، والإعدام من أجل توكيد عدالته. والسلطة كافرة وخارجة على طاعة الله، في نظر معارضيها، بينما هؤلاء في نظرها سفاحون وقتلة أعماهم الغلو والتطرف (أو العمالة) فجعلهم يعملون للشيطان!
أين السياسة في الصراع الأبدي مع إبليس اللعين؟!
ولمحاسن الصدف فإن هذه الأحداث المفجعة تتوالى عشية “السلام” الإسرائيلي الموعود، لتؤكد صورة إسرائيل كدولة متحضرة ذات سياسة وعدالة وقانون، ولتعطي عن “العرب” صورة الهمج المتخلفين محترفي القتل للقتل!
بل إن “السلام” نفسه يغدو “قضية” لإسرائيل في حين أنه “فضيحة” للعرب، إذ ظهروا وكأنهم عاجزون عنه عجزهم عن الحرب لما كان يسمى “التحرير”.
ثم أن القتل بلا هوية: فهو في إسرائيل مسألة أمنية، كما هو في مصر والجزائر والسودان والعراق ولبنان (مؤخراً) مسألة بحت أمنية،
ومع توقيع قيادة منظمة التحرير الفلسطينية على اتفاق أوسلو، يغدو الفلسطيني في الداخل، “قاتلاً” أو “مقتولاً”، ولكنه في الحالين بلا قضية،
ومع توالي المذابح في العديد من الأقطار العربية لا تبقى لإسرائيل صورة “قاتل الفلسطينيين” خاصة، والعرب عموماً، بل تظهر الأنظمة أقسى على العرب من محكوميها وأكثر فتكاً بهم من عدوهم الإسرائيلي،
ومن خلال الاتهامات المتبادلة في ما بين السلطة القاتلة والمعارضة القاتلة تسقط صفة العداء عن العدو ليتوزعها أبناء الشعب الواحد حاكمين ومحكومين.
فالقتلة العرب، حكاماً كانوا أم محكومين معترضين على حكوماتهم، يسفحون من دماء إخوتهم الأقربين أكثر مما يسفح العدو الإسرائيلي من الفلسطينيين الخاضعين لاحتلاله.
إنها صورة مأساوية مفجعة، لكنها تشهد محاولات يومية لتثبيتها في الأذهان، في الداخل والخارج، عن عرب أواخر القرن العشرين.
وهي صورة تلغى الأمة، الشعب، النضالات، القضية، الشعارات والمطامح، الأرض، الحق، لتؤكد عدم أهلية هذه “الأقوام” لأن تحكم نفسها بنفسها فكيف بأن تقاتل إسرائيل باسم التحرير؟!!
الحكومات تقول عن “شعبها” أنه مجموعات من الإرهابيين والقتلة المضللين أو المختوم على أبصارهم بالتطرف.
و “الجماعات” تقول عن حكوماتها أنها عصابات تأتمر بأمر الكفرة في الخارج وتحترف القتل الجماعي لتأخير انتصار الحق وإنفاذ كلمة الله.
في هذا الوقت يستمر الدم المهدور في التدفق حتى لتخضل به الأرض العربية من خليجها إلى المحيط.
وطالما أن المسألة أمنية، إذن فهي محلية،
وما العلاقة بين حادث أمني في الجزائر “ذهب ضحيته” مائة قتيل، مثلاً، وبين اشتباك بين قوات الأمن و”أصوليين متطرفين” في القاهرة أو في أسيوط سقط بنتيجته عشرات القتلى والجرحى؟!
ثم ما العلاقة بين إقدام مستوطن إسرائيلي “مخبول” على ارتكاب مذبحة في الحرم الإبراهيمي بمدينة الخليل في فلسطين المحتلة، وبين “تبرع موتورين” بزرع عبوات ناسفة في كنيسة سيدة النجاة في ذوق مكايل، عند مدخل جونيه، عاصمة كسروان اللبنانية؟!
إن كل طرف يحاول حماية أمنه بالوسائل المتاحة له،
وإسرائيل لا تضرب إلا من يهدد “أمنها الوطني”، فهي ترد عن نفسها “إرهاب المتطرفين”، تماماً مثلها مثل الأنظمة العربية المستهدفة بالتطرف والتي تطارد المتطرفين عندها بالرصاص في الشوارع،
بهذا المعنى يغدو “الأمن” قضية سياسية من الدرجة الأولى لحماية “الدولة” الإسرائيلية، خصوصاً وإنها تكاد تبدو الدولة المركزية الوحيدة في هذا الفضاء البدوي والمشاع المسكون بالهمج والمتخلفين والمسمى “الشرق الأوسط”.
وبهذا المعنى أيضاً يبدو الأمن وكأنه اللاغي للقضية عند العرب، فبذريعة الحفاظ على أمن النظام يخرج الجميع من القضية عبر بحر من دماء العصاة المتسترين وراء شعارات الدين الحنيف.
“الأمن قبل الرغيف”،
ذلك الشعار “اللبناني” المقيت صار الآن الشعار الرسمي المعتمد في كل هذه الدنيا التي أفقدها عجزها عن حفظ أمنها القومي حاضرها، ويكاد يفقدها الآن مستقبلها.
إنه الإعلان عن دخول عصر الحرب الأهلية المفتوحة والتي لا ينهيها إلا “السلام” الإسرائيلي، ومن هنا تقدم إسرائيل الأمن على السلام،
أما العرب فيطلبون سلام العدو لعله يجيئهم بالأمن المفقود.

Exit mobile version