طلال سلمان

على الطريق سنبقى هنا معه

أما وقد تحولنا – بالقوة القاهرة – من منابر إلى مقابر، ومن دعاة إلى رتاة ومن مبشرين بالأبهى والأجمل والأفضل والأبقى إلى “أوراق نعوة” نضيف مع كل صباح أسماء جديدة إلى القائمة الطويلة للذين سقطوا من قبل.
أما وقد تبلد، في عصر القهر، حسناً وتصخرت عواطفنا وامتنع علينا الحزب كما امتنعت علينا الفرحة، وبتنا مجرد منتظرين لقطار الموت الآتي في كل لحظة ومن أي اتجاه، في زمن استقواء القتلة وهيمنتهم والفلتان الأمني المريع.
أما وقد اغتالوا ماضينا وخربوا علينا حاضرنا ليدمروا مستقبل أطفالنا والأجنة.
أما وقد جعلونا مجرد شهود زور لما يجري لنا جهاراً نهاراً وفي عز الصبح.
أما وقد امتدت أيديهم إلى الرأس هنا والقلب ومنبع الإيمان بالذات والدور والرسالة.
فليسمح لنا، إذن، أن نرثي رياض طه في كل واحد منكم، بقدر ما كان موجوداً في كل واحد منكم.
إننا ننعي إليكم، يا أخوتنا في الموت، كل من وما تبقى لكم!
ننعي إليكم أنفسكم: فرداً فرداً، بمن فيكم النساء والأطفال والشيوخ، وأسرة أسرة، وجماعة جماعة، حيثما كنتم ولأي طائفة انتميتم وحيثما تواجدتم من مواقع العمل والإنتاج.
ننعي إليكم، يا أخوتنا في الموت، أنفسنا، :قلما قلماً وفكرة فكرة ورأياً رأياً، نقباء كنا أو كتاباً محررين أو مصورين أو رسامين أو حتى باعة صحف.
فدماؤنا، جميعاً، مهدورة ومسفوحة على إسفلت الشوارع وبلاط الأرصفة، لا يعصمها اعتداء ولا يحميها تطرف، ولا تمنعها الموافقة ولا يحفظها الصمت وابتلاع الكلمات المفيدة.
ننعي إليكم الورق والأحبار والحروف والمطابع وكل ما ينير العقل، ففي عصر الظلم والظلام هذا، عصر الردة والتردي، عصر أنور السادات وسعد حداد، تصبح الشموع والمصابيح من المحظورات، ويعدم التاريخ رمياً بالرصاص وتلغى الجغرافيا ليفتح الطريق فسيحاً أمام المتآمرين على الأمة وأعداء الغد الأفضل، يستوي لديهم الفكرة والزهرة ولثغة الأطفال والشوق إلى حياة تليق بكرامة الإنسان.
ننعي إليكم رياض طه: الرجل الذي كرمه جناته بأن جعلوه يموت في اليوم الذي دعا دوماً إلى اعتباره عيد ميلاد جديد للأمة: 23 يوليو.
ونفهم جيداً أن الذين اغتالوا ثورة 23 يوليو هم هم الذين اغتالوا رياض طه، بغض النظر عن الأداة المستخدمة، وهم هم الذين يتابعون الحرب القذرة لإبادتنا جميعاً وتسليم بلادنا كلها إلى العدو الأميركي – الإسرائيلي.
ننعي إليكم الفتى الأغر الذي قدم من الهرمل أعزل إلا من قلم وإيمان بالإنسان والكلمة فإذا به يقتحم صدر الحياة ويسطر صفحة ناصعة في تاريخ النضال الوطني والقومي مهرها أمس وصدق عليها بآخر ما يملك: دمه.
لقد بدأ رياض طه حياته مقاتلاً ضد الظلم والظلام، ضد الإقطاع والرجعية، ضد الجهل والتعصب، ضد الطائفية والعشائرية وترسبات عصور القهر الاستعماري الطويل،
واختار بوعي السلاح الأمضى لمعركة بهذه الشراسة: القلم والفكر والإصرار على الوصول إلى عقل الإنسان بدلاً من استغلال غرائزه سلماً للوصول،
كذلك اختار بوعي موقعه: فمع انبلاج فجر الثورة العربية، ثورة عبد الناصر، واكبها داعية ومبشراً ومحرضاً منادياً بمقاطعة اقتصادية شاملة للدول الاستعمارية (لاسيما إبان العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956) وبجعل “نفط العرب للعرب”، واعياً الارتباط العضوي بين التحرر السياسي والتحرر الاقتصادي،
ولقد جاء على رياض طه يوم اختلف فيه مع منفذي سياسة عبد الناصر، لكنه لم ينتقل إلى الضفة الأخرى، ولم يبع نفسه للشيطان، ولم يكن جماهير الفلاحين في ريف بعلبك – الهرمل الذين رأوا فيه وعداً بغد أفضل فأعطوه قلوبهم قبل أصواتهمز
وعبر الاختلاف مع الآخرين، حكاماً ومحكومين، تزايد إيمان رياض طه بالحريات والديمقراطية وحق الجميع في التعبير عن آرائهم بلا قهر ولا عسف، وهكذا استطاع أن يجعل نقابة الصحافة مؤسسة للحرية ونموذجاً عز نظيره للوحدة الوطنية الحقة في بلد انهارت فيه المؤسسات جميعاً، وبالذات تلك التي تعتمد في وجودها على الفكر والرأي والعقل بدلاً من العبوات الناسفة والمسدسات الكاتمة للصوت والساعات الحمراء.
ننعي إليكم، يا أخوتنا في الموت، أنفسكم وأنفسنا في شخص رياض طه،
فهو يحتل مكاناً دافئاً في صدوركم جميعاً. أنه فينا، أليف لعيون أطفالنا، ورمز لكثير مما نحب: الطيبة، الدماثة، الخلق، حب الخير للآخرين، والإيمان بالديمقراطية.
وربما من أجله، ومن أجل ما آمن به وما عمل له طوال حياته، بل من أجل من تبقى منا نحس أن علينا أن نتصدى للموت، وأن نقاومه حتى نهزمه، برغم فداحة الثمن المطلوب.
علينا أن ننتصر للحياة، أن نقف على أقدامنا، أن نرفع أصواتنا، أن نكتب ونكنتب ونكتب مبشرين بالغد الأفضل الذي يفترض فينا أن نصنعه بأيدينا، بإصرارنا على البقاء والاستمرار، بإيماننا بالحياة والإنسان.
إنهم يريدون إبادتنا، نعرف ذلك، ومع ذلك سنقاوم وسنهزمهم.
أنهم يريدون إخراسنا، لكننا لن نبتلع ألسنتنا، ولن نرحل، ولن نهاجر إلى حيث يريدوننا أن نكون : بعيدين عن شعبنا وأمتنا، قريبين منهم وفي متناول أياديهم الطويلة.
أننا ها هنا باقون،
وبين مزايا رياض طه أنه بقي هنا، وها هو ينغرس الآن في الهرمل ليبقى فيها كما العاصي وشجر الجوز والشمس الحارقة الضوء.
وسنبقى معه، مع لبنان الوطن العربي الديمقراطي، ولو كره الكارهون.

Exit mobile version