طلال سلمان

على الطريق “سلام” أغلى من الحروب!

إذا استمر الحال على هذا المنوال، فقد يكون “مؤتمر السلام” أبهظ في كلفته على العرب من مجموع الحروب التي خاضوها – مضطرين – مع إسرائيلن منذ إقامتها – بالقوة – على أرض فلسطين في العام 1947 وحتى اليوم.
فبين إطلاق مبادرة بوش، وفي أعقابها خطة بيكر لتحريك فكرة “مؤتمر السلام” وبين اليوم تكبد العرب خسائر فادحة لا يمكن تعويضها لا بالأرض ولا بالسلام، هذا إذا أمكن استعادة هذا أو تلك، وهم ما زالوا يسجلون مزيداً من الخسائر الجوهرية، يومياً… كل هذا والمؤتمر العتيد معلق بعد في انتظار القرار الإسرائيلي الأخير المرتبط عضوياً بالموقف الأميركي ولا شيء إلاه.
ماذا خسر العرب؟!
قد لا يكون المؤتمر هو السبب المباشر، لكن فكرة المؤتمر أطلقت بينما العرب يعانون سكرات الهزيمة الساحقة التي مُنوا بها في حرب الخليج، نتيجة المغامرة البائسة لصدام حسين في الكويت.
وهكذا جاءت الدعوة و”العرب” أعجز من أن يحاربوا، وأضعف من أن يفاوضوا، وأكثر انقساماً من أن يرفضوا، وأعظم شعوراً بالهوان من أن يوقعوا ولو منفردين معاهدات الصلح المنفرد بالشروط الإسرائيلية.
كان آخر رباط بين العرب قد تمزق واندثر في غمار حرب الخليج التي دفعوا الغرم فيها كاملاً، وحُرموا من المشاركة في أي من المغانم والأسلاب.
ليس ثمة “عرب” الآن. كل يعرف باسم كيانه صريحاً وبغير تمويه. المصري مصري، والأردني أردني، والسوري سوري، الفلسطيني هو وحده الضائع المضيع لأن “الحقوق” لا تقيم له كياناً. و”الشرعية الدولية” لا تعترف بالحقوق المشروعة مطلقة من غير أرض ولا هوية سياسية.
ثم إن “العرب” قبائل شتى محتربة، وكل منهم مستعد أن يضحي بالآخر من أجل استنقاذ راس نظامه السياسي والحصول على شهادة حسن السلوك من الأميركي كبوليصة تأمين في وجه التهديد الإسرائيلي.
وعلى هامش حرب الخليج وبذريعتها طرد بعض “العرب” الفلسطينيين كبشر من “دولهم”، وأسقطوا – عملياً – اعترافهم بمنظمة التحرير الفلسطينية التي تشكل منذ 27 سنة الكيان السياسي للشعب والقضية، وتخلوا عن أي التزام بموجبات التحرير واستعادة الأرض السليب، وتناسوا حكاية الصلاة في القدس الشريف.
بل إن العرب بدأوا يجهرون برفض بعضهم بعضاً،
فالسعودية التي استماتت في استقدام القوات الأميركية والأطلسية كانت المبادرة إلى طلب خروج القوات العربية التي بادرت إلى نجدتها ووقفت إلى جانبها في مواجهة أطماع صدام حسين التي لم تخدم إلا الأجنبي.
ودول مجلس التعاون الخليجي، عموماً، التي وقعت مكرهة على “إعلان دمشق” في آذار الماضي، لم تلبث أن أسقطت هذا الاعلان وموجباته، ولاسيما الشق العسكري منه والذي ينص على اعتبار القوات المصرية – السورية نواة الدفاع (عربياً) عن أقطار الخليج، وسارعت إلى توقيع معاهدات حماية مع الولايات المتحدة الأميركية التي حلت أخيراً محل بريطانيا العظمى،
أكثر من هذا:
لقد بادرت هذه الأقطار “العربية” وفي سياق تنصلها من قضية فلسطين، وبالتالي من مواجهة إسرائيل، إلى إعلان خروجها عن مقتضيات الالتزام بقرارات المقاطعة العربية للمتعاملين مع إسرائيل،
بل هي ذهبت، سياسياً، إلى أبعد من ذلك بكثير، حين وافقت على أن تعلن واشنطن باسمها موافقتها على المشاركة في “مؤتمر السلام” العتيد، وبصفة “مراقب”، متخلية عن حقيقة كونها “طرفاً” ومنتقلة إلى الصف المواجه، بما يزيد في أرباح إسرائيل ويفاقم من خسائر العرب.
كل ذلك و”المؤتمر” ما زال مشروعاً قد لا يرى النور، وقد لا يعيش لينجب، حتى لو أمكن استيلاده بعملية قيصرية.
وبينما إسرائيل تربح، في السياسة كما في الاقتصاد، وتبيع كل موقف وكل تصريح، نقداً، من دون أن تلتزم تماماً بمشروع المؤتمر، أو بالعمل على إنجاحه، أو بنتائجه، إن كان له من نتائج،
… فإن العرب يدفعون كل يوم، وفي السياسة كما في الاقتصاد، الثمن المطلوب “لإقناع” إسرائيل، أو “للتخفيف” من تطرفها، أو “لاسترضائها حتى لا تنسف المؤتمر” من قبل أن ينعقد. فتراهم يصمتون عن المشاركة الفلسطينية، ويتساهلون في حديث صاحب الأهلية لتمثيل هذا الشعب العربي المنكوب، ويتحاشون أي ذكر لمنظمة التحرير وينبذون كلمة “التحرير” أصلاً وفصلاً،
لقد خسر “العرب” فلسطين من قبل أن يُعقد المؤتمر،
وهم قد عملوا كل ما في وسعهم حتى لا يغيب الفلسطينيون وفي الوقت نفسه حتى لا تكون مشاركتهم جدية.
فلا مؤتمر من دون الفلسطينيين،
ولكن لا نتائج جدية إذا كان التمثيل الفلسطيني جدياً ودوره أساسياً.
كذلك فإن العرب لم يستطيعوا حتى الساعة استعادة الحد الأدنى من وحدة المواقف، بل إن العديد من أطرافهم يجهرون بأنهم غير معنيين أصلاً بالصراع العربي – الإسرائيلي سواء أكان على الأرض أم على المياه أم على السلام العتيد.
وفي اجتماعات رسمية أعلن مندوبو أكثر من دولة عربية – صراحة – إنهم غير معنيين بكل ما يتصل بالقضية الفلسطينية!! وأنهم توقفوا عن مقاطعة المتعاملين مع إسرائيل الآن “لا مشكلة” بينهم وبين إسرائيل، خصوصاً وإن ليست لهم “حدود مشتركة” معها!!
برغم هذا كله، أو ربما بسبب هذا كله، لا تريد إسرائيل لهذا المؤتمر أن ينعقد، وخاصة أن ينجح وينتهي إلى نتائج ملموسة.
إنها تحاول أن تجلي باسمه وعلى حسابه أقصى حد ممكن من الأرباح من غير أن تلتزم بأي شيء.
وهي تخوض “حرباً” إعلامية وسياسية مع إدارة بوش حول بناء المزيد من المستوطنات، بأموال أميركية، وعلى الأرض العربية (طبعاً)، لتوطين المستقدمين الجدد من يهود الشتات بواسطة الجسور ا لجوية الأميركية… لكل ذلك من غير أن تتنازل قيد أنملة عن المكتسبات التي تحققت لها بفضل الضعف العربي العام والاستكانة العربية.
كل يهود الأرض إسرائيليون،
وليس بين المئتي مليون عربي من يتمسك بإعلان هويته العربية وحقه بالنطق باسم “العرب” أو يعمل وكأنهم أهل قضية واحدة.
إن إسرائيل تتدخل كأبشع ما يكون التدخل في الشؤون الداخلية للولايات المتحدة الأميركية، فلا تحد من موقفها عند حد، أو يلومها أو يؤنبها أو يتوسل إليها لوقف هذا التدخل غير المقبول،
وهي قد تدخلت وما تزال تتدخل في الشؤون الداخلية للاتحاد السوفياتي وتفرض على حكومته استصدار قوانين خاصة وتمد يدها من فوق رأسه إلى مواطنيه فتتعامل مع “يهوديتهم”، ولا تلقى صدا أو اعتراضاً،
وهي تتدخل في الشؤون الداخلية لأثيوبيا، وأريتريا والسودان، وأخيراً يوغوسلافيا، بغير أن يقول لها أحد “ما أحلى الكحل في عينيك”،
وبالمقابل فإن أصغر دول الأرض تتدخل في الشؤون الداخلية للبلاد العربية فلا تجد من يمنعها أو يوقفها عند حدها.
والضعف العربي ليس مجرد ربح إضافي لإسرائيل، إنه مصدر للخسارة في مواجهتها على النطاق الدولي.
إن العرب يخذلون أصدقاءهم ويخسرونهم، بقدر ما يخذلون أنفسهم ويخسرون من احترامهم لأنفسهم.
إن قوة إسرائيل هي الوجه الآخر للضعف العربي،
والسلام مع إسرائيل قوية بهذا القدر مستحيل.
وأبسط الشواهد هو القرار 425 الذي يعني لبنان،
فلو إن العرب تصرفوا بقدر أقل من الهوان والضعة واستشعار الضعف، لاضطرت الولايات المتحدة أن تسلك مع إسرائيل سلوكاً مختلفاً ربما أدى إلى تنفيذ هذا القرار المعتق للشرعية الدولية، ولو كجائزة ترضية لأصدقائها العرب ممن حررتهم… في الخليج!
كيف إذن متى انعقد المؤتمر وفتحت السوق للبيع والشراء؟!
هل سيكون قد تبقى لدى العرب ما يبيعونه ليشتروا به السلام الإسرائيلي في العصر الأميركي المموه بتسمية “النظام العالمي الجديد”؟!
وماذا تنفع الارض إذا ما عات لأهلها وقد باعوا معها أنفسهم ومستقبل أجيالهم الآتية؟!
وأي سلام هو ذلك الذي سيكون؟!
مصر – ليبيا
خطوة أولى صحيحة
بين الأخبار القليلة “المختلفة” عما ألفته الأذن والأفئدة في هذه الفترة الكالحة، الاعلان عن اتفاق مصري – ليبي يقضي بتوطين مليون فلاح مصري في منطقة “الوجه” في جنوب غرب ليبيا، عند حدودها مع تشاد والنيجر.
إن نظرة متعجلة لخريطة الجماهيرية العربية الليبية، بمساحتها الهائلة التي لا تتناسب أبداً مع العدد المحدود لسكانها، كافية لأن تدل إلى الخلل الديموغرافي الذي يمكن أن يتحول – في أي لحظة – إلى مصدر خطر سياسي وقومي، خصوصاً إذا ما قورنت بجارتها مصر حيث تحتشد عشرات الملايين على الشريط الأخضر الضيق الذي لا يعادل أكثر من خمسة في المئة من مساحتها الإجمالية التي تظل – بصحاريها – أقل بنسبة الثلث من مساحة الأرض الليبية.
الجغرافيا وحدها تقول بضرورة التكامل بين مصر والسودان وليبيا، لكن السياسة كانت حتى الأمس تقول غير ذلك بل وعكس ذلك، وقد شهد هذا المثلث المترابط في الجغرافيا كما في التاريخ، وفي الدين كما في ضرورات الحياة، سلسلة من الحروب الصامتة أو المعلنة كادت تفسد الحد الأدنى من علاقات حسن الجوار بين أبناء الأمة الواحدة.
وبعيداً عن الشعارات، فإن الوقائع الاقتصادية التي لا يمكن دحضها كانت تفرض على هذه الأقطار الثلاثة قدراً من التنسيق أو التكامل وصولاً إلى أي شكل من أشكال وحدة السوق والتعامل بمنطقها.
على إن الأغراض السياسية حولت الوحدة الضرورية إلى قطيعة مستمرة تخللتها اشتباكات قد تعنف فتغدو حروباً، وقد تمتد نيرانها إلى دول الجوار فتهزها وتفرض عليها الانحياز إلى الأقوى أو إلى الأغنى أو إلى وكيل الأجنبي المستفيد من أي حرب بين الأشقاء الفقراء.
لعلها البداية الصحيحة.
ولعلها تكون خطوة مدروسة ومحسوبة جيداً فلا تنتهي بفشل يشكل انتكاسة لهذا التوجه الصحي والصحيح.
لعل المخاطبة تكون للمصلحة وليس للعاطفة التي لعبت بها حتى استنفدتها الخطب الحماسية والنداءات المزيفة والدعوات الملحة التي يستخدم ظاهرها الوحدوي الشكلي لتبرير الاستراتيجية الانفصالية المقررة والمعتمدة فعلاً.
فالوحدة، ببساطة، هي اقتناع مواطنين عربيين بأن في علاقتهما المشتركة الخير لكليهما، وليس الخير لأحدهما على حساب الآخر، أو الضرر لكليهما من أجل تبرير سياسة حاكم ظالم يريد تصدير مشكلاته إلى جيرانه بدلاً من أن يحلها حيث يجب أن تحل وكما يجب أن تحل.
إن الليبيين يحبون مصر ويؤمنون بدورها القيادي ويتعاطفون مع شعبها الذي أعطى أمته الكثير من دمه ومن رزقه ومن أحلامه في مستقبل أفضل.
والمصريون يحبون شعب ليبيا ويحفظون للعقيد معمر القذافي وثورة الفاتح إنها شكلت نجدة عظيمة ومدداً هائلاً لمصر في أشد لحظات احتياجها إلى المساعدة (إن في حرب الاستنزاف أو في حرب العبور المجيدة الخ).
والمصالح المشتركة بين القطرين أكثر من أن تحصى ومن أن تقدر بثمن.
ولعل بين علامات السلامة في الخطوة الجديدة إنها مدروسة جيداً ومرتبطة ببرنامج زمني، وإن الدراسة غطت مختلف الجوانب، من الموقع إلى الاحتياجات إلى العامل النفسي إلى المبررات الاقتصادية إلى النتائج الاجتماعية الخ.
المهم أن يحافظ على رصانة التجربة، فلا تفسدها الاندفاعات العاطفية الجموح، ولا يتخذ “الرواد” منها أداة انتقام من سياسة مختلف عليها بين حاكمين قد لا يستطيعان الادعاء بأن ما يختارانه هو الأفضل للأمة.
المهم أن يعطى الناس فرصة إنجاح التجربة، فلا تتم بقرار يسقط من عل أو تنهى بقرار يسقط من عل ثم يبرر بأنها إرادة الشعب… أي “الناس اللي تحت”.

Exit mobile version