طلال سلمان

على الطريق سلاماً أيها العاصي!

… وكنت تريدنا، أيها الساذج، أن تشتري أو تستأجر واحدة من الجزر اليونانية، لكي نصدر منها صحفنا، ونقول فيها ما لا يسمح لنا بقوله في أي مكان من أرضنا العربية الفسيحة،
حسناً، لقد منحوك الآن، وبالمجان، جنان الخلد كلها، بأنهار اللبن والعسل فيها والحوريات،
فهم ليسوا من أهل الطمع، أنهم لا يريدون غير هذه الأرض الصغيرة الحقيرة، هذه اليابسة، أما ما بعد الأرض فلك ولأمثالك، بكل من وما فيه: خذوا القمر، خذوا النجوم والكواكب، خذوا الغيم السموات السبع، والشمس، وارتفعوا حتى تصيروا “قاب قوسين أو أدنى” من “سدرة المنتهى” ، خذوا الملائكة وعصافير الجنة، واتركوا لنا فقط هذه الحفنة من البشر الذين عصوا مولاهم فعهد إلينا بتأديبهم لعلهم يعقلون!
ألا ترى أنهم، أسيادنا، يؤثروننا على أنفسهم: يقتلوننا فيدخلون بنا النار ويوفدوننا إلى الجنة زرافات ووحداناً، فتكون لنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، ويكون لهم عذاب الدنيا وعذاب الآخرة وينتهمون في جهنم وبئس المصير، وهم راضون مغتبطون مستسلمون لقدرهم فلا يحزنون!
تريد شراء جزيرة ، يا رياض؟!
ألست تعلم أيها الساذج، إنهم يملكون الأرض ومن عليها وما حولها حتى أعلى عليين؟!
ألست تدرك أنهم اشتروا كل شيء في أربع رياح الكون: قلاع الهنود الحمر في أميركا، وقصور اللوردات والدوقات والنبلاء في أوروبا، واستعادوا – للمناسبة، الأندلس، والفنادق والمطاعم ومواخير اللذة، وصحف الفضائح ومجلات الجنس، والجزر والشواطئ والرمال والزبد والصدف وكلاب البحر،
… ولقد نصبوا على البوابات حرساً يهشون ببنادقهم على الفضوليين والحشريين وعابري السبيل، فإذا كابر مكابر نبح النابحون وأطلق المسلحون، وامتلأت الجدران بالملصقات السوداء تنعي شهداء الحق والواجب…
… وفي جملة ما اشتروا، أيها الساذج، المنافي البعيدة في ما وراء البحار،
أراك تبتسم متفرضاً فيهم سذاجة كالتي فيك وفينا، في حين انهم أدهى الدهاة وأمكر الماكرين وأبعد الخلق نظراً: لقد قدروا إننا قد نهرب من جورهم، كما فعل الأجداد، لنقول فيهم رأينا ولو من بعيد، بأمل أن يوقط النائمين والمساهمين والمخدرين أو أبناءنا الآتين،
وهكذا بادروا إلى شراء كل منفى محتمل، وما عجزوا عن شرائه وهبوه لإسرائيل،
هاك القاهرة يحاولون أن يقسروها على أن ترطن بالعبرية،
أما باريس ولندن وروما وبروكسل وفيينا فتتكلم العربية جميعاً،
وأما عواصمنا فلغة القصور فيها هي الإنكليزية بلكنة صانع حضارة القرن العشرين: الكاوبوي! والبازار مفتوح: ما باع سلم، ومن أبى واستكبر عالجه كاتم الصوت أو الرشاشات التي أخرسوا بها صوتك.
البازار مفتوح ولكل أنواع البضائع والزبائن: الأحزاب والجمعيات، الضمائر والذمم، المصائر وأسباب الوجود، الحكام والدول والخيام التي تريد أن تصبح دولاً،
على أنهم حفظوا لنا مقامنا فجعلوا للأقلام أعلى الاسعار وبالعملات الصعبة علينا المتهاطلة عليهم حتى ليعجزوا عن إحصائها فكيف باستثمارها وتشغيلها وتوظيف العوائد؟!
ولقد كرمونا أكثر فاعطونا الخيار بين الأقصيين: البيع أو الشهادة، من رفض الملايين لم يكلفهم غير ملاليم وعذرهم بين ومقبول: لقد عرضوا فلم يبخلوا لكن الأحمق اختار أن يمشي إلى حتفه بأقدامه فكان ما أراد، والرافض أظلم!
كنت تحلم بجزيرة صغيرة يسورها البحر والغربة وأعجمية المحيط،
حسناً، ها هم يمنحونك الجنان التي لا يحدها بصر ولا يطال مداها الخيال.
وكنت تريد أن تقول القليل ولجمهرة من الناس تقصدهم فيسمعونك،
حسناً، قل الآن كل ما تريد، ودفعة واحدة، ولطوابير الملائكة الذين يحفون بك حيث أنت،
ما يهمهم إنك ليست على الأرض، ولست مع أبنائها (وهم على أي حال أهل فناء)،
وما يطمئنهم أن الملائكة لا يقرأون ولا ينفعلون ولا يعترضون ولا يثورون، بل هم في شغل من العبادة والتسبيح بحمد الله يشغلهم عما عداه،
قل رأيك الآن، يا رياض،
قل رأيك الأول. قل رأيك الأخير. قل كل ما كان يتلجلج به لسانك فلا ينطق به ولا نحن نسمعه ولو نطقت به، خوفاً وفرقاً وقزعاً مما نرى ومما لا نرى.
ها نحن أولاء بين يديك، في الارض التي انبتتك والتي أحببتها حتى العبادة، وبين السذج أمثالك وأمثالنا ممن صدقوك فمشوا خلفك تاركين دنيا الليل إلى الشمس،
ها نحن هنا، في الهرمل، يا رياض فقم بنا خطيباً وأنت أول من عرفته هذه الأرض خطيباً، قم فحرضنا وأخرجنا من جلودنا كما أخرجت الناس هنا من جلود الاستكانة والخنوع والاستسلام لقدر التخلف،
لقد ضاقت بنا جلودنا، يا نقيب، وتضاءلنا في عيون أطفالنا حتى كدنا لا نستحق منهم غير الشفقة، إننا نراهم، منذ اللحظة، يهزون رؤوسهم يمصمصون شفاههم قائلين فليرحمهم لله، إنهم الآن لا يستحقون غير الرحمة، ولكن أما كان بإمكانهم أن يتركوا لنا غير الذي نحن فيه؟! فإذا كانوا أعجز من أن يغيروا واقعهم فلماذا إذن ولدونا؟! انستحق منهم – ونحن فلذات أكبادهم – كل هذا الشقاء المقيم؟!
كنت تحلم بجزيرة صغيرة في المياه الإغريقية، تحولها إلى منبر للرأي والراي الآخر ومنطلق للكلمة الحرة المحررة،
كنت تريد أن نشتري ، بقوت أطفالنا، بعضاً من ديمقراطية الآخرين، كأنما الديمقراطية تباع وتشترى أو تستعار من الغير،
ألست تعرف، أيها الساذج الذي طاف العالم كله تقريباً ،أن لا مكان لأمثالنا في هذه الدنيا الفانية، إنها بالكاد تتسع لملوكنا والرؤساء والسلاطين وحشد الأتباع والخدم والمخابرات و”الفديوية” والطباخين والجواري والقيان والأماء وشعراء البلاد وكتبة النطق السامي!
لقد اشتروا، طالت أعمارهم، منا كل شيء، حياتنا والأوطان والأولاد والمنافي والأفكار والخواطر وأحلام اليقظة، فلم يبق لنا من سبيل للفكاك من سيطرة قبضتهم الخانقة إلا بالموت،
ولهذا ترانا نزدهي الآن بأنك قد انتصرت ونصرتنا عليهم،
الجزيرة هروب إلى الأمام. يا نقيب، اما ما بلغته الآن فهو النصر المؤزر.
إنك الآن أكبر منهم جميعاً. ولقد جعلتنا أكبر منهم جميعاً. بل لقد جعلت أباك الشيخ الثاكل الناحب بصمت أكبر منهم جميعاً.
وكذلك جهاد وجمال وكفاح وصولاً إلى صباح و”عبير” صديقتك وصديقتي وصديقة هنادي وصغيري “علي” الذي عرفك بها وأنت من تعرف بك بلاد.
أما “سهام”، أرملة القلم العربي، أرملة الالم العربي (كما جعله ناجي)، فهي شاهد حي على عصرنا الرديء بحكامه العظيم بما تبقى من مواطنيه،
وسنظل أكبر منهم جميعاً، حتى آخر رضيع منا، وحتى آخر سارق ألقاب ومختلس أسماء الله الحسنى منهم.
كنت تحلم بجزيرة للكلمة والحرية والإنسان.
وهم لا يحبون ولا يريدون لبنان (وكذلك الأقطار التي يحكمون) إلا كما كان لبنان خلال اليومين الماضيين: أخرس، أبكم، يهمهم ولا يقول، يروم ولا يصرح، يتلفت حوله ليلفت الآخرين إلى ما يرى، ثم يخاف عليهم ممن رأوه ومما رأى فيطرق حتى لا يرفع بصره أبداً.
إنهم يريدون لبنان هكذا: صحراء جرداء لا تعلو فيها غير أصوات الخارجين على دولته وعروبته وشرعيته وطموحات الإنسان العربي فيه إلى غد أفضل.
إنهم يريدون تحويله إلى جزيرة أخرى من جزر الصمت والخنوع وعبادة الأصنام التي تنتشر على امتداد الوطن العربي، في أفياء حكوماتهم الرشيدة.
ويا أيها الساذج، كنت تحلم، وتجلعنا نحلم معك، بأننا سنساعد الأقطار التي يحكمون على أن تصبح مثل لبنان، وها هم يحولون لبنان إلى مقبرة أخرى من المقابر العربية التي يحكمها أنصار الموت.
لقد تحقق حلمك، في الهرمل، فبات أبناؤها جميعاً قراء، بعد إن كنت الكاتب – القارئ الوحيد بينهم تقريباً،
ولقدعرفوا، مثل الملايين الكثيرة من أبناء هذه الأمة، الطريق إلى اللغد، وصحيح إن حكامنا أثرياء جداً، جداً، جداً، لكنهم لن يستطيعوا أن يشتروا الشمسز
ولن يستطيعوا تأخير موعد انبلاج الفجر لحظة واحدة،
ولسوف نجعلهم يهربون إلى الجزر المهجورة والضائعة في بحار الظلمة،
فنحن، لا هم، ملح الأرض، نحن القمع والرمح وصناع الوجدان، نحن أبناء الشمس حفدة العراة الحفاة الذين صنعوا للدنيا تاريخاً جديداً بإيمانهم وحده،
وإن فينا من الإيمان بأمتنا ما يزلزل الجبال،
ولن يستطيعوا ، مهما فعلوا، أن يزعزعوا هذا الإيمان، بل إن عسفهم لا يفعل غير أن يؤكد لنا إننا نحن، ونحن وحدنا، المسؤولون عن الأمة وكرامتها بقدر ما هم مسؤولون عن هدر كرامتها وتهديدها في مصيرها وصميم وجودها ذاته.
نحن الباقون، يا رياض، ولو قتلونا،
وهم الذاهبون، يا رياض، مهما قتلوا منها،
وها هي لحومنا أمامهم فلينهشوا منها ما شاؤوا: فمع كل صبح جديد نغوص أكثر فأكثر في أرضنا ويبتعدون عنها وعنا أكثر فأكثر ، ولحظة الافتراق قادمة لا ريب فيها.
ليأكلوا حتى التخمة. لكننا ها هنا باقون، وهم هم الذاهبون.
وسلاماً أيها “العاصي” وسلاماً يا أشار الجوز. سلاماً أيها الفارس الذي إن أن يترجل. سلاماً أيتها الكلمة الحبلى بالغد الأفضل. سلاماً يا رياض طه.
… وفي الختام يكون الكلمة.

Exit mobile version