طلال سلمان

على الطريق سركيس الحاكم – المحكوم!

لو لم يكن في النظام السائد في لبنان من العيوب غير ما أشار إليه الياس سركيس في برنامجه الرئاسي، لوجب إسقاط هذا النظام الفريد ولو بخسارة آلاف الشهداء والمليارات من الليرات.
وليس غريباً، بعد توصيف الياس سركيس، أن يكون هذا النظام قد نجح في تدمير الوطن والمواطنين الخاضعين لمنطقه ولممارسات أهله من الأقطاب والدهاقنة من أبناء الأسر الكريمة.
وعلينا أن نقدر في الياس سركيس نزاهته الفكرية حين أقر، لحظة تنصيبه رئيساً، بأنه لا يجد ما يستحق أن يلتزم بالإبقاء عليه غير اسم لبنان ومبادئ الاستقلال والسيادة والديمقراطية والحرية، معترفاً بضرورة فتح باب التغيير بلا حدود، وبأن مفهوم الوطن ذاته “أصبح في حاجة إلى تصحيح”.
على إن الشجاعة في رسم النظام البديل لم تكن في مستوى نزاهة الاعتراف ببؤس النظام القائم… وما من شك في أن الياس سركيس قهد تهيب، أن يدين، في يومه الأول، أصحاب الفضل في إيصاله إلى السدة وهم هم صناع هذا الواقع المرير المطالب بتبديله كشرط لبناء “لبنان الذي نريد”.
… وهذا، بالضبط، هو أحد مصادر الخوف على الرئيس الياس سركيس وعهده الذي يريده (ونريده) جديداً، ويريدونه امتداداً لعهودهم منذ ما قبل الاستقلال بدليل استحضارهم الفرد نقاش – رحم الله موتاك – ليشهد حفل التسلم والتسليم (؟؟)…
وأغلب الظن إن الجميع رطنوا فيه باللغة الفرنسية بوصفها لغة الكبراء والقاسم المشترك بينهم جميعاً.
من الإنصاف أن نشير إلى أن الياس سركيس يبدأ عهده بمفارقة كبرىتتمثل في واقع الغربة الكاملة بين الفكرة والأداة، بين الكلمة وما في ضمائر سامعيها ، بين النية ومصالح أصحاب المصالح.
فأمام حشد من أهل النظام والمنتفعين به، وقف الياس سركيس يتعهد – وإن بكلمات خجولة وجمل ناقصة وتعابير توحي أكثر مما تقول – بأن يدخل ويتبنى من التعديلات ما يرى فيها “مساهمة في رقي الشعب وفي تقوية اللحمة بين فئاته… وفي توفير أكثر ما يمكن من العدالة والمساواة بين اللبنانيين والمناطق اللبنانية كافة”.
وقف الياس سركيس أمام أرباب الاحتكار أو حماتهم، أمام المتخمين أو وكلائهم، أمام أصحاب العقارات والأطيان والعمارات أو شركائهم، أمام أعداء القطاع العام، المتذرعين – في النهب – بالحرية المطلقة للمبادرة الفردية، وأمام أصحاب المدارس – الدكاكين، أي أمام المتسببين بدوام نعمة التخلف علينا وبمصادرالمرض والفقر والبطالة والأمية بالنسبة لشعبنا…
أمام هؤلاء جميعاً وقف الياس سركيس يتعهد بما يأتي:
*ببناء لبنان “لا حرمان فيه بل توازن اجتماعي كامل وكرامة موفورة” لأبنائه.
*بتأمين “العيش الكريم لجميع مواطنيه محاربة التخلف والمرض والفقر والبطالة والأمية”، تحقيقاً للتوازن الاجتماعي “فلا يكون في لبنان متخم على حساب جائع ومترف على حساب محروم بل تكافؤ في الفرص للجميع يتوفر معه لكل مواطن أن ينال ما يحتاج إليه من عمل وعلم ومعالجة ودواء”.
*بتأكيد حق الدولة في توسيع رقعة القطاع العام ولو في “بعض” المجالات الاقتصادية وفي التدخل لممارسة حق (التوجيه) في “حالات طارئة” وفي (صورة محدودة) وذلك “إذا” قضت المصلحة الوطنية بمثل هذا التدخل.
(الأهلة من عندنا وذلك لتوكيد ما قصد إليه سركيس من تحفظ يكاد يكون اعتذاراً عن مثل هذا الذنب العظيم!).
*بإيجاد “حلول عادلة ومتوازنة” لمشكلة العلاقة بين رأس المال واليد العاملة (بحيث لا يقع الحيف على أي فئة من الفئتين)!
(هل سمعت بحيف وقع على صاحب رأس مال؟؟!).
*ببناء الإنسان بناء جديداً، وذلك “باعتماد سياسة تربوية وثقافية سليمة متطورة ترمي إلى رص جميع أبنائنا في صف واحد متناسق التفكير موحد الأهداف”.
عظيم، وعال العال…
ولكن كيف؟ وبمن؟!
كل ما يقدمه الياس سركيس الرئيس هو الوعد بتغيير مفتوح الباب “في جميع المجالات وفي مقدمتها المجال السياسي”.
فنحن (في حاجة إلى بداية جديدة).
و”الأحداث الجسيمة التي عانى لبنان منها ما عانى لم تعد تجيز لنا الإبقاء على الكثير من الأساليب والسبل التي اعتمدنا حتى اليوم”.
و”الضرورة ملحة في ضوء المعطيات الحاضرة لإعادة النظر في أسس الحكم وأساليبه، بنظرة أكثر واقعية تراعي التطور العلمي”.
هكذا إذن؟!
-لا مانع. برافو. عوفيت يا أستاذ الياس. عفواً، يا فخامة الرئيس. نحن جميعاً معك. ومعك قلباً وقالباً، فسر على بركة الله، ونحن من وراءك والله من وراء القصد.
.. ويصفقون جميعاً توكيداً للاستحسان: كميل أو دوري أو داني شمعون وسليمان أو طوني فرنجية وبيار أو أمين أو بشير الجميل وكامل الأسعد ورشيد كرامي وسليمان العلي وكاظم الخليل… انتهاء بنجاح واكيم.
المفارقة إن المتعهد قوي بهم هم أعداء مضمون التعهد…
إنه من دونهم ضعيف وعاجز عن الوصول إلى الرئاسة، وبالتالي عاجز عن إطلاق التعهدات من فوق كرسيها العالي.
وهم بهم قوي ولكن ليس عليهمز
ليس الأمر أمر نية حسنة أو نية سيئة، إنه أمر قدرة على التنفيذ أو عجز دونه. أمر قوى ومصالح وأصحاب قوى وأصحاب مصالح.
وعندما يتعهد الياس سركيس بتطوير النظام، أو بإصلاحه، فضلاً عن بناء نظام جديد فإن من حق شمعون – فرنجية – الجميل – واكيم ليمتد أن يتحسسوا رقابهم، أو أن ينبهوا سركيس إلى أنهم أصحاب اليد عليه وأن يدهم باقية فوق يده حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
هي معركة، إذن، بين الياس سركيس وشعاراته وطموحاته من جهة، وبين غيلان النظام من جهة أخرى.
ومن المؤكد إن المواطن البسيط سينتظر أن يخرج الرئيس الياس سركيس نفسه من دائرة احتواء أولئك الغيلان، وأن يجاهر بتمرده على إرادتهم، أي على نظامهم، قبل أن يمد إليه يد المساعدة في بناء العهد أو النظام الجديد.
البعض يتفاءل بكون الياس سركيس هو الابن الشرعي للمحاولة الجدية اليتيمة التي جرت لتطوير النظام من داخله. لكن تلك المحاولة قد انتهت بأن أعلن بطلها ومعلم الرئيس الجديد يأسه منها ومن إمكان إصلاح النظام من الداخل، فخرج فؤاد شهاب بذلك البيان الشهير يحرض فيه الناس على الثورة التي بها وحدها يمكن بناء لبنان – الوطن.
وفي أي حال فمن السابق لأوانه أن نتحدث عن نتيجة صراع بالكاد بدأ، ولعله لا يتخذ التفجر طريقاً إلى غاياته، بل هو قد ينتهي في لحظة البداية إذا ما أمكن لغيلان النظام أن يحتووا الياس سركيس بالكامل… لينتهي في القصر ليستمر عنيفاً في الخارج وأي عنف، مدمراً وأي تدمير.
.. ومع التذكير بأن الحكم السوري سيلعب، ولفترة طويلة بعد، دور الكابح للتغيير والمانع لأي تقدم يتعدى إطار ما يسمى بالوثيقة الدستورية، وهي بعض تخوم الرجعية المجددة على أيدي العسكريتاريا العربية، الفاشية بطبيعتها، السعودية بتمويلها وتطلعاتها، الأميركية بغايات ولائها، ومن هنا تلاقيها ودعمها بالسلاح للبنان القديم.
إن الياس سركيس قد وصل إلى الحكم بتأييد ثلاثة:
1 – الحكم السوري متخفياً بلباس الصاعقة في أول الأمرن متباهياً بطلعات طائراته الميغ والسوخوي في جلسة حلف اليمين، وبضباطه في قلب القاعة كما في كل مكان “للإشراف والمراقبة وحفظ الأمن وحماية العهد الجديد”.
2 – الأردأ والأسوأ من أهل النظام القديم.
3 – بقايا من الشهابية ، وبالتحديد بعض المديرين وضباط المخابرات العسكرية (الشعبة الثانية).
والثلاثة لم يعرف عنهم لا يقظة الحس الاجتماعي ولا التهاب المشاعر الوطنية والإرادة الحديدية في بناء بلد المواجهة والصمود أمام المخاطر الإسرائيلية.
وطالما اتصل سركيس بهؤلاء وبقي في دائرة أهل النظام القديم فسيكون مستحيلاً عليه أن يقيم عهده الجديد.
والخيار أمامه محدد: إذا حكم بهؤلاء فلن يستطيع أن يفي بما وعد، ولن يحكم إلا لهم.
وإذا تجاوزهم فلن يدعوه يحكم ويحقق تعهداته والوعود.
بصيغة أخرى: يقتلهم أو يقتلونه،
يقتلهم بما هم وصاية واحتواء ومصالح وأطماع، أو يقتلونه بما هو طموح ورغبة في التغيير وفيأن يكون هو نفسه.
لقد عرفنا ما ينوي سركيس أن يفعل إذا استطاع،
بقي أن نعرف كيف وبقوة من سيحقق سركيس هذا الذي تعهد به.
أي: من هي القوى البديلة التي سيتحالف معها الياس سركيس لمواجهة القوى التي أوصلته والتي ستتحول إلى صف المعارضة بمقدار ما يلتزم سركيس بتعهداته المعلنة في خطاب التنصيب.
ولسوف تكون الحكومة الأولى للعهد الجديد والإشارة الأولى للطريق ولطبيعة التحالفات ولصدق الالتزام بالكلمة – الوعد.
وإننا لفي الانتظار..

Exit mobile version