طلال سلمان

على الطريق ستبقى “السفير”… “السفير”

صباح الخير،
صباح الخير: نبعث بها إليكم تحية فجر ندية من الموقع الذي أراد لنا قدر أمتنا ووطننا أن نكون فيه والذي ارتضينا مختارين ألا نغادره، وهو الموقع المحاصر والمحصور في تلك المسافة المحدودة الفاصلة بين عبوتين ناسفتين،
والحقيقة إننا كنا نعرف، حتى من قبل أن يحصل ما حصل لـ “السفير” وفي “السفير” فجر الأمس، إننا مطاردون ومستهدفون وإننا ملاقون ما لقيناه وأكثر منه، لسبب بسيط وهو أننا – مثل كثير من الشرفاء غيرنا – شهادة حياة لهذه الأمة المجيدة، وعنوان لإرادة إنسانها في أن يكون إنساناً يستحق شرف الانتماء إليها بقدر ما يعمل في سبيل استيلاد غدها الأفضل.
وكيف يكون الغد أفضل إذا لم يصنعه صراع الآراء وروح الحوار والأفكار المشعة، والمواقف المبدئية، بل البديهية، وكلمة الحق، المعلنة أمام السلطان الجائر ولو همساً أو بالإيماء، وهذا أضعف الإيمان؟!
بل كيف يكون الغد غداً إذا ما تحول إلى مجرد امتداد زمني لليل البهيم الذي يكاد يسود دنيانا العربية الفسيحة، ليل القمع والعسف والإرهاب والقتل ومصادرة الأفكار والآراء ومطاردة الكلمات بكاتم الصوت؟!
كيف يكون الغد غداً والدكتاتوريات “العربية” ملكية وجمهورية، تفتح الطريق وسيعاً أمام الاحتلال الإسرائيلي، وأمام الهيمنة الأميركية على المنطقة، باجتثاثها إرادة المقاومة وإمكاناتها من صدر المواطن العربي، ومن وجدانه كما من الزنود السمراء؟!
كيف يكون الغد غداً، وغداً أفضل، وهذه الدكتاتوريات تمكن للسادات أن يعيش وأن يمرر خيانته بهدوء يكاد يصل إلى حدود التسليم بها نتيجة لكون البدائل المحتملة لا تفضلها ولا تلبي شوق الإنسان العربي، إلى الحرية، إلى الحياة إلى الكرامة، إلى أن يحقق ذاته وبقدراته الحقيقية فحسب،
وكيف يكون الغد غداً، وغداً أفضل، وهذه الدكتاتوريات تعيد فتح تعيد فتح الأرض العربية لقواعد الاحتلال الأجنبي، طائرة ومقيمة، بعد كل ما بذلته الأجيال من تضحيات لإجلاء ما كان قائماً منها في عصور القهر الاستعماري، وقبل أن يبزغ فجر العهود الاستقلالية مع أواسط الأربعينات؟!
… فإذا كنا ضد هؤلاء جميعاً، نقاتلهم بما نملك ولسنا نملك غير الكلمة سلاحاً، أفليس منطقياً ومتوقعاً إذن أن تظل حياتنا وأن يظل وجودنا رهناً بالمصادفات: أن يحدث شيء ما، قدري تماماً، فيمنع انفجار العبوة الثانية… القاضية؟!
صباح الخير،
نقولها من وسط المطابع الجريح، المتناثرة أشلاؤها على امتداد مساحة الوطن العربي الآن، والمزدانة جدران مبناها الصغير والذي لما ينجز بعد بأوسمة عز نظيرها جمالاً وبهاء ونبضاً بالحياة،
ما أروع إنسانية المطابع النازفة، وما أوضح الرمز فيها: فقاتلها لا يمكن أن يكون فرداً، بل هو بالضرورة عصابة، وبالتحديد إحدى عصابات المتضررين من شروق الشمس وشيوع المعرفة وانتشار الوعي بالحقيقة.
ما أروح إنسانية المطابع النازفة، وأحبارها برك من النجيع تكاد تحفر على الحجر أسماء القتلة والسفاحين، أعداء الإنسان العربي، وحقه المشروع في الحياة.
وما أبشع أن يزرع القتلة رحمها بعبوات الموت، ورحمها معد بالأصل للكلمات، للشعر، للفن، للأدب، للرسم، ولكل ما يجعل الإنسان إنساناً.
صباح الخير، نقولها ونحن، بعد وسنبقى “صوت الذين لا صوت لهم”، “جريدة لبنان في الوطن العربي، وجريدة الوطن العربي، في لبنان”، جريدة القضايا لا الأشخاص، والجريدة المقاتلة بالكلمة والصورة، بالكاريكاتور والمقالة والتحقيق والخبر، ضد الظلم والظلام.
صباح الخير ونحن، بعد، وسنبقى ما كانته “السفير” منذ صدورها وحتى اليوم فعل إيمان بالأمة العربية المجيدة ممثلة بإنسانها المسحوق والمقهور والمناضل دائماً من أجل إنقاذ حريته وكرامته وشرف انتمائه وجدارته بالحياة.
وبعد،
نقولها بصراحة وبمسؤولية كاملة: إن القتلة، إن الجناة معروفون تماماًز
قد نعرفهم نحن بالظن، لكن في البلاد من يعرفهم أو يجب أن يعرفهم باليقين.
ففي البلاد، بعد، دولة، أو بقايا دولة، لكننا نطالبها بأن تعرف وتعرّفنا بقدر ما نحن متمسكون بها وببقائها، مهما بلغت حدة معارضتنا لممارسات المسؤولين فيها وعنها،
وفي البلاد قوات ردع عربية أنيط بها شرف إنقاذ لبنان، وهي تملك القدرة على أن تعرف، خصوصاً وإنها السلطة الشرعية ذات الفاعلية حيث تتواجد،
وفي البلاد، وتحديداً في “الغربية” مقاومة فلسطينية لها أجهزتها ومكاتبها، وهي قادرة على أن تعرف، وبسرعة، من الفاعل، وما هي أهدافه القريبة والبعيدة.
وفي البلاد، وتحديداً في “الغربية” حركة وطنية أعطتها الجماهير الحق في قيادتها، ولكن من حقها عليها أن تطالب بحمايتها من أعدائها، وأن تصون لها رموز نضالها والمصادر القليلة الباقية التي تمدها بروح التفاؤل والإيمان بأن لليل نهاية مهما طال،
ونحن نتوجه إلى هذه المراجع جميعاً ليس بالشكوى بل بالمطالبة،
إن من حقنا أن نعتبر أن ما أصابنا يستهدف هذه المراجع جميعاً، الدولة بمؤسساتها كافة، وقوات الردع العربية، والمقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية في لبنان،
وإذا كان عذر الدولة في “عجزها” فمسؤولية المراجع الأخرى لا تسقط بالتبعية،
وقنولها بأوضح عبارة : إن الاعتداء على “السفير” يمس هذه المراجع مجتمعة ومنفردة لأن “السفير” هي – وبالتواضع كله – المنبر الوطني والقومي والتقدمي الأهم والأبرز في لبنان، وليس معقولاً ولا مقبولاً أن يعامل الاعتداء وكأنه حادث عادي في مسلسل الحوادث اليومية،
إن الاعتداء على “السفير” إنذار لهذه القوى مجتمعة ومنفردة، والقادر على أن يتحرك بمثل الحرية التي تمتع بها الجناة يستطيع الوصول إلى أي مؤسسة أو قيادة في أي مكان،
ذلك لأن الجناة مموهو الوجوه والمسات، ويرتدون أقنعة تشبه وجوهنا، وهي التي تعطيهم حرية الحركة وتستبعدهم من قائمة المتهمين!
فلتكشف الأقنعة عن وجوه أعداء الكلمة، أعداء الحرية، أعداء الإنسان، ذلك هو مطلبنا الوحيد،
وهو مطلبنا كضحية اليوم، وكضحية غداً، كما هو مطلب سائر الضحايا المحتملين، وهم كثر، كثر، كثر، وقد تأملنا وجوههم ملياً وبإشفاق وهم يملأون علينا المكاتب أمس.
ونحن أقوياء بهلاء الذين شيعوا معنا أمس مطابعنا الجديدة التي وئدت قبل أن تنطق حرفاً واحداً،
لكننا لن نسقط، ولن نسكت، وسنظل نقول ونقول حتى ينتصر الجرح على السيف، وحتى تقتل الكلمة كاتم الصوت في لبنان كما في أربع رياح الأرض العربية.

Exit mobile version