طلال سلمان

على الطريق سؤال ما بعد الأحزان.. والحكومة: من للقرار الخطير؟!

حزن زغرتا أعمق بكثير من “فرح” زحلة بوصول الرئاسة الأولى إليها، لأول مرة في تاريخ لبنان.
وتغييب رينيه معوض أعظم وقعاً حتى في زحلة من وصول ابنها الياس الهراوي… وفي المدينتين، كما في سائر لبنان، ما زال الحزن هو السيد ومعه القلق على المصير، برغم إن سرعة الرد بالانتخاب وتشكيل الحكومة قد زودت الناس بجرعة من الثقة بأنهم ما زالوا على حافة اليأس، لم يسقطوا في لجنة كليا، وما زال ثمة متسع للأمل بمخرج ما.
زغرتا أرملة، كما بيروت، كما طرابلس، كما القبيات والهرمل، كما زحلة ذاتها، كما دير القمر وبيت الدين وبعقلين، كما صيدا وصور وسائر المدن والقرى والدساكر التي التهم غول الحرب رجالها الواعدين بالغد الأفضل.
زغرتا الفرحة المنسوفة، الفرحة والموءودة: لافتات الابتهاج والاستقبال متداخلة مع وشاح الحزن الذي يجللها “ويؤنسنها”. مسقطاً عنها، في يوم الوداع صورة المعقل الحصين لأقوياء الشكيمة والمستعلين على القانون والحكم والحكومات.
زغرتا تبدت أمس كما لا يعرفها أحد: أرملة مفجوعة بالأغلى، وأباً ثاكلاً للأعز من أبنائها،
فبين نائلة رينيه معوض، أميرة الحزن المتماسكة لتقدم الصورة الفضلى “للبنانية الأولى”، وبين سليمان فرنجية بسنيه التي قاربت الثمانين ينشج ويطلق الدمع الحبيس، تعرف اللبنانيون على زغرتا الضحية… ضحية عمى الحقد الطائفي وهوس السلطة والمخطط التقسيمي الذي يعتمد القتل أسلوباً، القتل الجماعي كما الاغتيال الجماعي، وهو في نهجه هذا لا يعرف “التعصب” ويساوي – لمرة واحدة – بين رينيه معوض وطوني فرنجية المارونيين وبين رشيد كرامي المسلم السني.
وعندما انتظم صف متقبلي العزاء تراصف آل فرنجية وآل معوض وبينهما آل كرامي، فتبدى الوحدويون في صورة الضحية، على اختلاف الأديان والمشارب، وتكشف – في الوقت نفسه – كم إنهم كانوا دفاعيين وهم يواجهون الانفصاليين الذين هاجموهم في عقر دارهم كما عقر دست الحكم، وفي السماء كما في الأرض.
… وكان معبراً أن تبدو سوريا، عبر وفدها الرسمي الكبير المشارك في المآتم الوطني، في خلفية الصورة، مساندة للوحدوي المدافع عن بديهياته ومؤاسية له في أتراحه، وشريكة في هزائمه التراجيدية، بينما تتهم ألف مرة في اليوم بأنها طليعة الهجوم الذي لم يقع قط… حتى اليوم!
بل لقد بدا “الحل العربي للمأساة اللبنانية”، عبر شخص الأخضر الإبراهيمي الذي حمل مرضه وجاء معزياً، بين أهل الفقيد الذي أودى به الهجوم الانفصالي، في حين كان الافتراض أن اتفاق الطائف سيقلب الأدوار وينقل الوحدويين – أخيراً – من الموقع الدفاعي الضعيف إلى قيادة جبهة الهجوم الكاسح.
“الليونة الصلبة”، تحولت من شعار يلخص صاحب العهد الجديد إلى توشيحة سوداء معلقة على جدران زغرتا المكلومة وفي وجدانها.
و”الزمن الصعب” قد التهم “الرئيس الزغرتاوي الهادئ” وها ألسنة نيرانه تمتد لالتهام ما تبقى من وحدة لبنان ومن تبقى من اللبنانيين وجمهوريتهم المصدعة الأركان.
و”بلدة الرئيسين للبنان الواحد لا للبنانين” تعرف اليوم جيداً وتعلن بفم الجراح فيها إن لبنان الواحد لن يعود ولن تقوم له قائمة بالمواعظ والصلاة الجنائزية التي لازمتها “السلام لجميعكم”.
وفي قداس الجناز بدا واضحاً إن الوصول إلى السلام وإلى الوحدة المنشودة قد يفرض تماساً أو احتكاكاً أو حتى صداماً مع ممثلي الكنيسة ذاتها، هنا في الداخل كما مع المرجع الأعلى في الفاتيكان.
فالقاصد الرسولي الذي لم يجيء إلى القصر الحكومي لتهنئة “الرئيس” رينيه معوض بعيد الاستقلال، قد ضن عليه بمرتبة الرئاسة حتى بعد استشهاده،
وهذا السفير الذي يستخدم الفرنسية لساناً مع اللبنانيين لم يذكر في رسالة التعزية التي قرأها باسم البابا رينيه معوض كرئيس للجمهورية، ولم يمنحه أكثر من لقب “اكسيلانس” وهو ما يمنح عادة للنواب أو للسفراء وسائر المديرين…
أما البطريرك الماروني الذي عاد إلى الشمال كاهناً، بينما موقفه السياسي رهينة لدى جنرال التقسيم، مضفياً على محتجز الطائفة وقرارها صورة ممثلها الأوحد، فقد أثار أزمة ربما أدت إلى طرده مرة أخرى من بكركي لمجرد إنه ذكربالفقيد الزغرتاوي الأول، طوني فرنجية، وهو يعزي بالفقيد الزغرتاوي الثاني رينيه معوض… إذ استكثروا عليه هذا “التدخل” في السياسة، التي هي شأنهم، ولو بذكر محاسن من قتلوهم من السياسيين.
على إن زغرتا تضج، إلى جانب الحزن، بأسئلة ملحاحة عن الغد، عن الرد، عن الإنقاذ الضروري والفوري للعهد الجديد، للجمهورية الجديدة، لاتفاق الطائف، لوعد السلام الآتي ولو عبر شن الحرب على الحرب (وهي قائمة أصلاً!!).
وزغرتا المحترقة باللوعة، تتحرق لأن تسمع – من زحلة كما من بيروت وسائر الجهات – ما يطمئنها إلى أن عهد رينيه معوض مستمر، بالفعل عبر الياس الهراوي، وإن “قاتله” لن يبقى هانئاً حيث هو، يحول اغتصاب السلطة من الدولة إلى دويلة مرشحة لأن تكون محمية فرنسية أو إسرائيلية بأموال عراقية وتحريض فلسطيني.
وأهم ما يهم زغرتا أن تستوثق منه إن قرار الانتقال من الدفاع (وهو قاتل بالتجربة) إلى الهجوم، وبأسرع ما يمكن، هو قرار مؤكد لا ريبة فيه ولا تراجع عنه…
وبين ما تسأله زغرتا أو تتساءل عنه ما يتجاوز صداه حدودها مما يردده اللبنانيون في كل مكان:
إذا كان “الرئيس الثاني للعهد الأول” في “الجمهورية الجديدة” هو “البديل” في لحظة انتخابه، فإنه “الأصيل” منذ تلك اللحظة، و”رجل القرار” الصعب الذي أرجئ طويلاً ولم يعد من مجال لإرجائه بذريعة الخوف من كلفته العالية أو التحايل على التقسيميين برشوتهم أي بمفاوضتهم على ثمن التوبة.
فهل الياس الهراوي الذي يعرف ضرورة القرار وأهمية السرعة في اتخاذه وفي تنفيذه، جاهز لتحمل مسؤولية الكلفة، بالغة ما بلغت، بوصفها بعض الطريق إلى الخلاص؟
وإذا كانت الحكومة هي “الممكنة” لا المطلوبة والمؤهلة تماماً، فهل ستتخذ غداً من تكوينها الهش عذراً لها لتبرير القصور أو التقصير أو التهرب من تبرير قيامها في هذا الظرف بالذات؟!
ومن قبل أن يغتال التقسيميون الرئيس رينيه معوض، ومن قبل أن يتم تشكيل الحكومة، كان يردد أمام أصدقائه: “لن تكون حكومتي تلك التي ستعلن غداً أو بعد غد. هي حكومة الأمر الواقع، أو حكومة ستشكلها الظروف المعقدة والحساسيات الطائفية والتراكمات والسلبيات وترسبات الحرب الأهلية، وبالتحديد منها ما استولده الجنرال من وضع شاذ في المنطقة الشرقية”.
ونحسب إن الرئيس الياس الهراوي يقول اليوم لأصدقائه الكلام ذاته في مجال “الاعتذار” عن هذه الحكومة التي “ورثها” عن سلفه الراحل، وإنها بالتالي “ليست حكومته” فإن قصرت أو ماطلت أو سوفت أو انقسمت من حول خيار المواجهة فالذنب ذنب “الرئيس الميت” لا “الرئيس الحي”.
أما الرئيس سليم الحص فهو أولى الناس بأن يقول هذا الكلام.. فلا هو كان يريد رئاسة الحكومة أصلاً، وإنما فرضت عليه فقبلها لتعذر استحضار البديل المؤهل في هذه اللحظة، ولا هذه هي الحكومة التي كان سيشكلها لو كانت يده حرة طليقة.
حكومة من هذه إذن التي أعلنت على الناس قبل صياح الديكة في اليوم الأول للعهد الجديد؟!
وهل تتحمل أكتاف حكومة كل ما فيها يبرر مشاركته بالاضطرار والإحراج وتعذر البديل، مسؤولية قرار خطير كالذي لا بد من اتخاذه لمواجهة جنرال التقسيم ومشروعه التدميري الذي يكاد يكتسي باللحم والدم وأسباب الحياة تحت سمع الكل وأبصارهم؟!
زغرتا حزينة، ولكنها من قلب حزنها تنتظر استيلاد لحظة فرح ما من قلب اليأس والموت والدمار بقرار شجاع يمنحها الوعد بالثأر للبنان من العاملين على تقسيمه، وبالثأر لها من قاتلي رئيس جمهورية الوفاق الوطني… وهي كانت وما زالت مصدر الأمل بغد أفضل، بل حتى بغد ما للبنان.
وزغرتا تنتظر، في الثياب السوداء، ومعها كل لبنان، القرار الخطير.

Exit mobile version