طلال سلمان

على الطريق روجرز – كيسنجر – شولتس: محاصرة الانتفاضة بالفتنة!

ليس عدلاً أن يترك هذا الطفل الفلسطيني لوحده، وكل سلاحه “الحجر” المقدس، في مواجهة إسرائيل الجبارة ومعها أقوى قوى عاتية وعادية في الأرض، الولايات المتحدة الاميركية ومعها ولو كأداة، نظام الهزيمة العربية، نظام الظلم والظلام، والعداء المطلق للشعب وطموحاته وأحلامه.
إن لحظة الحقيقة تقترب، فهذه الانتفاضة العظيمة لا بد ان تترجم – في السياسة – إلى إجراءات وتدابير و”تسويات” و”مشاريع حلول” بقصد “إحلال السلام” في الأرض المضطربة والمزلزلة بارهاصات الثورة.
ولا بد إنهم في الغرف المغلقة، وبعيداً عن “الشارع” الغاضب والصاخب بكلمة “لا” المجلجلة الدوي، يحاولون ويرتبون الآن صيغاً ومقترحات لنقل “الأفكار” التي يحملها جورج شولتس إلى حيز التنفيذ، كلما كان ذلك ممكناً.
وتفضح حركة شولتس طبيعة مهمته، فهو يرى إن المشكلة في إسرائيل وإن “الحل” كما تراه ويراه، في الأردن، وإن المعارضة في سوريا، وإن مصر حسني مبارك تنفع كأسفنجة تمتص الصدى أو كـ “محلل” يفتي بجواز ما كان محرماً وملعوناً إلى يوم الدين.
من هنا إن شولتس ذهب إلى الأردن مرتين، وإنه سيقصد إلى لندن اليوم للقاء (هو الثالث مع المسؤولين الأردنيين) مع ملك قمة عمان.
فمن تلك القمة ينطلق شولتس، وفي ضوء مقرراتها ومنطوق بيانها الختامي الذي أنزل الصراع العربي – الإسرائيلي من مرتبة الصدارة المطلقة ليقدم عليه “الخطرين” الآخرين الشيوعي ثم الفارسي، ثم إنه وصفه – نتيجة لذلك – بأنه مجرد نزاع ولولا بقية من حياة لاعتبره مجرد خلاف في وجهات النظر.
ففي تلك القمة بدت الصورة وكأن الأكثرية المطلقة من الأنظمة العربية تجهر، لأول مرة، بموافقتها على كامب ديفيد، مفترضة إن مجرد حلول حسني مبارك محل السادات، وريغان محل كارتر، وشامير محل بيغن، يكفي لإسقاط أسباب الاعتراض.
تحت ستار “ضرورة استعادة مصر” و”إعادة مصر إلى ساحة معركة المصير” (ودائماً ضد الخطرين الفارسي والشيوعي)، تم تهميش القضية الفلسطينية، وإعلان الاستعداد للخروج من ساحة الصراع العربي – الإسرائيلي (تفرغاً للخطر الأشد، فإسرائيل – على حد تعبير مسؤول عربي كبير! – لا تزيد عن ثلاثة ملايين، وأمرها هيمن ويمكن التفاهم معها بالنتيجة، أما إيران فخمسون مليوناً من الرافضين وبشراسة لأي تفاهم).
صورت “مصر” مبارك، مصر كامب ديفيد، وكأنها البديل عن فلسطين، فالعودة إليها، عملياً، خروجاً من فلسطين وعليها، وبالتالي خروجاً على الالتزاز بموجبات المصير العربي الواحد..
وكانت مشاركة بعض الدول العربية مشروطة: تجتمعون من أجلي، ومن أجلي فقط، أو لا أحضر فلا تكون قمة ولا من يتقمقمون.
وهكذا فلقد بدا وكأن البعض يخرج من عروبته، وبالتالي من فلسطين، ليذهب إلى مصر السادات التي سبقته في هذا المضمار، والتي يبدو بوضوح إن حسني مبارك غير مؤهل لتحريرها من تبعاته المنهكة.
بهذا المعنى يبدو وكأن شولتس إنما جاء، فقط، ليكمل مهمة قمة الملك في عمان، فإذا كانت قضية فلسطين “ثانوية” بالنسبة إلى العرب فإن حكماً ذاتياً للضفة والقطاع هو أقصى ما يحق للفلسطينيين أن يطمحوا إليه.
وإذا كان الجيش الإسرائيلي، ولأسباب مفهومة، لم ولا ولن، يستخدم “قوته” الأسطورية فلأنه يدخرها للرافضين – بعد – من العرب، مثل سوريا وليبيا والقائلين بالكفاح المسلح وبالتحرير، وثمة “بديل” مدخر لمثل هذه الأيام الصعبة ألا وهو الجيش الأردني.
فليس سراً، إن الأميركيين، ومعهم الإسرائيليون، يطلبون الآن من ملك قمة عمان أن يتولى بقواته المسلحة، دوراً أمنياً خاصاً في الضفة (وربما في القطاع أيضاً) ولقد جهر أكثر من مسؤول إسرائيلي بأن يعهد إلى النظام الأردني “بأمر” القطاع الثائر، فإذا ما نجح هناك كوفئ بإيلائه أمر الضفة الغربية التي ظلت هادئة إلى حد الموت طوال فترة حكمه لها!
إن شولتس قادم بمهمة واضحة: نقل الأزمة إلى خارج “حدود” إسرائيل!
إنه قادم لإحداث اقتتال فلسطيني جديد، داخل الأرض المحتلة وخارجها، متشجعاً بما ظهر من بوادر خلال السنوات التي أعقبت الاجتياح الإسرائيلي والمستمرة في التفاعل حتى الآن.
وهو قادم لتجديد الانقسام العربي، على قاعدة “منجزات” قمة عمان: أقلية عربية رافضة ممثلة أساساً بسوريا ومعها ليبيا (المعارض الأبدي)، والجزائر – ولو بحدود – وجمهورية جنة عدن، ولو على استحياء وحتى إشعارآخر (ولقد انتهى الإشعار فأعادت عدن علاقاتها مع القاهرة متأخرة، بضعة أسابيع عن الرواد والسابقين!!).
إنه قادم لنقل مسؤولية الرهينة، فلسطين المحتلة، من ذمة إسرائيل إلى ذمة النظام القوي والمستقر في المملكة الأردنية الهاشمية… هذا في حال النجاح المطلق،
أما إذا تعذر تحقيق الحد الأقصى فلا أقل من تشديد الحصار على الانتفاضة داخل الضفة والقطاع، بحيث تستنقع، ثم تبدأ معارك ادعاء الحق في القيادة ومن ثم الحق في المفاوضة، ومن ثم الحق في الاعتراف ومن ثم الحق في الصلح المنفرد، استشهاداً بالسابقة الساداتية في مصر، واستناداً إلى المبررات ذاتها وأهمها وأخطرها التخلي العربي،
فالخيار الأميركي المطروح أمام “جيل الحجارة” محدد: تذهبون إلى من لا يريدكم ولا تريدونه (النظام الأردني)، أو تتفاهمون مع من يعترف على الأقل بكم، كفلسطينيين، ويعطيكم الحد الأدنى من حقوقكم المشروعة، الآن، ثم نرى في العهد الأميركي المقبلن أي من 1989 فما بعد، كيف يمكن تحقيق المزيد من “التقدم”!
الخيار الأميركي، بتعبير آخر: تذهبون إلى “العرب” الذين تخلوا عنكم، والذين يريدون طمس شخصيتكم وإلغاء قراركم الوطني المستقل، أم تبقون مع الإسرائيلي برعايتنا وبضمانتنا فيقر بأنكم موجودون ولكنكم قاصرون وله عليكم حق الولاية الجبرية فمتى بلغتم سلمكم حقوقكم المشروعة كأقلية ممتازة ومتميزة داخل دولته المرشحة لأن تكون إمبراطورية فوق أرض الشرق؟!
وباختصار يبدو وكأن شولتس قد جاء لتوسيع دائرة المعركة بحيث يصير فلسطينيو الضفة والقطاع عنصراً ثانوياً فيها، بينما هم حتى الآن العنصر الأساسي والأهم.
والكلمة، حتى إشعار آخر، للأطفال الفلسطينيين، الأكبر منا، والأعقل منا، والأعظم منا قطعاً.
وطالما ظلت هناك حجارة، والحجارة كثيرة، فسيظل هناك عدد هائل من “الأطفال” لقذفها بوجه الإسرائيلين كما بوجه أفكار شولتس التي هي النسخة العلنية من نوايا شامير (وبيريز) وأنظمة الهزيمة العربية.
… وإذا كانت زيارة شولتس قد كلفت، حتى الآن ، عشرة شهداء، فإن نجاح مهمته سيكلف الفلسطينيين وسائر العرب بحوراً من الدم.
ولنستذكر مهمة روجرز الشهيرة، العام 1969 وما كان بعدها.
ولنستذكر أيضاً الرحلات المكوكية لسلف شولتسن طيب الذكر هنري كيسنجرن وما كلفتنا من حروب أهلية ما تزال مستمرة حتى اليوم تستنزفنا داخل فلسطين وخارجها وتعمينا عن الهدف الصحيح.

Exit mobile version