طلال سلمان

على الطريق ركن إسرائيلي دافئ لغورباتشوف

يواصل ميخائيل غورباتشوف تنفيذ المهمة التي انتدب إليها بكفاءة مثالية فيحطم رموزاً وأفكاراً وثوابت علمية كانت لها قدسيتها وأتباعها ودائرة إشعاعها على مدى الكرة الأرضية.
وها هو اليوم يبلغ المحطة الأخيرة في “رحلته” الاستثنائية في خطورتها بوصوله إلى إسرائيل التي تسطيع وحدها أن تسلمه شهادة الإنجاز… وبتفوق غير مسبوق!
فمع ترجله – وزوجته رايسا – على أرض مطار اللد كان ميخائيل غورباتشوف يختتم “رسالته” محطماً آخر ما تبقى من الثوابت في الفكر الماركسي – اللينيني وفي العقيدة الشيوعية: العداء للعنصرية ومحاربتها بوصفها اعتداء على كرامة الإنسان بل إنسانيته قبل حقوقه.
بعض الواقع يكسر هالة الرمز، أحياناً، يشوهه و”يشرشحه” و”يسخطه” فضيحة، فإذا المقدس يصبح موضوعاً للتشهير والتندر، وإذا ما كان له مهابة السفر والكشف العلمي الباهر يتحول إلى مادة للسخرية وإلى دليل إضافي على صحة النقيض…
وهكذا فإن غورباتشوف يوظف شخصه – وزوجته – كشاهد إثبات ليس فقط على فشل النظام الشيوعي الذي حكم ذات يوم باسمه نصف العالم، بل أساساً على صحة أقسى وأبشع وأردأ ما في النظام الرأسمالي، مما لا يجرؤ عتاة الرأسماليين على تناوله والدفاع عنه.
فالكيان المجسم والمجسد للتمييز العنصري في العالم إنما قام بدعوى الرد على تمييز عنصري مزعوم مارسه العالم كله على اليهود فكان لا بد أن يدفع العرب وحدهم – والفلسطينيون منهم على وجه التحديد – الثمن و”الكفارة”، مع إنهم هم أباس ضحاياه ماضياً وحاضراً وإلى حد كبير في مستقبلهم المنظور!
اليوم، ومن تل أبيب، يمكن لميخائيل غورباتشوف أن يعلن رسمياً إنه قد أنجز اغتيال هيغل وانغلز وماركس ولينين وسائر أنبياء الفكر الإنساني الذين حلموا أو عملوا لبناء مستقبل أفضل للإنسان “أعظم رأسمال في الوجود”.
ومن حق وزير خارجية الكيان الصهيوني ديفيد ليفي أن يطمئنه وهو يتصدر مستقبليه مضفياً على “الزيادة الخاصة” الطابع الرسمي، فيخاطبه قائلاً: هناك ركن دافئ في إسرائيل لكم يا من فعلتم الكثير من أجل حرية شعبنا”..
… فلشد ما يحتاج غورباتشوف إلى مثل هذا “الركن الدافئ” بعدما فرغ من جريمة قتل آبائه والتشهير بجثثهم وبيع أحلامهم بثلاثين من الفضة، أو بمعادلها المعاضر: حفنة من الدولارات!
الطريف أن غورباتشوف يجيء إسرائيل ضيفاً على جامعاتها!! وهي ستتناوب على منحه درجات جامعية فخرية بمعدل واحدة كل يوم، “للإعراب عن الشكر لفتحه الباب أمام الهجرة اليهودية”.
لكأن الجامعات هي المعنية باستقدام اليهود من الاتحاد السوفياتي سابقاً، وقد “أطلق” منهم غورباتشوف أربعمائة ألف ابتداء من العام 1989 على فلسطين وشعبها، تعبيراً عن “احترامه للشعب (؟!!) الإسرائيلي” وتضامناً مع “المصير اليهودي المأساوي الذي قاد إلى بناء دولة إسرائيل”!
الأطرف أن يتبارى المضيف الإسرائيلي مع ضيفه الكبير في تعظيم شأن الحرية في العالم أجمع، بينما طائراته ودباباته تنهش لحم الجنوب اللبناني وتحرق قرى فلاحية الفقراء، فيرد عليه قائلاً: “إن شعب إسرائيل يعرف كيف يعبر عن عرفان الجميل تجاه شخص عمل من أجل حرية العالم، وخصوصاً حرية اليهود”!
إنها بلاغة الجلادين عندما يتحدثون عن “تعاطفهم” مع الضحايا ، مباشرة بعدما يهوون على رؤوسهم بسيوفهم القاطعة!
يبدو صحيحاً أن التاريخ يعيد نفسه مرتين ولكنه في الإعادة يكون أقرب إلى الملهاة بملامحه الكاريكاتورية الممسوخة،
فباني الاتحاد السوفياتي، دولة الثورة الاشتراكية العظمى، عاش سنوات من شبابه شريداً طريداً، يبشر بأحلامه في المنافي الباردة،
وها هو هادم الاتحاد السوفياتي والثورة الاشتراكية وأحلام “سلفه” لينين ينتهي مجرد مروج لأرخص مستحضرات النظام الرأسمالي، فيدور مع زوجته على طريقة باعة عقود التأمين، أو موزعي علب السجائر المجانية، أو جماعة شهود يهوه، يطرقون الأبواب لإقناع “الزبائن” بتجربة المساحيق الجديدة التي تغسل أكثر بياضاً أو “الحفاظات” التي تمتص البول وتظل جافة بفضل عبقرية أدوات الإنتاج الرأسمالي!
… ومنطقي والحالة هذه أن يسخر الملياردير اليهودي الذي يعيش في سويسرا، نسيم غاون، طائرته الخاصة لنقل هذا “المروج” أو “المهرج” لا فرق، ليبشر بين “مؤمنين” من رعاياه القدامى الذين اهتدوا بفضله إلى “الدين” الجديد: التشيكليس والهمبرغر والجينز واقتصاديات السوق وحقوق الإنسان… اليهودي (حصراً) في ظل النظام العالمي الجديد لصاحبته الولايات المتحدة الأميركية.
قتل الذات طلباً للسلامة؟!
بعضما ينقل عما يجري في ليبيا يتجاوز المعقول.
مفهوم أن يحاول المسؤولون الليبيون – وبكل جهد ممكن – أن يفكوا الحصار الظالم المفروض على بلادهم، نتيجة الهيمنة الأميركية على قرار الشرعية الدولية ممثلة بمنظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن،
ومفهوم أن يحني هؤلاء رؤوسهم للعاصفة، وأن يحاولوا حصر الأضرار وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من سمعة بلادهم وكرامتها وحقها في اختيار طريقها ونظام الحكم فيها،
ومفهوم أن يعدل هؤلاء من لهجتهم، بل حتى من لغتهم فتختفي مفردات وشعارات كانت – في الأصل – موضع انتقاد من قبل الحريصين على ليبيا وقيادتها.
لكن غير المفهوم أن يندفع بعض المسؤولين إلى إدانة تاريخ بلادهم، وإلى محاولة التبرؤ من الصحيح في كل ما قالوه وفعلوه.
فليست الدعوة إلى الوحدة هي سبب المأزق الحالي، ولا التشهير بالوحدة كفكرة وعقيدة هو سبيل الخلاص،
وليس التنكر للثورة بمنقذ، بل هو سبب للإدانة عما تقدم من ذنوبهم وما تأخر، وبالتالي لتشديد العقوبة، مع افتقاد النصير.
إن هؤلاء سيتسببون في أن تخسر ليبيا الارض من غير أن تمنح ميزة الدخول إلى النعيم الأميركي!
إن بعض المقالات التي تكتب في صحف ليبية لم يكن أحد ليسمع بها، وتتناقلها وكالات الأنباء العالمية، مبالغة في التشهير بليبيا والليبيين، هي أقسى على ليبيا بتاريخها النضالي العريق من كل ما يقال فيها وفي نظامها في الغرب.
رفقاً بالتاريخ، يا أخ معمر، تاريخك الشخصي وتاريخ بلادك، بلاد عمر المختار والشعب الذي مضى في مقاومته – حين وجبت المقاومة – حتى استشهد نصف عديده القليل أصلاً.
ورفقاً بهذه الأمة وباللقب المجيد الذي حملته فشرفك: امين القومية العربية.
وليست ممن يبيعون إيمانهم بالسلامة… فلماذا لا توقف هذه الحملة على تاريخك، من ضمن تاريخ بلادك؟! أو لماذا لا ترد عليها، وهذا أضعف الإيمان؟!
وهل يكون طلب السلامة بقتل الذات؟!
وداعاً أيها الكبير!
فقد لبنان، خلال عطلة العيد، رجلاً كبيراً بين القلة من الكبار الذين تبقوا فيه: فؤاد النجار.
إنه نموذج لـ “الرجل المحترم”: كفاءة علمية مع ترفع ونزاهة وثقافة عالية مع بساطة وتواضع النبلاء.
لقد قارب السياسة ولم يحترفها، فأعطاها ما ينقص محترفيها غالباً من خلق ولم يأخذ عنهم مباذلهم والموبقات.
وشغل الوزارة فكبرت به، وظل بعد خروجه منها على كبره.
وعاش متطهراً من الطائفية وسمومها مشغولاً بهم الوطن وموقع المواطن فيه بينما غيره مشغول بتناتش الحصص باسم الطوائف ولحساب الطائفيين.
رحم الله فؤاد النجار، وعوضنا عنه بمن يعيش لأهله ولا يعيش عليهم، ويعطي جهده لوطنه ولا يسرق جهد غيره فيبني به زعامة لا تدوم.

Exit mobile version