طلال سلمان

على الطريق رشيد كرامي بعد سنة: صورة لمستقبل لبنان!

سيتلاقى لبنان الجريح، بأشلائه جميعاً، في طرابلس، اليوم، ليحيي فيها ومعها الذكرى الأولى لاستشهاد ابنها البار – رجل دولته الممتاز الرئيس رشيد كرامي.
ولسوف يتلاقى الوافدون، عبر طرق عديدة ما عدا الطريق “الشرعي” والطبيعي، إلى طرابلس الثكلى مع أبناء الشمال فيها وسط جو تغلب فيه مشاعرالغضب والحنق والمرارة وخيبة الأمل على الحزن وحسرة افتقاد الراحل الكبير.. وإلى دمشق التي رعت القضية اللبنانية منذ بدايتها وأصيبت بالاغتيال بقدر إصابة طرابلس بل وإصابة لبنان كله.
فلقد أضيفتن عبر السنة المنصرمة، إلى جريمة الاغتيال، على بشاعتها، جرائم أخرىأفظع وأقسى في إيلامها، بينها:
1 – إن الجناة، وبينهم المخطط والمحرض وأداة التنفيذ، ما زالوا طلقاء، بل وما زالوا حتى الساعة “مجهولين” لا نعرف منهم أحداً، ولا نعرف عنهم شيئاً.
2 – إن التحقيق قد انتهى إلى دفن القضية، مكملاً بذلك مهمة “الجناة” المعروفين – المجهولين، فإذا لا جريمة ولا جناة، وليس ثمة إلا “قتيل” سقط في ظروف غامضة، وانتهى الأمر.. فلا قاتل، ولا متواطئ، ولا مسهل، ولا شريك، ولا جهة دافعة وحامية لافتقاد الدليل.
3 – ومن المنطقي والحالة هذه أن يسقط المزيد من الضحايا، نتيجة للتعتيم المفروض والتجهيل المقصود للجناة.
وإذا كان الجناة قد صرعوا “رجل الدولة” بعبوتهم الناسفة فإن رأس الدولة قد صرع – بتقصيره – الدولة ذاتها، كما إن قائد الجيش قد تسبب في ظلم الجيش كله، كمؤسسة، لشدة ما خشي أن “يظلم أحداً” على حد ما قال يومها،
وفي ظل هذا الوضع كان منطقياً أيضاً أن يتجنب قضاة التحقيق المنزلق الخطر، وأن يبعدوا عن أنفسهم “هذه الكأس” المرة، تاركين تهمة التقصير تلحق بالقضاء ذاته، وهو الحصن والملاذ الأخير!
بعد سنة كاملة نجدنا في وضع أسوأ وأخطر من الذين كان قائماً عند تنفيذ الجريمة.
فما تبقى من الدولة تضاءل بعد رحيل رجلها حتى لا يكاد يُرى، الآن، وهو على أي حال مختزن في الذاكرة أكثر مما هو قائم على أرض الواقع.
ومن تبقى من رموز الشرعية لا يستطيعون أن يقصدوا طرابلس بالسيارة من بيروت، وعليهم أن يدوروا من خلف سلسلة جبال لبنان الغربية لكي يصلوا – بعد ساعات مجهدة طويلة – إلى العاصمة الثانية التي لا تبعد عن الأولى إلا ثمانين كلمز
فمطار الموت في حالات، ما زال يقوم حاجزاً يقطع التواصل بين اللبنانيين، و”الجيش الآخر” يقوم بحماية الميليشيات التي تسيطر عليه وعلى المنطقة المحيطة به والممتدة بين المتحف والمدفون، ويمكنها من أن تحول “المهبط” المصطنع إلى “كلية حربية” مزورة تخرج ضباطاً مهمتهم مقاومة قيامة الدولة ومنع الشرعية من ممارسة وجودها.
والأنكى إن ذلك يتم بحضور حشد من “كبار الرسميين” والموظفين، مدنيين وعسكريين، الذين يفترض فيهم أن يتصدوا لمحاولة إلغائهم، ولو من باب الأنانية والحرص على “النوع”!!
بل إن هذه الميليشيات تتصدى فتمنع “الجيش الآخر” إياه، الذي يحمي وجودها ويقاتل على خطوط التماس تاركاً لها مهمة التحكم بالمواطنين خلفها، من إثبات الحد الأدنى من وجوده داخل “المناطق المحررة”.. من الشرعية ورموزها!
وحين يتدخل رأس الدولة فإنه يتدخل كحكم بين متنازعين، وليس بين جيش “شرعي” وعصابات مسلحة تلغي بوجودها أي معنى للشرعية والدولة ومؤسساتها المصون!
… ويكون المبرر أن قائد الجيش طامع بالرئاسة، وإن المصلحة المشتركة لراس الدولة ورئيس تلك العصابات أن يمنعاه من الوصول!
وبغض النظر عن الأشخاص وعن مدى صحة الاتهامات المتبادلة بينهم، فإن هذه الواقعة – في جملة كثير مثلها وأخطر – تدل على أن عملية “إبادة” الدولة بتدمير مؤسساتها مستمرة!
فكما أن اعتدال رشيد كرامي ورصانته وصدق إخلاصه للكيان وللنظام اللبناني الفريد، وللميثاق الوطني وسائر الموروثات الاستقلالية، كل ذلك لم يشفع له ولم يحصنه،
كذلك فإن خضوع المؤسسة العسكرية الشرعية (وبطلب من رأس الدولة والقيم على الشرعية) لمنطق الجعاجعة، بعد تماهيها مع أهدافهم السياسية وتسخيرها لدور يكاد يماثل دور المرتزق في خدمتهم، كل ذلك لم يشفع لها، ولقائدها، ولم يحصنها ضد حملات التشهير العلنية التي وصلت إلى حد اعتبارها “ضيفاً غيرمرغوب فيه”، والمطالبة بسحب الجيش في الشارع وحبسه في الثكنات… لإعادة تأهيله؟!
هذا في حين باتت الميليشيات، جميعها، عارية تماماً، لا تنفع في ستر عوراتها وجرائمها ودورها التخريبي، كل تلك الادعاءات الممجوجة عن حماية الطوائف الخائفة أو رفع الغبن عن الطوائف المحرومة!
ربما كانت هذه هي التماعة الضوء الوحيدة التي قد تبرق في مهرجان الحزن والغضب اليوم في طرابلس،
فالميليشيات إلى زوال، ولن تنفع المكابرة في حماية وجودها الناشز أو في تأمين استمرار تحكمها بالمواطنين الذين ما نالهم من الضرر قط طوال سنوات الحرب ما نالهم على أيدي “ميليشياتهم” ذاتها من أذى في أرواحهم وفي أرزاقهم وفي مستقبل أجيالهم الطالعة.
وزوال الميليشيات يبشر بانسحار مد التعصب الطائفي والتطرف السياسي والتعنت في مواجهة المطالب المحقة التي بالكاد تقترب من “حقوق الإنسان”ز
وعبر هذا الزوال ومعه قد يقيض للدولة أن تستعيد روحها وأن تعود إلى ممارسة دورها الذي لا يعوضه أحد،
وقد يتاح المجال، مجدداً، لأن يستعيد الصراع السياسي لغته الأولى وعافيته، معززاً بذلك، النزوع إلى الحرية والديموقراطية،
… في هذا وذاك بعض ما يسعد رشيد كرامي الذي مات مقهوراً لتراجع الدولة واندحار منطق الاعتدال أمام موجات التعصب والتطرف التي مكنت للاختراق الإسرائيلي أن يتغلغل داخل النسيج الاجتمعي في لبنان.
طرابلس الشام جريح كما سائر أنحاء لبنان ومكلومة الفؤاد، اليوم، في غياب زعيمها وقائدها الذي أعطى لبنان عمره كله وحتى آخر قطرة من دمه.
لكن طرابلس الشام تفترض أن دم رشيدها قد قرّب ساعة الخلاص، وأن اغتيال رجل الدولة قد أبرز كم هي ملحة الحاجة إلى الدولة، وإن شطب رجل الحل قد فرض على الأطراف جميعاً أن تكثف جهدها خمن أجل الحر (ولو مؤقتاً ومحدوداً)، وإن الاعتداء على رمز الاعتدال والوحدة الوطنية قد أبرز ضرورة النضال لضرب التعصب والمتعصبين، الطائفية والطائفيين استنقاذاً للبنان (الكيان والنظام والصيغة).
ورشيد كرامي، الآن، ليس شيئاً من الماضي، بل هو صورة المستقبل في لبنان، وهكذا يكون الجناة قد “نجحوا” في تحويل الشهيد الرشيد من رجل إلى قضية، ومن حاكم إلى رمز للحكم الوطني الضروري لبقاء لبنان.

Exit mobile version