طلال سلمان

على الطريق رسالة من بيروت إلى فلسطين بالجزائر

ما أبعد الشقة وما أقرب المزار: بين أول مجلس وطني فلسطيني، في القدس العام 1964، وبين المجلس الوطني الفلسطيني الذي يبدأ أعماله اليوم في الجزائر، 19 سنة و15 دور انعقاد (العادي منها ظروفه استثنائية)، وثلاثة حروب ولا نصر، وألف ألف معركة، وما لا يحصى من الانتصارات والهزائم اليومية الصغيرة في الجبهات المفتوحة باتساع الدنيا وخيال عاشق الثورة، وعلى المستويات وبالأسلحة كافة من القبلة إلى القنبلة!
ولقد كان بين أعز الانتصارات انتزاع الحق بالحياة مع الكرامة كمدخل لاستعادة الوطن، أما أبأس الهزائم فالشعور الباقي بأن الوطن ما زال أبعد من أن تطاله اليد، خصوصاً بعدما لوي عنق السلاح.
وبين القدس والجزائر عمان فالقاهرة فدمشق، وكلها الآن بعيدة بعيدة.
القدس خلف نصب الشهيد، وعمان وراء نصل السكين، والقاهرة غمد لسيف ضاع عن صاحبه وضاع عنه فلم تعد تنفع غير من يجيء باسم الحد القاطع. أما دمشق، آه من دمشق وآه عليها: تكون فيها ولست فيها، وتركب البحر لتناى عنها فإذا هي فيك، وحتى متى هربت منها إليها تظل قاب قوسين أو أدنى منك تقف وتستوقفك على الخط الفاصل بين الآه والأخ، ومثلك حزينة تنتظر فجر الفرح الذي لا يأتي.
أما بيروت: لهفي على بيروت المتجلببة ثياب الحلم، المعششة في القلب وبؤبؤ العين، المالئة الذاكرة على حساب كل ما عداها بما في ذلك مسقط الرأس ومثوى الآباء والأجداد من السلف الصالح.
أما بيروت فعنها ومنها هذه الرسالة التي تحاول أن تقول ما نفترض أن الأخوة الملتقين في الجزائر الآن، على تخم جديد لفلسطين الحبيبة، في حاجة لأن يسمعوه.
لا شيء كما كان، لا شيء كما ينبغي أن يكون ولكن السؤال الباقي: هل الرجال حيث يجب أن يكونوا؟
كان الرجال كثراً، كان السلاح متوفراً إلى حد التخمة، كان المال غزيراً غزيراً إلى حد الإغراق.. وبرغم ذلك، والبعض يقول: بسبب ذلك كان ما كان، فأين نقطة الخلل؟! أين بالضبط، ومتى بالضبط، ولماذا بالضبط زاغت العين والقدم فإذا الأرض غير الأرض، والناس غير الناس والمستقبل غير القصد وغير الوعد وفي غير اتجاه الطلقة الأولى المبشرة بغد؟!
لا شيء هنا كما كان لا شيء سيعود كما كان، ولكن السؤال الباقي: كيف لا يسقط من تبقى وما تبقى هنا وفي الأمكنة لاأخرى.
بل السؤال: كيف نستنفذ أمكنة وكيف نستبقي أزمنة تلزمنا قطعاً لكي نحاول أن نستعيد منها وفيها ما فقدنا؟!
فما كل سقوط رصيد جديد للأمل، وما كل موت شهادة من أجل أن يحيا الوطن، بل لعل القرار بالحياة الآن (وليس بالعيش) في مستوى أمر القتال اليومي.
وما كل خسارة للآخرين كسب للقضية، فالقضية هي الكل، نحن والآخرون، الأقربون أولاً ثم الحلفاء فالأصدقاء فأعداء العدو في أربع رياح الأرض.
من بيروت نخاطبكم،
ونعرف إن أصواتاً ارتفعت في بيروت المهدمة، المكسورة الذراع والرمح، تقول غير هذا، وتتمنى – عبر صراخ اليأس وتفجع الثكل – أن يكمل الزلزال طريقه إلى العواصم الأخرى فسيدمرها تدميراً.
لكن ذلك كان انفجاراً لمراراة عصر الردة والتردي، في لحظة الانهيار بالخيبة، وبعدها عاد الوعي تدريجياً، وكان واجباً أن يعود، من أجل تصحيح المسار وحفظ الصفات والنعوت لأصحابها… فالمتخلي متخل ملعون إلى يوم الدين، والمتخاذل متخاذل محقر ومرذول، لكن العدو هو العدو، وإليه يجب أن يتوجه الحقد المقدس.
لا شيء هنا كما كان، لا شيء سيعود كما كان، لا شيء كما ينبغي أن يكون في العواصم الأخرى، لكن اليأس ليس حلاً، والتسليم ليس حلاً، والانتحار ليس حلاً، والجمود ليس حلاً، والهرب إلى الأمام ليس حلاً.
وقبل: الانشقاق ليس هو الحل، ولا الحل في طمس مواضيع الاختلاف والقفز عنها بذريعة الحفاظ على وحدة لا خط لها ولا لون، لا نصير لها ولا خصم، لا تنفع في تحرير وطن ولا في تحميل المسؤولية لمن أضاع حق الحلم به.
وقبل قبل: ليست الغقليمية أو الكيانية أو القطرية أو الانعزالية الجديدة بأي اسم تسمت، هي الحل.
في الكيانية، أو الانعزالية، أو الإقليمية، نزعة عنصرية تصيرنا متماثلين مع العدو، مع المغتصب والمضطهد، وتدفعنا لأن نكرر تجربته البائسة كاريكاتورياً، وعلى شكل مهزلة مأساوية.
من بيروت نخاطبكم.
ونعرف إن بيروت تحولت بفعل الزلزال إلى مجمع لهذه الأمراض السرطانية، ويمضنا الحزن لكون أبهى عواصم الدعوة القومية قد بدلت جلدها فصارت “مشتلا” للعصبيات والإقليميات ومخبراً لأنواعها المتعددة (الطائفية والنفطية والعرقية الخ)
ولكن، لهذا السبب بالذات نرفع الصوت أكثر من ذي قبل بالتنبيه القاسي الرنين.
حذار أن تقتربوا من حكام العرب بحيث تبتعدون عن العرب والعروبة.
وحذار أن تبتعدوا عن حكام العرب بما يكفي لكي يظهروا إنهم أقرب منكم إلى العروبة والعرب.
من بيروت نخاطبكم،
بيروت التي احببتموها ربما أكثر مما يجب، ربما أكثر من فلسطين، فلم تحبكم ولا كان ممكناً أن تصل في حبكم إلى مستوى حب فلسطين لكم.
من بيروت نناديكم: إن فلسطين باقية فينا، لم تنثرها الطائرات الإسرائيلية هباء، ولن يسحبها “المارينز” إلى سطح أسطولهم السادس.
وبيروت تنتظركم،
ولكنها تنتظر أن تجيئوها عن طريق فلسطين، لا أن تقصدوها وكأنها هي فلسطين.
وبيروت، التي لا شيء فيها كما كان، تقاتل الآن – بمن وما تبقى فيها – لكي تحرر بعض طريقكم من فلسطين إليها، وهي تنجح بمقدار ما تساعدونها – بمن معكم وبكل ما معكم – في توسيع رقعة الجبهة الأصلية وتزخيم العمل في قلبها.
لا شيء هنا كما كان، لا شيء سيعود كما كان لكن فجراً جديداً لا بد أن يكون.
ومن أجل استيلاء هذا الفجر من قلب العتمة الحالكة السائدة الآن يجب أن تعملوا، وأن نعمل، وأن يعملوا.
فالفجر مثل النصر لا يمكن أن يكون إقليمياً.
ولا نصر لأي منا ما دامت أمته مهزومة في فلسطين كما في لبنان، وفي مصر كما في الأردن، وفي المغرب عموماً كما في المشرق عموماًز
فالنصر مثل الفجر يكون في كل مكان أو لا يكون.
وسلام على فلسطين، الغالية أبداً.
وسلام عليكم يوم تستمرون على الطريق إليها، مهما طال السفر وثقلت الوطأة وسمت التضحية.
فما أقرب المزار وما أقدسه ، مهما بعدت الشقة…
والبحر أداة وصل بمقدار ما هو أداة قطع، كذلك البر، والجسر واحد في الحالين: إرادة الحياة، إرادة القتال، إرادة النصر التي وحدها تصنع الفجر الجديد.

Exit mobile version