طلال سلمان

على الطريق رسالة إلى شهيد فلسطيني في لحظة الفرح اليمني اليتيم!

الدم يستسقي الدم، والحبر أخرس، والكلام مراسم دفن، والاضراب سلاح العاجزين، والقمة مخرج نجاة للمتواطئ والمنحرف والمفرط والتائه عن فلسطين.
وفلسطين هي يومك والغد: تنتشر ملامح لوجوه أطفالك حتى وإن كنت في أقصى الأرض العربية بعداً عن أقصاها.
الحدود سياج من قش وحرسها جنود من كرتون والأرض فضاء مفتوح أمام الإسرائيلي طالما موهت هويتها الفلسطينية،
ففلسطين هي العرب والعروبة، هي الوحدة والحرية، هي الوالدة والمولود، الهرب منها انتحار جماعي، والطريق إليها هي هي الطريق إلى الحياة والتقدم والعصر.
هويتك الأرض، والجرح وجهك، واسمك تلك الندبة السمراء من تراب على جبينك.
أنت الشهيد أو القتيل، أنت الصخر والنهر والبحر وزهر الليمون أو أنت الشريد الطريد الممزق جواز سفره ليكون رسمياً “لا أحد” الآتي من “لا مكان” الذاهب إلى المهانة والتفاهمة واضطهاد الاحتقار وذل المتنكر لاسمه وتاريخه وإنسانيته.
أنت الشهيد أو القتيل، يدك السيف وحجرك الطلقة البكر، والصخرة تنتظر الذراع العفية.
إبق فيها. اثبت حيث أنت. توغل في الأرض. اذب فيك دمك، عزز صلابتها بعظم الصدر ولا تخرج، فما عاد الذين خرجوا ولا هم سيعودون إلا بك، بها وأنت فيها.
تموت فتبقى أنت والأرض، وتخرج فتموتان موتاً وتندثر القضية عبر القمم.
الموت بقاء، الموت فيها هو الحياة، والخروج خروج من التاريخ ومن الدنيا جميعاً.
أنت فوق القمة بمراحل. لا يبلغونك فرادى ولا يبلغونك مجتمعين. ويخافونك فرادى ويخافونك مجتمعين. يخافونك لأنك تخيف إسرائيل التي تخيفهم… وهم يشترون استمرارهم بتسهيل زوالك لكي تطمئن إسرائيل فتطمئنهم ولو إلى حين.
أنت فوق والقمة تحتك بمراحل. وهم يأخذون القمة إليهم ليبعدوها عنك، ولتصير طاولة معلقة في الهواء، فلا أرض تحضنها أو تحصنها أو تمنحها قدسية التراب المضمخ بالنجيع أو مهابة الحجر الذي يملأ هديره الريح باسم فلسطين.
أنت الكبير والقمة صغيرة صغيرة، أصغر من قطرة أو بعض قطرة من دمك.
كلما انعقدت قمة صغر حجم فلسطين على جدول أعمالها وشوّه وجهها وحوّز اسمها، لكأنما ملوك العرب يكملون مهمة قادة صهيون.
وكلما خرجت إلى الشارع، وواجهت بصدرك العاري مدافع الدبابات كبرت فلسطين فكبرت أمتك واقترب موعدها مع استعادة الوعي بالذات،
فبعض الأمة تحت الاحتلال، لكن معظمها في الأسر، وليس غير الدم في الحالين طريقاً إلى الحرية وتحرير الأرض والإنسان.
استدراك: يموت “الفلسطيني” لتحيا فلسطين وتبقى، ويخرج “اللبناني” ليعيش فيتلاشى لبنان على مدار الساعة.
استدراك ثان: قيل “للمصري” إن الصلح هو سبيله لكي يعيش. وها هي مصر تتهالك وتكاد تموت ألف مرة في اليوم هواناً، بينما يقف شمعون بيريز على شرفة النيل وقفة من انتصر نصراً لم يستحقه على شعب لم يسمح له بأن يفتدي أرضه بحياته لتبقى ويبقى فيها عزيزاً.
استدراك ثالث: الوصايا الأميركية للقمة العربية تحملهم دمك بدل أن يكون عدوك هو الإسرائيلي.
عدوك هو الإسرائيلي ومن معه أفلا يزغ بصرك عنه،
أما الملوك والرؤساء فإلى زوال، وحال العرب خارج فلسطين ليست بأفضل من حالك داخلها… والمهم ألا تفقد ثقتك بالأمة، وألا تخرج منها أو عليها بالوهم القاتل إن ذلك ينجيك، ولو على حسابها.
كل قطر عربي هو فلسطين، بعض الأمة من قضى وبعضها ينتظر، والفخ هو هو: يزين لمن هو خارج فلسطين أن يخرج منها لينجو، ويزين لمن هو داخل فلسطين أن يخرج من الأمة (أو عليها) لينجو، وبهذا يضمن هلاك الجميع.
الدم هو الدم، الجرح هو الجرح، الأرض هي الأض، وساعة الصفر فلسطين،
ليس خارجها من قتال مشروع، كل قتال خارجها حرب أهلية تخصم من عمر العرب لتضيف إلى عمر إسرائيل،
ولا قمة إلا في الطريق إليها، وباسمها وبأرضها كاملة غير منقوصة: من المحيط إلى الخليج أرضك يا فلسطين، ومن النهر إلى البحر المحيط دمك يا الفلسطيني، يا الأمة الشهيد.
وبعض الطريق إلى القمة، إلى فلسطين، قطعته بالوحدة اليمن،
فوحدة اليمن هي أولى ورود الانتفاضة في فلسطين…
والبقية تأتي، ولو كره القمميون!
الأرض، في ظاهرها، بركان خامد، وصنعاء، مثل كريتر، جوف بركان منطفئ.
لكن الشعب وإرادته هي النار المقدسة التي لا تنطفئ مهما غمرها رماد القهر، وها هو يؤكد – بالأرض – هويته ومستقبله.
الفرح العربي يتيم،
أما الأحزان والهزائم العربية فلها آباء بعدد ملوكنا والرؤساء وأمراء الطوائف وقادة الميليشيات وزعماء “الأديان” الإسلامية المستحدثة والمستنبتة في الدفيئات الأميركية.
ومن قلب ليل الأحزان والهزائم انبثقت الوحدة اليمنية فجرأ لم يسهر في انتظاره أحد، ولا احتفى به بالصلاة مؤمن لا يتأكد الفجر إلا بصلاته حاضراً،
تسللاً جاءت “الوحدة”،
غافلت “العرب” وداهمتهم فتعاملوا معها وكأنها جملة معترضة وأكملوا أحاديثهم عن مؤتمر القمة واين يكون وبمن يكون، مرجئين البت في الأمر المعلق: لماذا يكون؟!
لكأنما نسي المواطن العربي عادة الفرح،
لكأنما سقط من ذاكرته احتمال الانتصار على الغير، وعلى الذات بالأخص،
لكأنما استهلك الابتهاج بالأمر عفوية الاستشعار بالحدحث غير المهين وغير المشين، فصار بحاجة إلى من يدغدغه لينتزع منه ضحكة صافية،
لم يعد يصدق إن “هؤلاء” قادرون على إسعاده، أو على تحقيق أي من مطالبه البسيطة فكيف بالغوالي من الأمنيات، والمطامح العظام،
بل لعله بلغ دركاً من الإحباط واليأس من الذات يستحيل عليه معه أن يصدق إن بقدرته هو، المواطن العربي، بعد، أن يمارس وجوده أو تاثيره، فكيف بأن يفرض رأيه أو يقرر مصيره بنفسه؟1
لكن الحدث وقع، وفي أقصى الأرض، وحيث لا ينتظر أحد وقوعه: اليمن؟!
وها هي مواكب المبتهجين تمخر “الكورنيش” في الدوحة، بقطر، أمام ناظرينا، ونحن في اضطراب لا نعرف كيف نحدد موقعنا منها.
كنا مجموعة من “العرب” تفرقنا “الجنسيات” وتجمعنا العاطفة والذكريات والأماني… ولقد تفاوتت ردود فعلنا، ولكنها “انضبطت” في النهاية في خانة هي بين “الفرح الأخرس” وبين “الفضول المتعاطف” وبين طغيان الخوف من الانتكاس على مشاعر الابتهاج بالولادة.
كان متنزهو المساء بامتداد الكورنيش قد وقفوا “يتفرجون” على موكب الفرحة اليمنية وهو يجوب أنحاء الدوحة بالسيارات، بغير جلبة وهتافات مدوية، وبغير صور ولافتات ممهورة بالختم الرسمي،
وحده العلم الجديد – القديم العزيز على قلوب العرب باعتباره رمز الوحدة – الثورة (الجمهورية العربية المتحدة – العام 1958) كان يرفرف مفتقداً النجوم، أو منتظراً النجوم لتخضر المساحة البيضاء بين الأسود والأحمر،
كل اليمنيين العاملين في قطر، تقريباً، امتطوا سياراتهم، ومن لا يملك سيارة “تعربش” على شاحنة صغيرة لكي يشارك في إعلان فرحته: الفقراء والأغنياء، العمال والموظفون ورجال الأعمال وحدتهم الفرحة بإعلان الوحدة.
كان كل منهم يحاول تأكيد “يمنيته”،
سقطت التشطيرات الجغرافية المهينة، التي مزقت اليمنيين دولتين وهويتين وشعبين وجيشين رفع أحدهما السلاح بوجه أخيه أكثر من مرة،
وسقطت ادعاءات التصنيف الأيديولوجي التي جعلت حكم الحزب الواحد والرأي الواحد ينتحل صفة “الديموقراطية” تاركاً صفة “العروبة” للحكم الذي كان يحمل موروثات المجتمع القبلي الذي تولى العسكر (باعتبارهم بعض النخب السياسية ومع بعضها الآخر) مهمة نقله إلى القرن العشرين.
لكن اليمنيين في فرحتهم أيتام،
يخاف العرب أن يشاركوهم فيها، ربما لخوفهم عليها،
ويخافون هم من خوف العرب، ويرونه خوفاً من الوحدة ومن اليمنيين معاً!
ربما لهذا تستشعر نبرة “شوفينية” في حديث اليمني عن الوحدة، ولكنها نبرة دفاعية،
لو لعلك نسيت كيف تكون النبرة “القومية” أو لعلكما معاً تستعيدان أجواء ومشاعر كنتما تفترضان إن قد عفا عليها الزمن فاندثرت مع روادها ومناضليها وشعاراتهم العاطفية النبيلة كما الأحلام!
على إنك، من بعد، تحاول أن تنسى الهواجس والمخاوف والأسئلة المغلقة، أو أن ترجئ التفكير فيها على الأقل، لكي لا تحرم نفسك لحظة الفرح اليتيمة تطل عليك كنجمة صبح وسط دياجير الهزائم والأحزان وآلام التمزق والانقسام والانشطار التي صارت من سمات العرب في طورهم الراهن،
ليس الآن وقت التدقيق في الموقف الأميركي، والغربي عموماً، المؤيد للوحدة،
وليس الآن وقت التحقيق في سر التأييد المبالغ به الذي تحرص السعودية على إظهاره إزاء أخوتها الأعداء في اليمن الذي يسعى لأن يعود سعيداً.
وليس الآن وقت التفتيش داخل النوايا لفرز المخلص في وحدويته من مساير الموجة ومن المرجئ إعلان معارضته إلى ما بعد.
إنها لحظة فرح حقيقية ويجب أن يعيشها كل عربي لعله يستعيد علاقته بالفرح وتلمس طريقه بالنصر إليه،
ولنشارك الآن اليمنيين عرسهم الأبهى،
ولنتأمل مثلهم، بشغف، شرطة مرور عدن وهي تنظم السير في صنعاء التي لا بد منها وإن طال السفر،
فصنعاء، عاصمة الوحدة، محطة على الطريق إلى فلسطين، وليست محطة للخارجين منها إلى العدم.

Exit mobile version