طلال سلمان

على الطريق رسالة إلى جراح سليم الحص

ما أروع أن تكون تحية الصباح: حمداً لله، لقد سلمنا جميعاً وبقي لنا سليم الحص!
ما أبهى أن ترتعش “الأميرة” بنشوة الفرح وهي ترى فارسها ينتصب شامخاً فوق ركام الأرض المفخخة، يمد إليها يده ويناديها لإكمال المسيرة فوق الصعب وعبر الموت بينما جماهير بيروت الصابرة والصامدة وجماهير لبنان كله تحيطهما بالأهداب وحدقات العيون المفتوحة على وعد بغد أفضل.
فبيروت لا تكون أميرة إلا إذا كان فيها أمثال سليم الحص، فإذا ما غاب هؤلاء أو غيبوا تحولت بيروت إلى غابة من الدكاكين والعشائر المسلحة ومقبرة للأنبياء والأفكار وأحلام التغيير.
ولأن سليم الحص كان هو المستهدف يوم أمس الأول، 5 أيلول 1984، فقد أحس كل مواطن أنه هو شخصياً المقصود برسالة الموت، وإن عاصمته هي المراد قتلها، وإن فكرة الوطن هي التي كادت تتناثر مزقاً بالانفجار المروع.
كان المقصود أن يصبح جميع اللبنانيين المعنيين بفكرة الوطن أيتاماً، عاجزين حتى عن الاستكانة إلى حلم بإمكان أن يكونوا ذات يوم مواطنين لدولة يمكن تطويرها في اتجاه الوطن.
من هنا فقد هنأ كل لبناني نفسه بالسلامة أمس الأول، إذ إن كل مواطن أحس أنه هو الذي نجا حين نجا سليم الحص ونجت معه بيروت، الأميرة بعد برغم الحزن والجراح والندوب الغائرة.
هل تبدو في الكلمات رنة الحديث الحميم؟
لا بأس إن اعتذرنا بالقربى والقرب، فبين الرئيس الحص وبيننا مسافة الجرح، إن واحدنا قاب جرحين أو أدنى من الآخر.
والجرح يستندي الجرح، والصمت مقبرة الجنباء، وليس ثمة كثيرون في بيروت وفي لبنان يستحقون أن تستخرج كلمات التحية والتقدير من مكامنها لكي تفيهم حقهم علينا.
… والجرح وردة حمراء مكللة بقطر الندى، والعطر فواح يرف بغير أجنحة مستدعياً الكل إلى ساحة القضية التي كان سليم الحص وسيبقى واحداً من فرسانها البواسل والدائمي الحضور، حتى ليكاد يختصر شعباً في شخصه.
وما أعظم أن تكون الكل، صوتك هو الخط، كلمتك هي الموقف، رأيك هو الراية وسلامتك هي العيد.. فالكل قال للكل، أمس: دمت بخير، سليم الحص بخير، الوطن إذن بخير والقتلة هم الخاسرون.
كنت أنت، سليم الحص، ثم توحدت فينا، بالموقف، وتوحدنا فيك فصرت نحن، وها أنت تكبر بنا أكثر فأكثر فتصير الرمز وفكرة الوطن ونجمة صبح الغد الأفضلز
وما كان أعظم مفاجأتنا بك: كدنا لا نقبلك رئيساً لحكومة تكنوقراط، ثم صرنا نكاد لا نقبل حكماً لست بين ضمانات السلامة لنهجه وتوجهاته ولا نسلم بحكومة لا تحظى بتزكيتك أو مشاركتك فيها.
وما أعظم مفاجآتك الآخرى التي توالت علينا فملأتنا بالفرح والانبهار: فأنت أحد قلائل أعادوا الاعتبار إلى الكلمة بعدما استهلكها محترفو السياسية وتجار الحروب وأصحاب “بسطات” الطوائف والمذاهب وعصبيات الأحياء والزواريب.
وأنت أحد قلائل أعادوا الاعتبار إلى “الموقف” فإذا هو السلاح الأمضى حتى في مواجهة أعتى الأعداء، وإذا هو امتحان الرجال من امتشقه استحق مكانه ومكانته في تاريخ البلاد، ومن جبن أو تخذال فنكل أو تراجع أسقطه الموقف فإذا هو بعض ذكريات الماضي والأيام السود.
وأنت أحد قلائل أعادوا الاعتبار على العقل. وكنا أفهمنا إن شرط نجاح السياسي في هذا البلد الأمين أن يحل الفهلوة والشطارة و”الحربقة” محل العقل، فيتصرف بما يستهوي أو يستجيب لهوى الشارع وإلا نبذه الجميع وخسر المواقع جملة ما كان منها “فوق” وما كانت “تحت”.
وأنت أحد قلائل أعادوا الاعتبار إلى العلم وعلاقته بالحياة والناس، وكانوا يريدوننا أن نصدق إن العلم نقيض لمطامح الشعب تماماً كما مصالح الحكم نقيض لمصالح الوطن والمواطنين.
سليم هو الوطن، بعد، في الوجدان والقلب والفكر.
ولكننا سنكتب على ألواح الصدر، وسننقش في ذاكرة أطفالنا والأجنة، إنه غداة الذكرى الثانية للاحتلال الإسرائيلي، وعشية الذكرى الثانية لوصول الكتائب إلى سدة الحكم، في ظل هذا الاحتلال المستمر بعد، جرت المحاولة الألف لاغتيال الأميرة بيروت وفكرة الوطن وعيد الفقراء.
وإذا كنا قد انتصرنا، للمرة الألف، نصراً سلبياً، بأن نجونا من الموت فلقد استوعبنا أكثر وأكثر إن شرط حياتنا أن نقضي على القتلة المحتمين وراء الوحوش الطائفية والمذهبية وهي الوحوش التي أهاجوها علينا لتكمل ما بدأه العدو الصهيوني.
فسليم الحص المستهدف بالاغتيال هو هذا الوطني المكتمل عافية إذ أنه جنوبي بقدر ما هو بيروتي وجبلي بقدر ما هو شمالي وبقاعي، بقدر ما هو عربي حتى صميم الصميم.
إنه ذلك الومض المضيء في صدر كل منا.
والذين حاولوا قتله هم الذين حاولوا ويحاولون وسيحاولون أيضاً قتل بيروت، لقد جربوا قتلنا فيها، ثم جربوا قتلها فينا، ولأنهم عجزوا في الحالتين فهم سيجربون قتل بيروت بكل من فيها حتى لا يكون منا شيء ومنها شيء ولا تكون بالتالي دمشق ولا القاهرة ولا بغداد ولا طرابلس ولا أية عاصمة عربية.
لقد حاولوا أن يصنعوا لبيروت، بعد دمشق والقاهرة وعمان، أيلولها الأسود، ليعم السواد دنيانا ويكون العلامة المميزة لتاريخ العرب الحديث.
لكننا نج=ونا وسنبقى وسنكمل المشوار، في بيروت ومنها إلى أربع رياح الأرض العربية.
وسننتصر على القتلة ، المحتمين بدبابات المحتل والمنافقين للعرب متى توقفت تلك الدبابات عن نجدتهم سننتصر قسماً بجرحك يا سليم الحص.
وجرحك يستندي جراحنا جميعاً، ونحن قريبون إليك، قريبون منك، قاب جرحين أو أدنى.

Exit mobile version