طلال سلمان

على الطريق رحيل الكاتب بعينيه…

كيف ينعي قلم القلم؟!
وكيف بالكلمة الباردة والمحايدة تعلن صمت الكاتب الذي كان يعطي للكلمات المعنى فإذا هي مصدر تنوير وأداة معرفة وولادة حركات وتيارات سياسية ومبلورة أفكار فضاحة لأبناء الليل وأنظمة القمع العربيةز
ميشال أبو جودة، رحل، أمس، بعدما أمضه الخرس والحزن والخيبة.
بهدوء رحل. لقد انتهى زمن الكلام، وانتهى أيضاُ زمن الاستماع إلى الآخرين. لم يعد لدى أحد ما يقوله، وطوفان الثرثرة الذي يغمر الصحف والإذاعات والتلفزيونات ليس إلا رجع صدى للخواء، ومحاولة لقتل الصمت المهيب بضجيج الطبول الجوفاء.
أغمض عينيه ومضى، وهو من أمضى السنوات الأخيرة يكتب بنظراته المنكسرة بالفجيعة، ويسمع بهاتين العينين اللتين كأنما انفتحتا فجأة على مكمن السر فاستهول صاحبهما أن تعكسا أمله وحرقته وذعره، فقرر أن يجمد محجريهما وأن يسبل فوقهما قناعاً من الاستكانة والاستسلام.
قال لي “أبو وضاح” الطيب وهو يصف، قبل ساعات من إعلان الوفاة، الحضور الأخير لميشال أبو جودة اجتماع مجلس نقابة الصحافة، الثلاثاء الماضي: “كان معنا المسكين ميشال… كان موجوداً، ولكن كجثة، لا يريم”.
والحقيقة أن ميشال أبو جودة قد مات اغتيالاً. لقد قتلته الحرب. حرب الداخل اللبناني، وحرب الداخل العربي.
فجأة تحول كل الذين كتب عنهم إلى قتلة أو ضحايا. الثوار صاروا أباطرة وجلادين، والمفكرون تكشفوا عن أنبياء دجالين، يبررون الخطيئة ويحللون الحرام طمعاً بجنة الحكم الجهنمية! وتاه البعض عن طريق فلسطين فانتهوا إلى إسرائيل.
سقط “العاموط” الذي كان يحمل خيمة الصراع السياسي، وبأساليب شبه ديمقراطية، فسقط معه صاحبه والمرتكز إليه في أخباره وتحليلاته واستنتاجاته.
ولا أنسى لقاء طريفاً مع ميشال أبو جودة في باريس، قبل عشر سنوات تماماً.
كان بشير الجميل قد نصب رئيساً للجمهورية في ظل حراب الغزو الإسرائيلي. خرجنا من زيارة صديق في فندق فخم لنتمشى ونفكر بصوت عال في مستقبلنا، كصحافيين، أصحاب آراء واجتهادات، في العهد الآتي من الفاشية الطائفية إلى سدة النظام الديمقراطي البرلماني في الوطن المحتل!
وسألني ميشال بصوته الخافت ونبراته الهادئة: – ماذا قررت؟!
استبق جوابي فقال بهمس يشبه الحشرجة: – أنا عائد إلى بيروت، وقد دربت نفسي جيداً على استيعاب الواقع، ولغني طيعة، أما مشكلتك، أنت فصعبة.
أكدت له أنني عائد، خلال يومين، وليكن ما يكون،
قال: لن يسمح بشير بترف المعارضة، هل تستطيع أن تغير في أسلوبك؟! هل تستطيع أن تكتب بمثل هذا الأسلوب؟!
أخرج من جيبه أوراقاً كتب عليها معالجة محايدة كالصقيع لمسألة سياسية حارة إلى حد التفجر، ووقفنا تحت أحد مصابيح شارك “الريفولي” نقرأ الكلمات المبهمة والصيغ الملفوفة والتعابير التي اجتهد لإفراغها من دلالاتها الأصلية.
قال وهو يقرأ في صمتي المكابر : – لن تستطيع! (ثم هرب بعيونه إلى الظلال قبل أن يضيف) … وأغلب الظن أنني، أنا أيضاً، لن أستطيع لكنني سأظل في بيروت، وفي “النهار” وسأظل أكتب ولو كلمات بلا معنى، (تنهد ثم قال): وحسابي مختلف مع بشير، فأنا – في آخر الأمر – من المتن، أي من الحديقة الخلفية لبكفيا، دار الحكم الجديد.
ورحل بشير الجميل، قبل أن نعود كل إلى جريدته ولغته!
لكم هي رمزية لحظة رحيل ميشال أبو جودة.
لكأنه يطوي تاريخ العصر الذهبي لصحافة لبنان بوصفها صحافة العرب.
وصحافة لبنان كانت، بميشال أبو جودة وأمثاله في “النهار” و”الحياة” و”دار الصياد” و”دار الكفاح” و”الحرية” و”المحرر” في بداياتها، – وبغض النظر عن التعارضات السياسية – أكبر من المحليات اللبنانية!
كانت صحافة العرب حكاماً ومعارضين، فعبر مقال ميشال أبو جودة عرف اللبنانيون عبد الله السلال الثائر باسم الجيش والشعب المقهور في اليمن كما عرفوا الإمام أحمد والإمام البدر، ثم عرفوا من بعد معارضين الثورة التي ساهموا في صنعها، أو الدعوة إليها كمحمد أحمد النعمان وعبد الرحمن البيضاني، والقضاي الأرياني الخ… وعرفوا ثوار الجزائر الذين اقتتلوا بعدما تسلموا الحكم من أحمد بن بله إلى محمد خيضر وكريم بلقاسم وفرحات عباس وحسين آية احمد وعبد الحفيظ بو صوف ومحمد بوضياف (الذي قتلته الرئاسة المتأخرة ثلاثين سنة عن موعدها، كما قدر)… وعرفوا الثوار الذي خلعوا نوري السعيد في العراق، ثم الذين انشقوا على ذواتهم منهم، من عبد الكريم قاسم إلى عبد السلام عارف وأخيه عبد الرحمن إلى أحمد حسن البكر وعبد الرحمن البزاز وصديق شنشل وطاهر يحيى وعبد الرزاق عارف وناظم الطبقجلي وعبد الوهاب الشواف الخ…
ولقد عرفوا من مقال ميشال أبو جودة عن حزب البعث العربي الاشتراكي والصراعات التي تواترت فيه، عبر التطورات وجدالية الحكم والمعارضة، أكثر مما عرفوا عنه من الكتب والأدبيات والتصريحات والبيانات التي صدرت عن قياداته وأجنحته قبل الوحدة وبعد الانفصال وسقوط الجمهورية العربية المتحدة، أول تجربة وحدوية عربية في الأزمنة الحديثة بقيادة جمال عبد الناصر.
بل لقد عرفوا عن هذا القائد العربي العظيم نفسه، من خلال مقال ميشال أبو جودة، ما أضاف إلى صورته أبعاداً لم تكن تقدمها صحافة الموالاة والتأييد بالمطلق، ولا صحافة العداء المطلق والكراهية والأحقاد المختزنة.
ولقد مرت أيام صار فيها ميشال أبو جودة أهم من في الصحيفة التي يكتب فيها، وربما أهم منها ومن كتابها جميعاً. وكان بين مزايا غسان تويني أنه لم يضق ذرعاً بهذا الكبير الذي كان ذات يوم تلميذه، بل دخل معه في منافسة تستحق أن تسجل.
في كل منا، نحن أبناء جيله، شيء من ميشال أبو جودة.
كل منا أخذ عنه بمقدار، كما أخذنا عن الأساتذة الكبار في مصر ولبنان وديار بر الشام.
لكنه تميز بدمجه بين عدد من فنون الصحافة في “عامود” واحد معدود الكلمات، ليس مقالاً، وليس تحليلاً، وليس بالضبط خبراً، وليس رسماً لشخصية، ولكنه كل ذلك معاً. وربما لهذا تعذر على كثيرين تقليده، خصوصاً وإنه كان قد نذر نفسه لمهنته، فصار “راهب الصحافة” وعاشقها المتيم.
ولا يمكن أن يكتب تاريخ الصحافة العربية عموماً، وصحافة لبنان العربية خاصة، إلا وفيه فصل خاص عن ميشال أبو جودة ودوره في تطوير فن الكتابة الصحافية، وجعل المهنة أكثر مواءمة لروح العصر، بفكره الشمولي الذي أعطى الأحداث اللبنانية دائماً بعدها العربي، تماماً كما أعطى الأحداث العربية بعدها الدولي. فلقد ساهم ميشال أبو جودة، من خلال عاموده اليومي ومقابلاته ومساجلاته مع القادة العرب، ونظرته الواسعة هذه، وثقافته المطلة على كل جديد في العالم في القفزات العريضة التي حققتها الصحافة اللبنانية وجعلتها صحافة العرب… في عصرهم الذهبي الذي لم يعمر طويلاً.
رجل عاش يقرأ كثيراً، يسمع كثيراً، يتعلم كثيراً، ويكتب قليلاً، فإذا بكلماته المعدودة تفعل الكثير.
ولقد رحل بعدما ذهبت قيمة الكلام، وبعدما انتقلت الصحافة من أصحاب الفكر والاجتهاد إلى أصحاب المال الأسود، ومن منابر تنوير وتثقيف وأدوات تحريض على التغيير إلى نشرات ملكية تطمئن الرعية على صحة ملوكها وتحذرهم من أتباع القائلين بالثورة أو بالعدل أو بالديموقراطية باعتبارها بدعاً والبدعة ضلالة وأهل الضلالة في النار وبئس المصير!
الأحزان لا تأتي فرادى،
وليست مصادفة أن يكون نعي ميشال أبو جودة بعض المادة في صحيفة تنعي – بأخبارها المثيرة – بعض مستقبل الأمة، بمختلف أقطارها، ومعظم حاضرها وكل ماضيها.
لكن “الصمت مقبرة الجبناء”،
وسنظل نقول بأمل أن ينبلغ الضوء، في صبح جديد، كالذي عاش ميشال أبو جودة سنواته الأخيرة ينتظره بصمت مدو، ثم لما يئس وهده تعب الانتظار أسكت قلبه الكبير وانصرف وقد أدرك أن “حقيبة النهار” قد فرغت، ولو إلى حين.
والعزاء للصحافة العربية كلها، وبينها صحافة لبنان، وللزملاء في “النهار” وخصوصاً كبيرنا غسان تويني الذي قدر عليه أن يتحمل سلسلة من المآسي الشخصية، في السنوات الأخيرة، ما كان يخفف منها إلا أنها كانت تجيء متسقة مع النكبات القومية العامة، فإذا حزنه العميق بعض الحزن العربي الشامل.
وكلنا في الحزن سواء، يا أيها الأصدقاء.

Exit mobile version