طلال سلمان

على الطريق رحلة على الحدّ بين زمانين!

هل انحطم القيد وهدم السوروتحررت الإرادة واليد فبات الكلام ممكناً، حتى ولو انطلق على السجية متجاوزاً حدود المحظوروالمنافع المحمية بقوة السلاح؟!
هل سقطت الأساطير والأوهام ودعاوى احتكار الحق والحقيقة، واستعادت المسميات اعتبارها فعاد لبنان وططناً لجميع أبنائه، وعاد اللبنانيون شعباً واحداً (وعربياً) لا طوائف ومذاهب ولا مجموعة جاليات أجنبية أو محميات تموه حقيقتها بأسماء حركية محلية بينما يمتد جذرها عبر البحر أو عبر الصحراء إلى البعيد البعيد؟!
هل انتهى زمن الحرب وانفتح الميدان أمام الصراع السياسي، بقواعده الطبيعية المألوفة، بعدما عطل إرهاب الميليشيات العقل والمنطق والحركة والحريات العامة لدهر طويل؟!
هل سقط مع عون كل “العونيين”، من جاء قبله فقلدهم ومن انتهوا إلى تقليده باعتباره نموذج البطل المرتجى وتجسيم “الوعد” الذي لم يعش ليكونه “بشير”؟!
هل سقطت جيوش الطوائف مع سقوط جيشي الطائفة العظمى أحدهما في الحرب ضد الحاضنة والثاني في الحرب ضد التاريخ والجغرافيا، وكلاهما مع الجيوش الأخرى في الحرب ضد حقائق الحياة؟!
الحديث عن بيروت الكبرى… إذن فهي مقدمة لعودة الروح إلى الصحافة، إلى العمل السياسي، إلى الرأي والفكرة والحجة، إلى الدولة التي باتت في منزلة الحلم!
أينك يا بيروت من بيروت، واينك يا بيروت منا، وقد كنا نستخدم شاشات عدة لنستجمع صورة أحيائك التي تناتشتها الميليشيات وسورتها بخنادق من دم والشعارات البذيئة لحروب دينية مختلفة تخفي في جلابيبها الاتاوات والخوات وضروب “السلبطة” والتشبيح والهيمنة على مصادر الرزق والدخل العام والخاص؟!
بيروت الكبرى؟.. وقد صغروك يا بيروت حتى صرت مربعات محاصرة بينها معابر يتوزعها “الشركاء” على أهاليك المفروض عليهم التخاصم والتقاصف والتباغض والتباعد عبر مشاريع تجعل من كل قطاع أو حي “أمة تامة”، ومن الأهالي – الرهائن شعوباً وقبائل شتى لا يربط بينها رابط إلا المصادفات الجغرافية أو الغرادات الأجنبية ومصالح القوى العظمى.
بيروت الكبرى، تلك التي حدودها “فقش الموج” و”منسف الثلج” في الأعالي الميزرة بالغيم؟!
هل كانت طائرة حافظ الأسد بشارة النهاية لزمن الحر، وإعلاناً بفتح الطريق أمام السلام الوطني عبر مشروع الحل العربي المؤيد دولياً عبر وثيقة الطائف؟!
لنستكشف على الأرض… على الحد بين زمان الحرب وبين زمان السلام الموعود.
ببساطة مذهلة، وكما في الحكايات، ركبنا السيارة وقصدنا “الضيغة” في البقاع، على السفح الآخر لصنين المطل على بيروت بقرنيه العاريين… لانقراض مواسم الثلج!
توالت النقرات الحيية على صفيح السيارة وكأنها نقرات عاشق ملهوف يريد أن يفتح الباب لتداريه حبيبته في حضنها الدافئ خلفه قبل أن تنفتح نوافذ عيون الجيران والعوازل فيضبط بالجرم المشهود!
-أول الغيث قطر ثم ينهمر…
انهمر المطر زخات سريعة مموسقة معيدة إلى الذاكرة المجهدة سيرة أيام حلوة مضت ومضت معها مواسم الخير، وهتف صديقي: – سنشرب هذه السنة إذن!! لقد رحل القحط والجدب واليباس مع جنرال العتم! أعان الله السفير رينيه إلا على الذين ألجأهم إليه حماية لشرف فرنسا!
-أي طريق نسلك بير حسن – السفارة الكويتية – صبرا وشاتيلا – الغبيرة – حارة حريك – مشرفية – الشياح – حي ماضي – كنيسة مار مخايل – غاليري سمعان، أم مستديرة شاتيلا – الطيونة – طريق صيدا القديمة – بولفار كميل شمعون – مستديرة الصياد، أم تفضل البربير – المتحف – البويك – فرن الشبام – السكالا – الشيفروليه – الحازمية – الفياضية – الجمهور – الكحالة فعاليه؟!
كانت أسماء الشوارع والأحياء المتلاصقة تدوي في السمع برجع صدى الصواريخ وقذائف المدفعية الثقيلة… لشد ما تداخلت الجبهات حتى ألغت ناسها، بشيوخهم والنساء والأطفال الكثر، بمدارسها ودكاكينها ودور السينما والإدارات والوزارات والأفران بخبزها الشهي والمناقيش. أكلت نار الحقد كل شيء له علاقة بالحياة،وأبقت نصباً للدمار كأنها شواهد قبور المدينة – الأميرة ونوارتها الضاحية – الضحية المباني في جملة مشوهي الحرب. بعضها مبقور البطن أو الصدر، وبعضها قد سملت عيونها، ومعظمها بترت يداه أو قدماه أو إحدى اليدين وإحدى القدمين ومن خلاف!
من يجمع مزق العمر الضائع من بين حقول الألغام والسواتر الترابية والدشم المسلحة لاتي بالكاد قد رُفعت لتستعيد الحياة مسيرتها الطبيعية؟!
تؤنسك شجرة باقية من زمانك، وياسمينة سمقت ببسماتها البيضاء برغم الهجر والتهجير والاهمال ورائحة البارود والعطش إلى اليد الحانية التي تأخذها لتعطيها للاحب من بين الناس؟
شجيرات الورد الخارجة من الحمام تطل من خلل آثار القدم الهمجية لتعلن إن موكب الحياة لم يتوقف، وإن المدافع مهما “ثقلت” أعجز من أن تمنع النسغ من أن يسري بالرواء في ساق زهرة وليدة يجعلها ضوع العطر وبهجة اللون بمساحة مدينة؟!
ضهر الوحش!!
ما كان أبعدك يا درة المصايف، عاليه ! 12 كيلومتراً؟ والفاصل عشرةحروب، عشرون حرباً، خمسون… كيف دارت كل تلك الحروب الهائلة على مثل هذه الأرض الصغيرة؟! كيف أطلقت اليمنى على اليسرى، كيف شزرت العين العين، كيف أصمت الأذن، الأذن، كيف قصف البطين الأيمن البطين الأيسر؟!
هل قتل الوحش أخيراً ، وسقطت القائمقاميتان تحت سنابك الخيل العربية، وتهاوى كرتون الكانتونات ودويلات الطوائف ذات الأمراء النهمين إلى السلطة والثروة والدم؟!
لم يخالجني الشعوربالخوف، ولو من ألغام منسية، كان الطريق طريقي، اعرفه بالحجر والبشر والشجر والتماعات العيون حين تبرق بسعادة اللقيا.
كانت غربتي مستعارة ومفروضة، ربما لهذا لم يتملكني شعور “الفاتحين” ، ولم أقرأ في عيون الذين لفتهم عبوري والذين يشبهونني في كل شيء ما عدا اسمي، إن فتح الطريق “الدولي” طريق الشام، طريقنا إلى المصالح والشغل والرزق والخبز والحركة، حبل السرة مع الأهل، قد أسقطهم في هوة القهر.
كان علينا أن نمسح آثار سنوات الموت والغيبة والنسيان لكي نستعيد الملامح الأصلية فيعرف واحدنا الآخر ويهتف كلانا : – ها لله هالله، لكم أضعنا من أعمارنا!
لم أكن بحاجة إلى “دليل”، فلست طارئاً، ولم أكن بحاجة إلى كتب تاريخ ومراجع، فلست “خبيراً أجنبياً”، ولم أطارد “السائح” في لاني لم أكنه. كنت كالعائد إلى بيته بعد سفر طويل تبدلت فيه معالم. وغمره العمران، أو الخراب، فصار علي أن انتشله من ذاكرتي لأراه من ثم على الأرض. أحسست فقط إن الغلط قد تكوم – على مر العهود – متاريس وموانع وعوازل وسواتر لطمس الحقيقة الواحدة على جانبي “الخط الأخضر” الذي صار خط الدم، خندق الدم… الواحد!
أهو وقت الحساب أم وقت الغفران والمصالحة؟!
هل كانوا على الجانبين مقاتلين وضحايا جمهرة من الأبرياء غرر بهم “الآخر” فانتحروا جماعياً على دوي المدافع والسيارات المفخخة، ورصاص “البومب أكشن” المتفجر؟!
هل انتهى زمن الحرب، وآن أن يقول “المنتصر” للمهزومين: اذهبوا فأنتم الطلقاء، وعفا الله عما مضى، إنقاذاً لليوم والغد المهدد بالاندثار؟!
… ولكن “القادة” على الجانبين ينتظرون حصتهم من الغنيمة، ويضعون شروطهم لقبول احلكم أو المشاركة فيه، أفيفرض على الضحايا أن يدفعوا أكفانهم أيضاً ثمناً للأمن المرتجى ولتحسن سعر الليرة التي أذلها انكسارها المريع أمام الدولار… حتى قبل الاجتياح في الجزيرة والخليج؟!
لعلنا أخطأنا الطريق، لعله كان من الأفضل لو صعدنا مع طريق جسر الباشا – سن الفيل – المكلس – عين سعادة – بيت مري – برمانا – بعبدات حتى الدوار،
… أو مع طريق سن الفيل – البوشرية – جديدة المتن – انطلياس – عين عار- بكفيا – عين التفاحة وعبر الجوار والخنشارة، غير بعيد عن بتغرين، على ضهور الشوير – بولونيا – المروج – عينطورة – ترشيش هبوطاً إلى زحلة…
لم تعد الأسماء للأهالي . صارت للراجمات والمرابض والجبهات، بعضها محرر، (بالفتح)، وبعضها محرر (بالكسر)، والكل مكسور يحتاج إلى نقرة صغيرة فيتهاوى نثاراً محطوماً.
لا بد إن الخطأ “يكمن” فيمكان ما. يتربص بنغا عند هذا “الكوع” أو ذاك، كيف تنتهي حرب بهذه الشراسة والمدى المفتوح بهذا النصر الجماعي للمحررين – المحررين، وثمة بعد من يرفع الاعلام والشعارات القاتلة وهو يهزج بعد لصانعي مأساته وقتلة حاضره ومشوهي أبنائه والأجنة الذين بعد في الأرحام؟!
كيف تستعيد الأسماء براءتها الأولى: أسماء الأمكنة، أسماء أهلها، أسماء عيونها وسواقيها ومطلاتها وخراجاتها المشتركة مع الأخوة الأعداء في الأمكنة المحاذية، المكملة، الملاصقة ، المتداخلة، التي كانت تحدد بالغيم أو بضوء القمر أو بخط الشفق؟!
كيف تستعيد الذاكرةحيويتها وأنت تجاهد لكي تطمس فيها كل ما لا بد أن تنساه لكي تستطيع أن تستأنف حياتك فوق هذه الأرض التي رطنت وكالات الأنباء، وبكل اللغات الحية، بأسماء تفاصيلها ، من الجبال والتلال إلى القرى والدساكر والمزارع إلى الأحياء المشطرة في المدينة بل المدن المقسمة مثنى وثلاثا ورباعا، بوصفها مواقع ومذابح ومجازر طائفية ومحاجر يستوطنها وباء الحرب الأهلية بغير شريك؟!
ما أثقل الأسئلة وما أشد إيلامها؟!
لكن العقل يرفض أن يصدق أن الحرب قد انتهت بمجرد سقوط ذلك “الضابط الصغير”، الذي يحاول أعوانه الآن أن يتنصلوا منه بادعاء إنهم “مجرد عسكر سادة”، أو مجرد “أكاذيب كبيرة”، أو مجرد منفذين آليين لأوامر همايونية أصدرها طاغية فرد.
كما إن العقل يرفض أن يصدق أن جميع الشركاء الآخرين، من موقع الحليف أو من موقع الخصم، أو من الموقعين معاً، لجنرال العتم، سيكونون أبطال إعادة البناء والأعمار وقيادة لبنان عبر الجمهورية الثانية العتيدة.
لكن طريق الشام مفتوحة الآن ، ومن حيثما انطلقت تنتهي إليها، مصطحباً معك ذكرياتك السوداء على تلك الحواجز والسواتر التي جُرفت والتي جعلت كل شبر من لبنان خبراً عالمياً لفترة… وبالتعاقب.
ولكي يهون على رفيق الرحلة الأمر يقص علي حواراً طريفاً جرى بين السفير اللبناني في برن مع رئيس الاتحاد السويسري قبل عشر سنوات تماماً.
سأل الرئيس العجوز السفير الآتي لتقديم أوراق اعتماده: – اعرف إن الحرب الأهلية تجتاح بلدكم الجميل، يا سعادة السفير، كما مضى على اشتعال هذه الحرب؟
رد السفير اللبناني وقد كسا وجهه وصوته بألوان المأساة: – خمس سنوات طوال، يا سيدي الرئيس!َ
فهز الرئيس العجوز رأسه بوقار الحكمة ورسم على شفتيه ابتسامة باهتة وهو يقول: – أما نحن، هنا، فقد امتدت حربنا الأهلية لمائة وخمسين سنة، اقتتلنا على كل جبل، على كل “جل” وساقية وشجرة، حتى اهتدينا أخيراً إلى هذه الصيغةت الفريدة لنظامنا، وقرر كل منا الاعتراف بالآخر والقبول به. وقررنا جميعاً أن سويسرا تتسع لنا جميعاً باختلافاتنا العرقية والدينية والقومية والأهم : بخلافاتنا السياسية. أعانكم الله؟
هل آن زمن الاعتراف بالآخر؟!
وكيف يعترف الملغى بمن ألغاه؟!
وكيف يعترف اللاغي بالمغى من غيرأن يدفعه الشعور بأنه هزم إلى تجديد الحرب؟!
ثم… هل جاء زمن السلام الوطني؟!
لنتابع الرحلة، ولنكتشف معاً، ولنحذر رصاص الاغتيال في ربع الساعة الأخير، وهو يخترق جدار الأمن في بعبدا كما في بعض أحياء بيروت حاملاً رسائل الموت، وآخرزخاته تلك التي وجهت ليل أمس إلى مدير الزميلة “الشراع” وإلى من صادف وجوده في الشارع حتى لا يكون شهوداً على أصحاب المصلحة في استمرار زمن الحرب وفي تغييب بيروت التي تظل أميرة عربية، ولو للحزن، مهما صغروها ومهما اجتهدوا في تدميرها وإلغاء دورها.

Exit mobile version