طلال سلمان

على الطريق رحلة “الأمير” وصورة “العهد الجديد” دمشق تعطي للحل العربي لا للمتطرفين والبرلمانيون يجدون “رأسهم” بالقرار في بيروت

اقتربت لحظة الحقيقة.. فها هو “الأمير” قد عاد مخترقاً ضباب الطريق في الخارج وضباب القلق والتوتر داخل قصر المؤتمرات بالطائف، وباشر لقاءاته بالأقطاب وقادة المحاور ومراكز الاستقطاب بين النواب، ليبلغهم حصيلة محادثات العشرين ساعة “الصعبة والدقيقة والمثمرة” في دمشق،
والسهاد الذي امتد ثلاث ليال مرشح بعد لأن يطول،
وليس السؤال لمن يطلب الدقة: بماذا عاد الأمير سعود الفيصل من دمشق؟!
بل لعل السؤال هو: بطلب ماذا ذهب الأمير؟! وهل انقضت كل تلك الساعات الطوال من النقاش مع الرئيس حافظ الأسد ونائبه عبد الحليم خدام ووزير الخارجية فاروق الشرع في محاولة توفير إجابات مطمئنة لهواجس جبران طوق وموريس فاضل وميشال معلولي ومعهم عثمان الدنا وحميد دكروب؟!
واستطراداً : هل كان المطلوب فعلاً توفير مزيد من الضمانات لتخوف “النواب المسيحيين” على السيادة وكفى الله “المسلمين” شر القتال؟!
… أم ترى كان موضوع النقاش الشامل والتفصيلي والدقيق صورة “العهد الجديد” في لبنان في ضوء ما كشفته محاورات النواب خلال عشرين يوماً من الجدل الذي كانوا أعجز من أن يحولوه إلى أرض صلبة للتوافق وأقل شجاعة من أن يظهروا نقاط التباين والخلاف السياسي – عبره – على أدوار الطوائف وحصصها في جبنة الحكم؟!
وبمزيد من الدقة: ماذا يطلب النواب هنا؟! ومن منهم هم أصحاب المطالب، ولماذا يطلبون ما يطلبون، واين سيوظف هذا الذي يطلبون؟!
وقبل: ما هي قدرتهم على توظيف ما يطلبون في التعجيلي ببزوغ فجر “العهد الجديد” والانتهاء من أسار الأوضاع الشاذة القائمة؟!
وبعد: ما هي قدرتهم على ضمان تنفيذ ما يتوافقون عليه وعلى حماية ما يمكن أن ينالوه من القادر على العطاء؟!
ثم، وهذا هو الأهم: ما هو دور اللجنة العربية واين موقعها – بالضبط – في المرحلة التالية لمؤتمر الطائف؟! وهل هي، أصلاً، مجرد وسيط وحكم أم هي هيئة رعاية؟ هل لها قدرة على الالتزام بالتنفيذ، ومن أين تتأتى قوتها إذا أعوز الحل – في بعض مراحله – قوة ما؟!
… هل هي الضامن، والكفيل، معنوياً وبقوة القرار العربي، المدعوم دولياً، أم لها دور تنفيذي مباشر في السياسة كما في الأمن (عبر اللجنة الأمنية)؟!
هل تأخذ لنفسها أم تفاوض لحساب غيرها؟
من الصعب أن نتصور الأمير سعود الفيصل وقد عاد من دمشق بكيس من الهدايا ودار على أجنحة الأقطاب ومراكز الاستقطاب وقادة المحاور من النواب يوزع الهدايا، والعطايا، ليلاً، مثل “بابا نويل”،
وأصعب أن نتصور الأمير سعود الفيصل وقد جلس إلى الرئيس حافظ الأسد، في القصر الجمهوري بدمشق يفاوضه بلسان الدكتور جورج سعادة وبطرس حرب و”المشير” حيناً “الخبير” حيناً آخر نصري المعلوف.
ومستحيل بطبيعة الحال أن نفترض أن “صاحب السمو” قد ذهب “يشتري” من القيادة السورية حياة ميشال عون، أو إنه – بالمقابل – قد حمل إليها من مؤتمر الطائف رأس “الجنرال” على طبق من ذهب.
المستحيل الآخر أن يكون سعود الفيصل قد نسي خلال محادثاته مع الرئيس الأسد ما نسيه أو تناساه الكثير من النواب، المسلمين والمسيحيين، في الطائف عند مناقشة بند بسط السيادة: أي الاحتلال الإسرائيلي لبعض لبنان وما يعني سوريا متصلاً بضرورات الأمن القومي وأمنها الوطني.
… وطالما إننا لا نعرف بعد وبالدقة حصيلة العشرين ساعة من “المناقشات الدقيقة والصعبة والمثمرة” فلنحصر الحديث بقدرة من في الطائف على الطلب وعلى التوظيف وعلى ضمان تنفيذ ما قد ينالون، مع الاشارة إلى أن ما سينالونه لن يتجاوز بأي حال حدود توافقهم على صورة “العهد الجديد” في لبنان بكل مسؤولياته في الداخل وعلى الصعيد العربي وفي العالم، من غير أن نغفل الدور التخريبي للعدو الإسرائيلي، خصوصاً وإنه قوة احتلال لبعض الأرض ولبعض الإرادة العربية.
مع التقدير للجهد والسهر والاجتهاد في محاولة أداء دور وطني، فإن من الضروري تسجيل بعض الملاحظات على مؤتمر البرلمانيين اللبنانيين في الطائف وعلى أدائه، وبينها:
1 – إن المؤتمر بلا رأس، لا مرجع ولا مرجعية، لا قائد ولا قيادة. لا كتل واضحة محددة المصالح ولا قوى سياسية معلنة البرامج بحيث تولد حركة الصراع الديموقراطي في ما بينها نتائج محددة وقابلة للتوظيف في المشروع السياسي المطروح أو.. الموعود..
والكلام لا يستهدف بالنقد شخصاً أو مجموعة من الأشخاص، بل هو محاولة لإعطاء صورة مقربة عن المؤتمرين هنا الذين كثيراً ما عانوا من الضياع والتمزق والعجز عن التقارب والتفاهم ومن ثم التوافق المطلوب (والذي لا يتعارض من حيث المبدأ لا مع مصالحهم كنواب ولا مع تطلعاتهم كمتضررين من الحرب).
2 – برغم إن الأكثرية الساحقة من النواب يمكن تصنيفهم كمعتدلين فإن أقلية معدودة من المتطرفين أو المتشنجين قد تحكمت في مسار النقاش، في حالات كثيرة، وعطلت الوصول إلى التوافق المرتجى ليس لإصرارها على التوضيحات والضمانات، وإنما لأغراض أخرى معظمها خارج المؤتمر وخارج الطائف وخارج مدى المهمة التي انتدبوا لأدائها.
بين هؤلاء من كان يفترض – عن قصر نظر – إنه إنما جاء ليحصد ثمار انتصارات “جنرال التحرير”،
وبينهم من كان ينتدب نفسه لمهمة حماية رأس “الجنرال” من سيف الوفاق،
وبينهم من كان – عن خطة – يرفض مباشرة البازار قبل أن يستوثق من موقعه في “العهد الجديد”، مستفيداً من قدرته على المناورة وتهييج “المتحمسين” أو المذعورين من شبح الجنرال.
ولقد كان الدكتور جورج سعادة صادقاً ودقيقاً في التوصيف حين قال إن كثيرين يتخذونه متراساً، فالمزايد يقول: رئيس “الجبهة اللبنانية” هو قائدنا لا نقبل إلا ما يقبل به ونرفض ما عداه، و”المناقص” يقول: اقنعوا الدكتور سعادة فإن مشى مشينا!
وبين هؤلاء وأولئك كانت خطوط الهاتف مع بيروت (وبعض عواصم أوروبا) تحمل إليه النغمات نفسها مضافاً إليها – في بعض الحالات – التنبيه والتحذير من التفريط والتهديد بالمحاسبة على الخيانة العظمى!
3 – إن “الكبار” في المؤتمر، وكلهم من الأقطاب، لم يعودوا في وضع يمكنهم من القيادة، فهم قد تقدموا في السن بحيث صاروا أسرى الماضي السعيد وذكرياته ومنطقه الذي لا مكان له في الواقع.
ثم إن “القيادات الجديدة” لا تعترف بهم ولا تعطيهم “على الأرض” أي دور،
وأخيراً فإن “النواب” العائدين إلى النور وإلى الدور بعد طول اغتراب، واحتجاب يرون أنفسهم مضطرين للاصغاء أكثر إلى ما يصدر عن “أمراء الحرب”، هذا إذا لم يزين لهم الفراغ القائم بين الماضي والحاضر أن يتصدوا هم بأنفسهم للقيادة، خصوصاً وإن العرب والعالم قد اعترفوا بهم هم مصدراً وحيداً للشرعية.
وقد تكفي واقعة واحدة للايضاح:
فمع بداية المؤتمر، وخلال لقاء عقدته اللجنة العربية مع “الرؤساء الستة” من بين النواب المسلمين (الحسيني، عسيران، سلام، رشيد الصلح، أمين الحافظ وكاظم الخليل بوصفه رئيساً للسن…) قال كاظم الخليل موجهاً كلامه للأمير سعود الفيصل ما معناه إنه “يمون” على الكثير من المسيحيين، وبالتحديد على داني شمعون وحزبه، وإنه بموجب هذه الدالة واثق من إن المؤتمرين سيوافقون على الوثيقة العربية للوفاق الوطني كما وردت، مكتفين بضمانة اللجنة العربية.
قبل أن تشرق شمس اليوم التالي كانت اللجنة، ومعها الأمير، قد تلقت أكثر من توضيح صادر عن داني شمعون يفيد بأن كلام الخليل لا يعبر عن رأيه ولا يلزمه (وحزبه!) بأي شيء!
4 – بالمقابل فإن ثمة بين النواب من يرى إنهم إنما استدعوا باعتبارهم “قيادة المستقبل”، ولكنهم يفتقدون القوة الذاتية والموقف والأهلية ووضوح الرؤية، خصوصاً وهم يدعون لتصدر مرحلة لا يعرفون من ملامحها ما يكفي لبعث الاطمئنان.
صحيح إنهم يجيئون بعد إفلاس القوى التي تصدت للقيادة في ظل الحرب الأهلية ، لكن هذا الافلاس لم يشهر بعد، وهذه القوى ما زالت على سلاحها، وهي لم تحذف من هيكل “العهد الجديد” بل اعتمدت – مبدئياً – كركائز له.
كيف السبيل إلى علاقة سوية بين الجانبين؟!
كيف تستوي بندقية الحرب الأهلية شرعية في ظل العهد الجديد، ويصير نائب الماضي من صناع المستقبل، جنباً إلى جنب مع المتحكم في الحاضر؟! هل يكفي الفشل المشترك إطاراً لمشروع سياسي؟!
للمزيد من الايضاح يمكن إيراد واقعة:
خلال النقاش الحاد حول عدد النواب في “العهد الجديد”، وفي مجال تبرير الإصرار على رفع العدد إلى 128، وضرورة أن تتولى الحكومة التعيين وليس أن يتولى المجلس “انتخاب” الجدد، وصلت رسالة من أحد “أمراء الحرب” في بيروت تقول إنه لا يرضى بأن تخضع “نيابته” لموافقة (أو اعتراض) هذا أو ذاك من النكرات!
“الجديد” بحاجة لأن يستمد شرعيته من “القديم”، لكن “القديم” يحتاج الإقرار بهذه “الشرعيةط من قبل “الجديد”!
5 – ثم تأتي مسألة ميشال عون، وهي “مفتاح” مشروع الحل العربي المطروح.
من يقرر بشأن الجنرال وكيف ومتى واين وبأي سلاح؟!
الأكثرية الساحقة من النواب تسلم بأن “الجنرال” قد سقط فعلاً نتيجة لسقوط مشروعه الانتحاري.
لكن هذه الأكثرية تنقسم بعد ذلك إلى أكثر من اتجاه:
بعضها يقول بضرورة الاحتفاظ للجنرال بدور ما في “العهد الجديد”، إذ لا يمكن شطبه كلياً “فهو ما زال قوياً في الشارع، ثم إنه يملك أن يحرك آلاف الجنود، ولديه من الذخيرة لمدافعه ما يكفيه خمسة شهور أخرى وربما ستة…”.
وبعضها يريد ضمانات من الدول الكبرى بأن تتولى هي مباشرة “حذف” عون من المعادلة السياسية اللبنانيةن وتخوف من إمكان إنجاز المراحل المقبلة في خطة الحل العربي إذا لم يتم سلفاً إنهاء دور عون بأية وسيلة كانت، ترهيباً أو ترغيباً.
وبعض ثالث يرمي الموضوع بكامله على عاتق اللجنة العربية مفترضاً إنه بهذا إنما يؤدي قسطه للعلى: فاللجنة في تقديره تملك عصا سحرية قادرة على حل جميع المشكلات.
على إن ثمة بين النواب من يريد أن يرث ميشال عون في السياسة.
بصيغة أدق، هناك من يحاول أن يضحي بشخص الجنرال مع الاحتفاظ بطروحاته السياسية،
وإذا كانت ظاهرة غياب القيادات القادرة تشمل الطوائف جميعاً فإنها تتخذ طابعاً دراماتيكياً معطلاً لدى الطائفة المارونية باعتبارها صاحبة الدور الأول، بالسلب والايجاب.
ومؤكد إن التباعد أو غياب التنسيق وربما وحدة الموقف بين كل من البطريرك الماروني و”القوات اللبنانية” و”النادي السياسي الماروني” أو المسيحي ممثلاً بالنواب، قد أثر سلباً على سير أعمال المؤتمر، وأضعف إمكان الوصول إلى قرارات حاسمة وبالسرعة المقبولة.
ومؤكد إن هذا الوضع يحد من القدرة على إنجاز هيكلية “العهد الجديد”،
كذلك فإن هذا الوضع يدفع الطائفة العظمى إلى طلب المزيد من الضمانات والتطمينات إذ أن “الخارج”، في هذه الحالة، هو المصدر الوحيد لتوكيد الذات والأهلية والحق بدور أساسي في المستقبل.
“صعبة ودقيقة ومثمرة” كانت مباحثات الأمير سعود الفيصل في دمشق.
ومن الجائز الافتراض إن أصعب وأدق ما عرضت له هو ما بعد الطائف في ضوء ما وقع في مؤتمر البرلمانيين أو ما أمكن – مؤقتاً – تجنب وقوعه، وما يفترض أن يتحوط الجميع لاحتمال وقوعه غداً في بيروت.
المهم بيروت وما سيكون فيها، وبعد ذلك يكون الحديث في عين دارة والمديرج وحمانا والبقاع،
المهم أن يتم الانتقال من “الوضع الشاذ” إلى “العهد الجديد”، وهذا ما يحتاج إلى ضمانات بعضها في الداخل وبعضها لدى العرب وبعضها الأخير في يد الخارج.
واللجنة العربية صاحبة دور حاسم وخطير إذا هي مكنت وجدد تفويضها وعززت قدراتها للعب هذا الدور “على الأرض”، أو هكذا يقدر المقدرون.
المهم الالية والكيفية وتحويل النفوذ المعنوي إلى قوة مادية.
وثمة في الطائف من يرى أن هذه بالتحديد كانت مواضيع للتفكير والبحث المتأني والنقاش الجاد والمسؤول بين القيادة السورية وبين ضيفها الأمير سعود الفيصل.
فليست اللجنة العربية “وسيطاً” بين دمشق وبين “الجنرال”.
وهي ليست “وسيطاً” بين دمشق وبين المسيحيين في لبنان، سواء أكانوا نواباً أو مواطنين عاديين، لا هي طلبت، ولا هي ترضى لنفسها أن تكون في هذا الموقع.
كذلك فليست اللجنة العربية “قيادة سياسية” للبنان المستقبل ولا يمكن أن تكون،
لا هي تنظم العلاقات بين ذينك “الشعبين في دولة واحدة”، ولا هي فوق الدولتين أو الحكومتين،
لكنها مؤهلة لأن تلعب في هذه اللحظة السياسية دوراً قومياً ضرورياً ولا غنى عنه،
ومن هنا فإن دمشق تعطيها، في السياسة، ما يمكنها من أداء هذه المهمة الحيوية للبنان وسوريا وسائر العرب،
وهي لا تعطيها على حساب لبنان واللبنانيين، أو على حساب الدور السوري في لبنان، ولكنها تعطي “الحل القومي” الذي اعتمدته القمة العربية، والذي ثبت – فعلياً – إنه مرشح لأن يكون الفرصة الأخيرة لإنقاذ لبنان.
… ولقد اقتربت لحظة الحقيقة في بيروت أيضاً.
ومن الضروري أن يكون الجميع على أتم الاستعداد لمواجهة تبعاتها الجسام!
والتبعة الأولى أن يتمكن هؤلاء العائدون من الطائف بالتوافق من تحويل نواياهم الطيبة إلى قرار، وأن يفتحوا – بالشرعية – الطريق لانتصار فكرة الدولة على “أمراء الطوائف”، والسلام على الحرب والمنتفعين بها والمستمرين باستمرارها.
وفي الطليعة من هؤلاء “جنرال حرب التحرير”.
… وفي انتظار أن يتلاقى الجهد كله في بيروت ينهمر في الطائف مطر غزير يغسل الكثير من الكلام الرديء الذي قيل بالمزايدة أو بالمناقصة أو للتهرب من تحديد موقف ومن إعلان رأي ولو في مجال التعليق على موقع هذه المدينة التي تقتعد منبسط ما قبل القمة من جبل غزوان.
والمؤتمر مثل الطائف: يقتعد منبسط راحة يد أسطورية، تحيط به قمم الجبال من الجهات الأربع، تحميه من ريح السموم ولكنها “تطوقه” وتحدد حركته… في اتجاه الحل.
وتبقى الكلمة الأخيرة لبيروت وفيها.

Exit mobile version