طلال سلمان

على الطريق “رامبو” وعالمه الجديد!

حتى هذه اللحظة يبدو الرئيس الأميركي جورج بوش أقرب إلى صورة “هادم” النظام العالمي القديم منه إلى “باني” النظام العالمي الجديد ، بل لعله بطل إطلاق رصاصة الرحمة على ذلك النظام المتهالك الذي هدمه – قبله – بناته المفترضون والقيمون عليه بكفاءة عالية لم يمتلكها أبداً خصومه. وإذا كانت القاعدة “البائدة”: لا يبني الشيوعية إلا الشيوعيون! فإن التجربة الحسية قد أكدت صحة هذه القاعدة معكوسة أيضاً، أي: لا يخرب الشيوعية ولا يهدمها إلا الشيوعيون!
وحتى هذه اللحظة، ولاسيما في ضوء المحنة العراقية، فإن الرئيس الأميركي يبدو أقرب إلى صورة “رامبو” المدجج بالسلاح وبإرادة القتل وبالرغبة الجامحة في التدمير منه إلى الإمبراطور أو القيصر وهو يمد جناحه بـ “السلام الروماني” فوق الكون بأسره.
ومن خلال تجربة “المواجهة” مع صدام حسين فإن الرئيس الأميركي تصرف بأسلوب “البلطجي” و”الدب” – وهو لقب الدلع للجنرال شوارزكوف في أي حال – أكثر مما قدم نفسه وكأنه القيم على والمسؤول عن بناء نظام عالمي جديد يستحق شرف التسمية لأنه يقدم حلولاً للمشكلات والمآسي الإنسانية التي تسبب فيها النظام القديم.
وإذا كانت الولايات المتحدة قد تصرفت خلال وعبر انهيار المعسكر الاشتراكي بعقلية التاجر المغامر الذي تسبب في إفلاس منافسه البليد واسترد منه السوق ففتحها للهمبرغر والبيبسي كولا والشيكلس، فإنها عبر تصديها لمغامرة صدام حسين الخرقاء قد تصرفت بعقلية المنتقم الجبار الذي كان يبحث عن فرصة لتأديب العالم كله وإخضاعه كله، بشرقه وغربه، ووجد ضالته في ذلك الطاغية – الطاووس، فلما واتته أحرق الزرع والضرع ودمر مقومات الحياة كافة، مطلقاً يد الطاغية إياه في إبادة شعبه وتشريده بحيث تتوفر له – مرة أخرى – فرصة الظهور بمظهر المنقذ للبلد الذي اشترك مع الطاغية في ذبحه من الوريد إلى الوريد.
أوروبا (الشرقية) تؤخذ بالرفق… بالتظاهرات والمسيرات والاستفتاءات والمناشير والاعتصامات وسائر أساليب الديموقراطية الغربية وبينها صناديق الانتخابات التي تنبت فيها – كبيوت البلاستيك – القيادات الجديدة المشبعة بالروح القومية إلى حد الشوفينية، والمشدوهة إلى حد البلاهة بطريقة الحياة الأميركية.
أما “العرب” فيؤخذون بالشدة وقاذفات “ب 52” والباتريوت والقنابل الموجهة باللايزر، وبتظهير تخلفهم لا فرق بين “حليف” و”عدو”:
*فالسعوديون يواصلون رحلتهم الصحراوية فوق الجمال، بينما طائرات “اف 15 – وأف 16” والطائرات “الشبح” تحلق فوق قوافلهم التي لم تتبدل وسائلها وطرقاتها منذ بدء الخليفة!! رجالهم ممنوعون من التعبير عن آرائهم وممارسة وجودهم، ونساؤهم ممنوعات من أبسط الحقوق “المدنية” بما فيها قيادة السيارات!!
*والعراقيون “قطيع” يسلس قياده الطاغية يقوده إلى الدمار والخراب، لا يعترض ولا يجتح ولا يثور فيخلع “صدام”… وبين طرفة عين وانتباهتها يتحول هذا الشعب من طاقة تفجير عظمى تهدد الكون، إلى مجموعات من المشردين البائسين الذين يقتتلون على رغيف خبز أو شربة ماء أو علبة طون تلقيها شاحنات جيش الاحتلال الأميركي.
أبشع من هذا وألعن: في ضوء نتائج الهزيمة التي قاده إليها صدام حسين، تحرك هذا الشعب بفئاته ومناطقه كافة، من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال، فماذا كان رد الفعل الأميركي؟!
لقد اعتصم جورج بوش “بمبدأ” عدم التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان الأخرى (!!) تاركاً جيش صدام حسين بمدافعه البعيدة المدى ودباباته الثقيلة وحرسه الجمهوري يفتك بالمنتفضين والثائرين العراقيين في الجنوب بداية ثم في الشمال، محولاً عسكره – في لمحة بصر – من قوة احتلال إلى رجال إسعاف ودفاع مدني وصليب أحمر يجلبون لإغاثة الملهوف… الكردي؟
*أما الكويتيون فهم في العين الأميركية أقل من شعب وإمارتهم المحروق نفطها دون مستوى الدولة!
ومن المفارقات المضحكة إن إدارة جورج بوش التي دعمت، ولو بشكل غير مباشر، “عدوها” صدام حسين للبقاء حاكماً مهزوماً وذليلاً خاضعاً لوصايتها وانتدابها المباشر، تتصرف بطريقة تؤذي حليفها الضعيف والمستجير بها ومستدعيها إلى المنطقة، جابر الأحمد الصباح، وتخلخل “عرشهط و”الحق التاريخي” لأسرته في حكم الكويت، الآن وعلى الدوام وإلى دهر الداهرين آمين.
بالمقابل فإن إسرائيل تؤخذ بالرفق… بالزيارات المتوالية، بسيل متدفق من المساعدات العسكرية (الاستراتيجية) ومن الاعانات والهبات الاقتصادية، وبدعم سياسي غير محدود يشمل الضغط المؤثر على “الحلفاء” العرب لتقديم مزيد من التنازلات بذريعة توفير الأمن للدولة، الخائفةن في حين إنها أقوى من مجموعهم.
والأمن، كما تطلبه إسرائيل وتحاول فرضه يتعدى النطاق العسكري إلى المياه والتجارة والدخول في الدورة الاقتصادية العربية بعد إنهاء حالة الحرب معها!!
من أين يمكن استخلاص النموذج أو الملامح للنظام العالمي الجديد الذي تبشر به إدارة بوش؟!
هل من تجربة السياسة الأميركية مع منظومة حلف وارسو في أوروبا الشرقية، خلال انهيار نظامها الاشتراكي المتآكل بالجمود والتعفن والعقم واغترابه عن أساسه النظري؟
أم من تجربة السياسة الأميركية مع شركائها في حلف الأطلسي، وحلف جنوبي شرقي آسيا، من دول أوروبا الغربية (الحليفة) إلى اليابان؟!
في التجربتين حرمت الولايات المتحدة الأميركية حلفاءها الكبار من نعمة المشاركة في القرار ثم في الغنائم ولعلها كانت أكثر رحمة مع الدول الخارجة من التجربة البائسة للاشتراكية البوليسية منها مع الدول التي تشترك معها في الإيمان بقيم العالم الحر وتعيش (تحت قيادتها) في ظلال النعيم الرأسمالي.
ولقد كانت إدارة بوش أشد ما تكون فظاظة مع فرنسا والمانيا واليابان، على سبيل المثال، في حين تصرفت برقة ما بعدها رقة مع بولونيا والمجر وصولاً إلى ليتوانيا وأستونيا وماللديفيا البلطيقية!
أترى تقدم هذه الممارسات مع “الغرب” – ناهيك بالعلاقة الابتزازية المفتوحة مع تجربة غورباتشوف في الاتحاد السوفياتي المنهك والمتداعي الأركان – صورة لما سيكون عليه النظام العالمي الجديد؟!
ثم هل تقدم الممارسات المتباينة التي تسكلها الإدارة الأميركية مع العرب عموماً من جهة، ومع الفلسطينيين منهم بشكل خاص، ومع الإسرائيليين من جهة ثانية، صورة لما سيكون عليه نظام الأمن الإقليمي الجديد في منطقة الشرق الأوسط؟
وهل السلوك الأميركي الحلف مع حل من تركيا وإيران، عبر الاستغلال القذر لمأساة أكراد العراقن يكمل صورة هذا النظام الأميركي الجديدة لهذه المنطقة العربية – الإسلامية؟
في أي حال فلقد كان في المنطقة “بلطجي” إقليمي يهدد شعوبها وكياناتها دائماً بقوة السلاح (والتبني) الأيمركي، هو المستعمر – المستوطن الإسرائيلي،
ويبدو وكأن النظام الإقليمي الذي تتحدث عنه واشنطن سيعتمد في قيامه كما في مهماته على ما يحقق مصالح هذا “البلطجي” المحلي، في حين يتولى “البلطجي” الأكبر، رامبو الأميركي، مسؤولية توطيد أركان النظام العالمي الجديد.
لكأنما يراد تحقيق “السلام الإسرائيلي” في هذه المنطقة، تحت ظلال وفي حمى “السلام الأميركي”، المنشور اللواء فوق أربع رياح الأرض.
لكن “رامبو”، لا يشبه بأي حال “القيصر” وهو لا يستطيع تقليده، تماماً كما لا تشبه واشنطن الجديدة روما القديمة،
… هذا قبل أن نغرق في متاهة الفقه حول: هل يعيد التاريخ نفسه وكيف!
أما الإسرائيلي فسيظل الوضع العربي مصدر قوته وهيمنته، وفي الدرجة الثانية تجيء فعالية سلاحه الأميركي.
وبرغم كل شيء فالسلاح قد يمكن صاحبه من الهيمنة بالبطش والقهر والتدمير والإخضاع عنوة، ولكنه لا يبني حضارة، وبالتالي فهو لا يبني عالماً جديداً، بل لعله يسرع في انهيار من كان يفترض نفسه البديل والدليل الوحيد لعالم أكثر عدالة وأكثر ديموقراطية وأكثر اهتماماً بالإنسان.
محطات صغيرة
*أجهزة أعلام الميليشيات، منظمات القمع الطائفي المنظم والقتل على الهوية ونهب الدولة وتدمير مؤسساتها، هي التي تروج للديموقراطية في الجمهورية الثانية، التي ترى نفسها مؤهلة لقيادتها!
وفي حين “تناضل” “القوات اللبنانية” لاختلاس مقعد أو مقعدين نيابيين إضافيين، بالتعيين، فإنها ترفع عقيرتها بالتهييج ضد مبدأ التعيين!
لمن يعاني من ضعف الذاكرة: ألم يصل سمير جعجع إلى موقعه الحالي بالانتخاب الديموقراطي الحر؟!
*للمناسبة ذاتها: إن أنظمة الطغيان، باسم الدين أو باسم القبيلة، هي الأكثر فصاحة الآن في الحديث عن الديموقراطية وضرورة تمكين الشعب من ممارستها.
الميليشيات في كل مكان، تماماً مثل الأميركان، وكما مارست القمع في ظل الدعم الأميركي الديموقراطي، ها هي ترفع عقيرتها بدعاوى الديموقراطية، صدوعاً للأمر الأيمركي.. الديموقراطي!
*جلال الطالباني، زعيم الحزب الديموقراطي الكردستاني، والذي كان “تصور” في زاخو، على أساس إنه داخل لتحرير العراق من صدام حسين، يعلن وقف إطلاق النار مع صدام بلا تبرير مقنع، هل هو احتراف المناورة، أم ثمة نكبة أخرى؟

Exit mobile version