طلال سلمان

على الطريق رابين – القاهرة – 23 يوليو

اسحق رابين في القاهرة!
والتوقيت أكثر إيلاماً من الخبر الأسطوري: عشية الذكرى الأربعين لثورة 23 يوليو (1952)، الموعد القدسي لحالة الوعي بالذات والنهوض القومي التي لم تعمر طويلاً،
منتصراً جاء، واستقبلوه – وهو بطل هزيمتهم – كصانع للسلام: فرشوا السجاد الأحمر على مداخل قصر القبة، وتجاوزوا البروتوكول فعاملوه كرئيس دولة، وصفوا له أبناء الشهداء في حرب 1967 طابور شرف، ثم جعلوا القصر – الشاهد مقر إقامته، استثناء في التكريم.
ذاكرة المهزوم سكين في جرح مفتوح، تطارده كاللعنة فتمنعه من النسيان ولو باليأس، وهو إحدى الراحتين.
والسياسي الناجح هو من يستأصل ذاكرته، أو يعقمها ليغتال فيها ما يوجع… ولذا فهو، في العادة، يعتبر نفسه بداية تاريخ جديد، ما قبله العدم وكأنه “الأول” بالمطلق بعد انقطاع طويل للزمن وحدثانه، وليس له من “أسلاف” إلا أبطال الماضي السحيق ممن كشفت عن وجودهم الحفريات الأثرية فاستخرجت أسماءهم الغريبة من قبورهم منقوشة على حجر ميت.
والقاهرة هي الذاكرة وثورة 23 يوليو هي التاريخ – الضد، تاريخ ما بعد الاستعباد والاستعمار والتخلف والجهل والظلم والمرض، هي الميلاد والبعث، هي راية التحرير والقتال في فلسطين من أجل الأمة وغدها الأفضل.
… ولعظيم لياقته، لم ينس إسحق رابين أن يهنئ المصريين بـ “العيد الوطني” الذي مسخ وتعهر حتى بات موعداً لاستقباله في القاهرة التي غادرها العيد منذ عقدين ونيف ولم يعد إليها أبداً.. وقيل إنه استشهد في سيناء، وقيل بين رفح والعريش، وقيل بل في غزة، وإن كان بعض المؤرخين يؤكدون أنه قضى على عتبة المسجد الأقصى في القدس الشريف، يوم “الزيارة” وخطاب الكنيست!
نصب الجندي المجهول لا يبعد كثيراً عن قصر القبة. إنه عند مدينة المعارض، بوابة مدينة نصر، التي استولدتها ثورة 23 يوليو على الضفة الصحراوية لمصر الجديدة.
نصب الجندي المجهول يرتفع هرماً جديداً رائع الهندسة على طرف ساحة العرض، حيث سقط بطل “الزيارة” صريع الصلح الأبتر في “حادث المنصة” الشهير.
هرم الأسماء الحية للذين أعطوا مصر دماءهم كي يصدوا عنها الغزوة الصهيونية ، كان عليه أمس أن يستقبل إسحق رابين، الذي انحنى في تواضع المنتصر تحية لعظمة الشهادة والشهداء، ثم انحنى مرة أخرى تحية للحاكم الذي ذهبت به دماء هؤلاء حين فرط بها.
ولقد قالتها جيهان السادات يوم قررت أن يدفن زوجها تحت النصل المثقل بأسماء الأبطال: “- ضعوه هنا، لكي لزاماً على كل الكبار الذين يزورون مصر، وبالتالي لكل رؤساء مصر، أن ينحنوا له على مر التاريخ”!!
التذكير بقرار التقسيم عودة إلى التاريخ، كما قال اسحق رابين، مضيفاً بشيء من التصرف: لماذا لا تعودون إذن إلى الكتاب المقدس (التوراة)؟!
الذاكرة الصهيونية بلا ضفاف، والذاكرة العربية بلا قعر.
وها هي الذاكرة الصهيونية تكاد تنسب النظام العالمي الجديد إلى “العهد القديم”، في حين انسربت من الذاكرة العربية أسماء مثل “فلسطين” و”الثورة” و”الحرية”، ولم يعد على لسان المسؤولين الجدد إلا كلمة واحدة “السلام”!
ورابين في القاهرة مظهر حي من مظاهر “السلام” الموعود، خصوصاً وإن اسم ثورة 23 يوليو وصانعها صار بين تلك الأسماء التي تطرز نصب الجندي المجهول.
هذا كلام خارج السياسة، ما علاقة السياسة بالذاكرة؟! ما علاقة السياسة بالتاريخ كله، وبالجغرافيا على وجه الخصوص؟!
ثم إن الذاكرة تعيش على الوجدان والعاطفة، تحفظ ما يمس المشاعر فيثير مثلاً الاعتزاز ، أو يستنبت المرارة، أو يفاقم الشعور بالانكسار والمذلة وهوان افتقاد الهوية، تلك الوريقة المرتبطة بالأرض والتاريخ والكرامة الخ.
وجيمس بيكر لن يأخذ أكثر مما يلزم ولاية جديدة لرئيسه جورج بوش ، ولدى العرب الكرماء ما يفيض عن حاجتهم من الأرض والثروات والذكريات والتاريخ والشهداء والمشاعر، فهل يجوز أن يبخلوا عليه فلا يغيثوه وهو الملهوف؟! هل انعدمت مع الكرامة الشهامة؟!
وها هو يؤكد باللسانين، الإنكليزي والعبري، إنه طلب من إسرائيل ألا تمضي في حل منفرد مع الفلسطينيين من وراء ظهر سوريا ولبنان (والأردن) وعلى حسابهما،
فماذا نريد أكثر من هذا التطمين لكي نعطي رابين لكي يعطي بوش قبل الانتخابات فيعطينا بعدها؟!
من يطلب نصراً فليستخرجه من الذاكرة،
أما من يطلب “حلاً” فلا بد له من رابين، هازم شامير، ومجمد المستوطنات ، ومفاوض الفلسطينيين على شكل علاقتهم بالأرض اليت كانت أمهم وهويتهم فصاروا مجرد مقيمين عليها… حتى إشعار آخر!
والهزيمة على الأرض، وكذلك في الذاكرة.
و23 يوليو صارت بعض الماضي طالما عجزت عن استيلاد المستقبل.
ولا بد من حاضر جديد يستعيد دماء الشهداء ليصطنع منها ثورة الغد الأفضل.
وفي انتظار ذلك اليوم سيظل جمال عبد الناصر مجرد اسم لمحطة مترو في القاهرة (رسمياً)، بينما رابين في قصر القبة، و”السيد” الأميركي هو من يصنع للذاكرة برامج خاصة على الكومبيوتر لا ذكر فيها للأرض أو التاريخ أو الثورات والحرية والاشتراكية والعدالة وسائر أصناف الإرهاب!

Exit mobile version