طلال سلمان

على الطريق رئيس بالابتزاز!

يتعاطى اللبنانيون، عموماًن مع “معركة” رئاسة الجمهورية وكأنها “حدث خارجي” لا يعنيهم مباشرة وإن كان يسليهم ويمتعهم بطرائفه في زمن الأحزان والهموم اليومية الصغيرة!
فـ “المعركة” بين “الآخرين”،
و”المعركة” ذات أبعاد “إقليمية” و”دولية”،
و”المعركة” فيها الغرب كله ممثل بالولايات المتحدة الأميركية، يواجه سوريا التي تنوب وتمثل، من حيث المبدأ، العرب كلهم، أو إنها تحاول أن تحمي حق العرب في لبنان.. العربي.
ثم إن لإسرائيل رأياً أو دوراً لا بد من أخذه بعين الاعتبار، ولو كان مثله مثل دور الفاتيكان وفرنسا وسائر الغرب، ضمن “الحصة” الأميركية،
أما لبنان فهو الملعب – المسرح – الميدان – الساحة، وأما اللبنانيون فهم الجمهور، جمهور المشجعين، و”الهتيفة” والمراهنين، لهم حقوق المشاهد، أو الشاهد، ولكن من موقع النظارة وليس من موقع صاحب الشأن وبالتالي صاحب الحق في القرار.
و”المعركة” بين “الأقوياء”.. واللبنانيون يدركون، بعيداً عن العنطزة التي اشتهروا بها، إنهم أضعف من عليها!
و”المعركة” بين من يرسم السياسات ويعتمدها.. واللبنانيون بطلوا أن يكونوا شعباً مسيساً، بغض النظر عن كونهم لا يتحدثون إلا في المواضيع السياسية، أو ذات النكهة السياسية، ويعتمدون السياسة طريقاً إلى المال والأعمال والصفقات المجزية.
ثم إن اللبنانيين، وبالتحديد القوى السياسية المنظمة في أحزاب وهيئات وتجمعات، أو الزعامات ذات التاريخ والباع الطويل في نسج العلاقات وابتداع التحالفات المستحيلةن قد استنفدوا جهودهم في “المعارك” الأخرى، تلك التي دمرت حياة اللبنانيين وخربت بيوتهم وشوهت مستقبل أجيالهم الآتية.
أبسط دليل إن ليس بين طابور المرشحين المتزايد كل يوم، بل كل ساعة، مرشح واحد يجب من عداه، أو يحدد بصفاته ومؤهلاته معايير ومقاييس حتى لا نقول أسصول ترشيح الذات لمنصب جليل كرئاسة الجمهورية في مثل هذا الظرف الخطير!
ليس للترشيح سقف،
ليس للرئاسة حصانة تحميها، أو هيبةن ترد عنها طمع المرتكبين أو التافهين،
ليس للرئاسة مستوى يُفرض على المتقدم إليها شروط حد أدنى كتلك التي يعتمدها مجلس الخدمة المدنية لوظيفة كاتب أو محرر، حتى لا نعقدها بالقول “رئيس دائرة” أو إدارة عامة أو ما شابه من وظائف الفئة الأولى!
هزلت، يقول البعض الآن!
ولكنها بمواصفاتها الأصلية مهزلة!
فلكل وظيفة عامة أو خاصة، في لبنان كما في أي بلد آخر، شروط ومواصفات ومعايير، إلا رئاسة الجمهورية اللبنانية!.
لا شرط في ما عدا شرط الانتماء الطائفي، من حيث المبدأ، والباقي شطارة وليست شروطاً!
فالعلاقات مع القوى السياسية في الداخل “حربقة” وتفوق في “التكتكة”، أو تماوت واستضعاف بحيث يغفل عنه الأقوياء فلا ينتبهون إلى هذا الضعيف – المسكين. اللا أحد – العاجز – التافه إلا حين يختلفون في ما بينهم فيوفر لهم المخرج وقاعدة والاتفاق!
والعلاقات مع الخارج شطارة وبراعة في تسويق الذات واستعداد لعقد الصفقات التي يتردد أو يتخاذل غير هفلا يعقدها أو يتعهد بعقدها متى وصل… فإذا وصل استخدم البراعة إياها لاستيلاد الأسباب والظروف التي تمنع تنفيذ التعاقد أو تجعل التنفيذ متعذراً في ظل “ظروف قاهرة” لا قبل له بمواجهتها!
هزلت… يقولون، الآن!
ولكن، هل كانت انتخابات 1982 الأولى ثم الثانية غير مهزلة مأساوية؟!
هل كانت حقاً “انتخابات”؟!
هل كان للشعب اللبناني، شعب الـ 10452كلم2، رأي في انتخاب بشير الجميل، ومن بعده أمين الجميل رئيساً للجمهورية؟!
هل كان مثل هذا ممكناً من دون الغزو الإسرائيلي، ومن دون حصار بيروت، وقهر الإرادة العربية جميعاً، سواء أتمثلت بسوريا أم بالمقاومة الفلسطينية، أم ببقية العرب الذين أداروا وجوههم إلى الجهة الأخرى حتى لاعين ترى ولا تقوم حجة لمطالب بموقف من الغزو والغزاة!
هل قصد النواب بإرادتهم الحرة إلى ثكنة الفياضية لكي يقولوا كلمة شعب لبنان في مستقبل الحكم فيه، مع التذكير – من دون تشهير – بمن حبس مهم في شقة مقفلة، وبمن “اختطف”، وبمن جيء به في صندوق السيارة، حتى لا نذكر من قبض وكم قبض وممن قبض، فالقبض تقليد لبناني ثابت لا يحول ولا يزول؟!
الطريف إن أعتى المعترضين على الدور السوري في لبنان اليوم هم بالتحديد أولئك الذين صدعوا للأمر الإسرائيلي بانتخاب بشير، ثم أمين الجميل… وبعضهم تطوع فأعطى صوته من دون طلب معبراً عن كرمه وسمو أخلاقه وبعد نظره السياسي!
والطريف – المؤلم إن هؤلاء ذاتهم يقرون بحق أي موظف أميركي في أن يتدخل ويقرر أخطر وأدق شؤون السيادة والاستقلال في لبنان، بل هم يطلبون هذا التدخل ويلحون عليه ويعتبرونه دليلاً لا يدحض على أهمية لبنان الكونية!
بل إن هؤلاء يذهبون إلى العربي البعيد ويطلبون، وبإلحاح شديد، تدخله لكي يوازنوا به دور العربي القريب، سوريا، فتخلوا الساحة من ثم للأميركي ومن خلفه الإسرائيلي!
والأطرف إن هؤلاء جميعاً هم هم الذين زحفوا إلى دمشق، ذاتها، في العام 1976، يفوضونها ويبايعونها ويعرضون عليها المشاريع الوحدوية، ويتركون لها أن تختار لهم رئيس جمهورية لبنان وحكومته وسائر القيادات!!
هذا يفرض الاستنتاج: إن ليس للسيادة معنى محدد وثابت، وليس للاستقلال قيمة بذاته.
فالسيادة مثلها مثل الاستقلال، مثلها مثل الرئاسة بلا سقف ولا حدود ولا حصانة، وكل القيم مطاطة وخاضعة لتقلبات الظروف،
فالتدخل الخارجي، حتى لو كان مصدره إسرائيلياً، قد يكون في لحظة معينة، في نظر هؤلاء، تعزيزاً للسيادة، وتوكيداً للاستقلال وتحصيناً لموقع الرئاسة الأولى التي هي رمز الوطن وضمانة الكيان ومصدر الطمأنينة للخائفين على حرياتهم الشخصية بدءاً بحرية المعتقد وانتهاء بحرية التعبير والسرية المصرية.
ثمة سقف واحد ومعيار واحد وشرط واحد: موقع الطائفة في النظام الذي فصل على مقاس الكيان الذي ابتدع على مقاس الطائفة!
وكيف يكون للبنانيين رأي في “معركة” يشكل التدخل الخارجي، وتشكيل الضمانة الأجنبية، ويشكل الارتباط الدائم بالأ<نبي إطارها والمحتوى؟! وكيف لا يمارس هذا الأجنبي، عبر مثل هذه المعركة، ابتزازاً غير محدود على الحريصين على وحدة لبنان وعلى سيادته (الفعلية) وعلى استقلاله (الحقيقي)، ومن ثم على الطرف العربي الأقوى في لبنان والأقرب غليه؟! في ضوء هذا كله يمكننا أن نفهم كيف تمارس واشنطن ابتزازها لنا، في لبنان وفي سوريا، عبر تبنيها لموقف الأكثر تطرفاً في طائفيته، والمستقوي بقدرته، على تعطيل الانتخابات إذا كانت نتائجها ستحمل إلى الرئاسة ممثلاً للاعتدال والتوازن مع حقائق الحياة في لبنان والمحيط العربي، فواشنطن التي أكرهتنا، قبل على ست سنوات، على القبول برئيس لا نريده ولا يمثل طبيعة الواقع السياسي والاجتماعي في لبنان، بحجة إنه "الأقوى"، وإن "الرئيس القوي" هو وحده القادر على "فرض الحل"، تحاول إن تكرهنا اليوم على القبول بالأضعف والأعجز من بين المرشحين، بحجة إن بين شروط الحل أن يكون الرئيس بلا لون ولا طعم ولا رائحة! وهي معادلة مريبة تكشف إن واشنطن، ومن خلفها إسرائيل، لا تريد للحرب أن تنتهي في لبنان! فوصول ذلك "الرئيس القوي" لم يكن يعني غير إدامة الحرب، تماماً كوصول الأتفه والأعجز من بين المرشحين إلى سدة الرئاسة اليوم. ذاك كان رئيساً قوياً علينا بإرادة الخارج، والعدو في الخارج أساساً. وهذا يراد له أن يكون ضعيفاً أمام الخارج، وضمن هذا الخارج الأميركي العدو الإسرائيلي. وفي الحالين فإن الحرب ستستمر إلى ما لا نهاية!! والطريف إن العاملين، بسياستهم المتطرفة، لإدامة الحرب، هم الذين يصفونها بأنها "حرب الآخرين" على أرضنا! ... وهم الأعلى صوتاً في البكاء على سيادة لبنان واستقلاله وعزته والكرامة الوطنية! ... وهم الذين يوفرون الشروط الموضوعية لنجاح سياسة الابتزاز الأميركي للبنان وللسوريين وسائر العرب.

Exit mobile version