طلال سلمان

على الطريق “دول” الدولة الهشة..

بين أبرز ما تكشفه تجربة الاثنين والعشرين شهراً من عمر “الجمهورية الثانية” إن سوريا هي الضمانة الفعلية “لمؤسسات” الحكم وليس فقط لأشخاص أطراف الحكم وأدوارهم ومواقعهم فيه.
بدءاً بالرئيس السوري حافظ الأسد، فنائبه عبد الحليم خدام، وصولاً إلى سائر المسؤولين السوريين، يركزون حديثهم مع أهل الحكم اللبنانيين على “المؤسسات” وضرورة تحصينها وتدعيمها واللجوء إليها دائماً كإطار للحوار السياسي الجاد وبالتالي للوفاق الوطني.
فـ “المؤسسة” في العين السورية، سواء أكانت مجلس الوزراء أم المجلس النيابي أم رئاسة الجمهورية، هي الصيغة المثلى لتجاوز الطائفية والخروج من مستنقعها الآسن.
وحديث نائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام، أمس الأول في قلب المقر الرئاسي، عن “المؤسسات” بينما الموضوع الشاغل هو تعثر الحكم عموماً والخلاف بين أطرافه، يدل الجميع على المخرج الذي لا بديل له وعلى الصيغة العملية للتسوية الدائمة القابلة للحياة.
وفي هذه اللحظة السياسية تجديداً فإن “المؤسسة”، وبالذات مجلس الوزراء واستطراداً المجلس النيابي، توفر الإطار المناسب “للمشاركة” بمعناها الراهن: أي مشاركة “أمراء الحرب” في القرار السياسي الذي كان حكراً (في الجمهورية الأولى؟!) على “أهل التقليد”.
من هم “أهل التقليد”؟!
إنهم “ترويكا الحكم” حسب التسمية الشائعة والتي، بحد ذاتها، تلغي المؤسسات جميعا… ومع هؤلاء الأكثرية العددية من الوزراء والنواب،
أما “أمراء الحرب” الذين صنفوا أنفسهم أو صنفتهم سبل وصولهم إلى دست الحكم من أهل التجديد فهم قادة الأحزاب – الميليشيات – الطوائف الذين أمضوا معظم سنوات الحرب (لاسيما الأخيرة منها) “رؤساء” ثم لم ينالوا في “الجمهورية الثانية” التي يفترضون إنها قامت بفضل “نضالاتهم”، كل على جبهته، أكثر من مرتبة “الوزراء” وإن تم تمييزهم بلقب فخم مثل “وزراء الدولة”.
إنهم يريدون تعويضاً عن “دولهم” الخاصة التي كانوا أقاموها وحكموها في زمن الحرب، حيث كان لكل منهم “جيشه” و”حكومته” و”محاكمه” و”سجونه” و”شرطته” وأجهزة مخابراته إضافة إلى العلم والنشيد و… الحرس الملكي!
وفي “الدولة” خلل يمنع تسنمهم “الرئاسة”، أي رئاسة، أقله حتى إشعار آخر.
وهم ينظرون إلى أنفسهم وإلى واقعهم “الشعبي” فيرون أنهم “أكبر” من الذين اضطروا إلى التسليم بهم “رؤساء”.
كيف “الرئيس” يصير وزيراً، مجرد وزير، عند “رئيس” كان حلمه أن يصير ولو مرة وزيراً؟!
كيف يقفون فيزررون ستراتهم لهؤلاء الذين لولاهم لما كانوا شيئاً مذكوراً؟!
ثم، وهذا هو الأخطر كيف يُستبعدون هم، وهم من هم، عن “القرار”، وينفرد به “ثلاثة” أي ثلاثة ممن لم يحملوا سلاحاً ولم يقاتلوا ولم يتحملوا أعباء الحرب وأوزار المحاربين؟!
وفي تقدير هؤلاء فإن بدعة “الترويكا” إنما هي حل تلفيقي لمسألة المشاركة في القرار، بالمعنى الطائفي، كما إنها “هرطقة” و”تجاوز” بالمعنى الدستوري.
لقد كان الحكم، قبل الطائف، ووفقاً للصيغة التي يعتبرونها بائدة وبين أسباب الحرب الأهلية، يقوم على ثنائية يختزل فيها “الماروني” المسيحيين كافة و”السني” المسلمين كافة،
بعد الطائف حصل تبدل في الشكل لكن المضمون، في رأيهم، استمر على ما كان عليه، وإن كان إشراك “الثالث” – وفي المناسبات – يخلق إشكالاً خطيراً إذ يهدد دور المجلس النيابي كسلطة رقابة على الحكم، بقدر ما تعطل الثنائية (وكذلك الثلاثية) دور مجلس الوزراء كؤسسة للحكم.
فاشترك “الثالث” إنما يتم على حساب وزراء “طائفته” ممن يفترضون أنهم الأولى والأحق بأن يكونوا “الشركاء” في القرار، بحكم مواقعهم في الحكومة.
بل إن إشراك هذا “الثالث” بالذات هو الذي سهل استبعاد “أمراء الحرب” عن القرار واستطراداً عن مركزه، خصوصاً وقد ساعد على “تمويه” المشاركة عندما أزال عنها دمغة الثنائية.
وبمراجعة سريعة “للمؤسسات” وكيفية بنائها يلحظ “أمراء الحرب” أنهم قد استبعدوا أيضاً – ونتيجة لتحجيم أدوارهم ومواقعهم – عن “المجلس الأعلى” الذي نصت عليه معاهدة الأخوة والتعاون والتنسيق بين لبنان وبين سوريا، إذ احتكره أهل التقليد من رجال “جمهورية الاستقلال” سيئة الذكر!
فإذا ما وصل الأمر إلى حكاية الوفد المتعدد الرؤوس إلى الأمم المتحدة بلغ السيل الزبى وتفجرت الأحقاد والمآخذ والمعارضة لتكريس هذه البدعة “سنة” للعهد وجمهوريته، ليس فقط على المستوى المحلي وفي حدود العلاقة مع دمشق، وإنما أيضاً على الصعيد الدولي عبر اللقاء العتيد مع ملك الكون في النظام العالمي الجديد الرئيس الأميركي جورج بوش.
أين السبيل إلى تسوية عملية ومقبولة تحفظ مراتب الأطراف جميعاً من دون أن تلغي الدولة، ومؤسساتها على وجه الخصوص؟!
عبد الحليم خدام يكرر النصيحة السورية الدائمة: حصنوا المؤسسات، اختلفوا واتفقوا ما شئتم ولكن داخل المؤسسات لا خارجها، احموا المؤسسات تكبروا بها.
فكيف العمل إذا كانت المؤسسات هشة البنيان طرية العود كأبنية جاهزة رُكبت أجزاؤها على عجل ومن دون تدقيق في اختيار مواقعها الصحيحة وتناغمها مع الرسم الهندسي الأصلي؟!
في انتظار الأخذ بالنصيحة السورية سيظل البناء، برمته، مهدداً،
فأهل الحكم في “الجمهورية” يحاولون باستمرار تحجيم أدوار “أمراء الحرب”،
و”أمراء الحرب” سيردون دائماً بالطعن في كفاءة “أهل الحكم” والشهير بهم،
وبين التشهير والتشهير المضاد ستتساقط المؤسسات (الضعيفة أصلاً وبحكم الانقطاع عن الممارسة) صرعى، ويتهاوى مشروع دولة ما بعد الحرب.
وسيظل “الجمهور” خارج “الجمهورية” ينتظر استقرار صيغتها واستقرار العلاقات بين أطراف الحكم فيها على قاعدة عملية صحيحة وصحية.
وسيظل المال هارباً إلى البعيد حتى لا “يضيع” هباء في بلد يعيش مرحلة انتقالية، وربما أيضاً حتى لا يتفق عليه المختلفون في ما بينهم، إذ في هذا المجال تتنحى الطوائف والمؤسسات جانباً ويسلم بالشراكة والمشاركة المتنازعون على الحكم في “الجمهورية” الفقيرة إلى حد الافلاس!

Exit mobile version