طلال سلمان

على الطريق دولة هذه الحكومة…

يتابع اللبنانيون بكثير من التوجس والريبة ما يرشح من أخبار وشائعات عن الخلوة الوزارية التي يفترض إنها تناقش أوضاع الإدارة تمهيداً لوضع المخطط الاصلاحي لإعادة بناء الدولة وفق مواصفات “الجمهورية الثانية”.
ومصدر التوجس افتقاد الثقة في قدرة الحكم على إنجاز مثل هذه المهمة الخطيرة، وفي هذا التوقيت بالذات، ولا يعني هذا، بالضرورة، الطعن في أهلية الرؤساء أو الوزراء (وما أكثرهم)، ولكنه يتصل بطبيعة المرحلة الانتقالية التي يعيشها البلد والتي تجعل الأحكام والتقديرات دائماً “بين بين”.
فلا أهل التقليد استعادوا اعتبارهم تماماً،
ولا أهل “التجديد” من أمراء الحرب وميليشياتها أثبتوا من الجدارة – كحكام – ما يطمئن الناس إلى عدالة أحكامهم وتجردهم وبراءتهم من “حزبياتهم” بل من عصبياتهم الطائفية والمذهبية.
ولعل المنافسة الفعلية الآن بين “أبناء الجمهورية الأولى – آباء الجمهورية الثانية” تدور في بعض جوانبها حول إثبات إيهم الأصح تمثيلاً لطائفته أو لمذهبه، وأيهم بالتالي صاحب الحق في نيل الحصة الأكبر في عُمد الإدارة الجديدة ودهاقنة الإدارة القديمة.
الخطاب السياسي شيء والممارسة الفعلية شيء آخر،
و”المسؤولية” تبدأ في “المجلس الملي” وتنتهي بإخضاع الدولة لمنطق كوتا الطوائف.
حتى شعار “إلغاء” الطائفية يأخذ منحى طائفياً، يفرض على الذين لم يكونوا في أي يوم طائفيين أن ينضبطوا لكي يتسنى لهم دخول النعيم الإداري باسم مذاهبهم وليس بكفاءاتهم أو بشهاداتهم وخبرات السنين.
ثم إن أهل التقليد يريدون أن يعوّضوا عن “سنوات الحرمان” ومن هنا فهم يطالبون بحصة إضافية تعادل ما أخذته الميليشيات خلال عصرها الذهبي، وتبدأ المساومة: هات وخذ، حتى تنفد الحصص فلا يبقى “للحيادي”، أي لمن يرمز إلى “الدولة” ما يكفيه لقوت يومه.
وبالتأكيد فإن “المبادئ” التي سيتوافق عليها أهل الحكم ستكون نموذجية، لكن التعيينات والترفيعات وتقاسم الحصص ستأتي محكومة بما يناقض تلك المبادئ وينقضها ويجعلها أثراً بعد عين.
ولقد يتحمس أهل الحكم جميعاً، على سبيل المثال، لقوانين من نوع “من أين لك هذا”؟
ولقد يبادر بعضهم إلى طرح اقتراح بأن يقدم كل مسؤول كشفاً بحساباته وأملاكه قبل التعيين لتتم مقارنته لاحقاً، إثباتاً لنظافة كفه وعمق عفته…
لكن هذه الخدع ما عادت لتجوز على أحد، “فالشمس طالعة والناس قاشعة”، و”المكتوب يقرأ من عنوانه”، وقد ألصقت بهذا العهد – صدقاً أو ظلماً – مجموعة من الاتهامات التي غلبت سوء السمعة على سوء الحظ.
ومع إن اللبنانيين يقدرون الإنجازات الكبرى التي تمت في العمر القصر لهذا العهد، إلا إنهم يربطونها بالأقوياء في الخارج، ويستبقون لهذا الحكم وجوه التقصير والنقص وأخبار الصفقات التي قد تكون بمعظمها غير صحيحة.
في أي حال، فلأمر ما ما يزال العهد يفتقر إلى “الشعبية”،
وهو – برغم الايجابيات التي ترتبط به – لم يدخل البيوت والقلوب بعد، ولم ينجح في تكوين جمهوره.
والمواطنون قسمان: قسم ضده، والقسم الآخر ليس بالضرورة معه، حتى جمهور الدولة الطبيعي يجد صعوبة في اعتبار هذا الحكم مجسداً للدولة.
لكأنها حالة انتقالية لا يرى الناس حاجة للتحزب معها أو ضدها،
ولأن العواطف والمواقف مائعة فلا الموالاة انتظمت ولا المعارضة تبلورت في برامج ومطالب تنتظم في صفوفها قوى اجتماعية محددة.
بل إن المعارضة أشباح، في الداخل والخارج، أبرز أمثلتها التزمير لميشال عون في نفق نهر الكلب، أو التسلل ليلاً لكتابة اسم “الجنرال” على حيطان بيوت بعض المسؤولين هنا وهناك.
ومع إن الرئيس الياس الهراوي، تحديداً، قد اتخذ العديد من المواقف الشجاعة، و”اقتحم” العديد من المواقع المحسوبة تقليدياً لمعارضيه، فإنه لم يكتسب بعد ملامح “الزعيم” وليست له بعد دولة ليكون رجلها.
ومجلس الوزراء أوسع من أن يكون جبهة، وأضعف من أن يكون قيادة سياسية للبلاد. وصورته في ذهن العامة مزيج من ملامح المجلس الملي ومجلس إدارة المنافع،
إنهم ثلاثون، ومع مراعاة كل الاعتبارات واللياقة والحرص على التضامن الحكومي و”الشراكة” فهم لم يصبحوا “وحدة”، ولعلهم أقرب إلى الآحاد المتوازية منهم على الجبهة.
واللبنانيون يقولون بلسان بعض ظرفائهم اليوم إنهم يخافون من الخلوة الوزارية لسبب محدد: فإذا اختلف أهل الحكم فرطت أما إذا اتفقوا فقد فرطت الدولة.
وحبل الخلوة طويل… ولعله يحدد عمر حكومة البين بين.

Exit mobile version