طلال سلمان

على الطريق دولة سليم الحص والاستقالة من الاستقالة

مرة أخرى، انتبه اللبنانيون، يوم أمس، إلى أنهم بلا دولة، بلا حكم، بلا حكومة، وإن الدكتور سليم الحص يكاد يكون – وحده – الرمز الأخير الباقي لكل تلك المؤسسات التي كانت لهم، ذات يوم، وكان لها سادتها وقادتها والأقطاب وأصحاب الألقاب المفخمة.
ففي ظل تفجرات الجدل البيزنطي المتجدد، الآن، بين الرئيس الحص وبين الرئيس كميل شمعون ومعه “الجبهة اللبنانية”، استذكر اللبنانيون واقعهم المأساوي بتفاصيله جميعاً: إن معضلتهم في بلادهم تتجاوز في خطورتها وفي مخاطرها حدود الانقسام أو الانشطار السياسي، نتيجة لاختلاف في الرأي أو في الاجتهاد أو التعارض بين منطقين وأسلوبين ونهجين حول المصلحة العامة،
وكما إن هذا الجدل لا يعكس، في منطلقاته ، مجرد، “حوار داخلي” بين أعضاء في حكومة واحدة، فإن خواتميه أو نتائجه لا يمكن أن تكون “تسوية مقبولة” بين أطراف تتصارع سياسياً في ظل التسليم الفعلي بدولة واحدة لها، بالنتيجة، حكمها الواحد الموحد مهما تعددت وجهات النظر داخل مؤسسات حكمه الشرعية.
فهناك منطقان لا يستقيم الربط بينهما: منطق الدولة، وهي غير موجودة إلا رمزياً، ومنطق ممثلي دويلات الأمر الواقع التي قامت على أنقاض الدولة، وبأموالها وموظفيها وإداراتها الرسمية، مع شيء من التعديل بالحذف أو بالإضافة.
ولأن سليم الحص رفض أن يكون طرفاً، ونجح في أن ينفي عن نفسه صفة الطرف أو الخصم، بالمعنى الفئوي أو بالمعنى الحزبي، مسلحاً كان أم غير مسلح، فقد نجح فيأن يستبقي لذاته بعض الشرعية في تمثيل ما هو عام وجامع وموحد، أي الدولة.
ومن هنا قربه الشديد من موقع “المواطن” وبعده عن موقع “الحاكم”، وكذلك عن موقع “المعارض” بالمعنى التقليدي للكلمة.
فلقد توحدت الدولة، في ضعفها الراهن، مع المواطن، لأول مرة في تاريخها: كلاهما عاجز ومهيض الجناح، كلاهما منهوبة موارده وأسباب حياته، كلاهما مغلوب على أمره ومزورة إرادته ومحظور عليه التعبير عن نفسه وتأكيد وجوده لأن وجوده يلغي الآخرين “الأقوياء”، وليست له القوة لإلغائهم…
هكذا بات ممكناً لرجل مثل سليم الحص، لا هو بين أمراء الطوائف وبين قادة الميلييات ولا بين “الوكلاء المعتمدين” لدول الخارج القوية، أن يمثل دولة لم تعد قائمة إلا رمزياً ولم يعد لها من علائم الوجود إلا الاسم ولا جواز السفر (المزور غالباً) ودعم الرغيف والمحروقات، وهو الموضوع المعلن للخلاف الأخير المفتوح.
هي دولة سليم الحص، هذه الباقية إذن… فهو الممثل الشرعي الوحيد للجمهورية اللبنانية بحكمها وحكومتها وسائر المؤسسات!
هو، سليم الحص، الوزير المتقدم باستقالته الأولى، منذ حوالي السنتين، ثم المتقدم باستقالته الثانية منذ أكثر من سنة، والمكلف – بالإكراه والاضطرار والخديعة – أن يكون وكيلاً لرئيس مقتول لحكومة مستقيلة منذ مئة يوم،
هو، وحده تقريباً، يرمز الآن إلى الدولة ويجسد ما تبقى من وجودها وأيضاً من عجزها عن الفعل، كما تثبت مطالعة سليم الحص في محاولة الاستقالة من الاستقالة.
فسليم الحص الممنوع من ممارسة الحكم ممنوعة عليه أيضاً الاستقالة ويكاد يكون مستحيلاً عليه التخلي عنه… وهذا هو حال الدولة: ممنوع عليها أن تكون، ومحظر عليها أن تختفي وتزول تماماً:
لماذا هو وحده الدولة؟!
لأن رئيس الجمهورية معطل نفسه ومعطل الآخرين، موضوع القطيعة والمقاطعة والمتسبب فيهما، والمشل لمؤسسة رئاسة الجمهورية وسائر المؤسسات الدستورية، وفي مقدمها الحكومة، لم يعد معنياً بالدولة وما يقع لها منذ أمد بعيد وبعيد جداً،
ولأن “اتحاد حكومات الوحدة الوطنية” كان قد انهار حتى من قبل أن يتم اغتيال الرئيس الجامع والموحد والقادر على التعويض عن غياب غيره، رشيد كرامي، فتحولت هذه “الحكومات” بعد كرامي إلى مجموعة دوقيات أو إقطاعيات أو إمارات أو حتى قبائل متصارعة تقتتل يومياً على أسلاب السلطة، وكل يستغل الختم الذي بيده ليمرر ما يناسب أغراضه، مطبقاً مع زملائه – الأعداء قاعدة: “تشوفني بعيني أشوفك باثنتين”، أو “شيلني واشيّلك ، أنا برضه فرحت لك”، أو “مرسوم بمرسومين وكرمى لعين تكرم مرجعيون”!!
لهذا كله فالجدل بين الرئيس الحص وبين الرئيس شمعون ومعه “الجبهة اللبنانية” لا يعني أكثر من تجدد إعلان الحرب الأهلية، وهذه المرة أيضاً، ضد الدولة أو ما تبقى منها.
فكميل شمعون ليس أكثر من نموذج صارخ لمقولة “الحكم من موقع المعارضة” التي يمارسها رئيس الجمهورية والنافذون من الوزراء والمسلحون الذين في الخارج، حتى الآن، والذين يحاولون اقتحام السلطة ببنادقهم المعززة بدبابات حليفهم الخارجي أو بدولاراته الوفيرة.
الوحيد الذي يحاول أن يحكم فلا ينجح لأن نجاحه مستحيل هو سليم الحص، بمعنى تحمل المسؤولية عن البلاد والعباد وما يقع لها ولهم، أو عليها وعليهم،
والوحيد الممنوع من المعارضة هو سليم الحص بمقدار ما يتمثل في نفسه الدولة وتلك المسؤولية عنها، عن أرضها وشعبها والمؤسساتز
أي إن الأضعف، إطلاقاً، هو المكابر المصر على أن يقوم بواجبات الحاكم المقتدر، والمحمّل نفسه تبعات هذا المركب الخشن،
وهو كذلك، أو لذلك، الوحيد المستغلة رمزية تمثيله للدولة والحكومة، ومن ثم غياب القرار.
بل إن سليم الحص ليس وزيراً بالمعنى المألوف لهذه الكلمة… حتى امتحانات البكالوريا لا يستطيع أن يقرر إجراءها، أو أن يحدد مواعيدها وأمكنتها والأسئلة، في انتظار أن “يتوافق” الجعاجعة، كل الجعاجعة، على أمر، فيكون عليه أن يعتمده ويمهره بالختم والتوقيع، وكفى الله المؤمنين شر القتال.
إذن ما معنى هذه المعركة اليائسة يخوضها سليم الحص الىن، وهو بلا سلاح وبلا غطاء، إلا تعاطف المواطن العادي معه، وضمن حدود لا تستفز السادة الأقوياء؟!
هل هي نزعة “دون كيشوتية”، أم عملية استشهادية، أم محاولة أخيرة لثقب السقف السميك، أم هجمة يائسة بدل الاستمرار مصلوباً في موقع الدفاع عن النفس، وهو الضحية، أم إنها عملية ضغط تستهدف “إحراجهم” لكي يخرجوه، فمفهوم ومعلوم تماماً إنهم – هم – لن يخرجوا إلا على رؤوس الحراب!
في أي حال، وبغض النظر عن النتائج، فمفيد أن يقول سليم الحص مثل الذي قاله، ومن موقعه، وأن يسمي الأشياء بأسمائها، برغم إن الناس يعرفون أكثر مما أعلنه “ناطور الدولة” و”ضمير المواطن” الذي لا يملك أكثر من “سلاح الموقف”،
وأهم النتائج المتوقعة أن يتم تصحيح بعض المغالطات فيعود اللص لصاً مطارداً ومشهراً به، ولو معنوياً، بدل أن يكون هو المهاجم وهو المطارد وهو مدعي الشرعية والمعطي نفسه صفة القيّم على القانون والنظام ومقدرات البلاد وسلامدية الكيان،
ولعلنا نطمح على ما هو أبعد: إلى الفصل بين هذا النظام الفريد وبين هذا الكيان المجيد وبين محتكريهما باسم الولاء والضمانات والخوف، فتكون لنا – في غد – دولة أخرى وحكم يوحد ولا يفرق،
لعل سليم الحص والذين مثله يصيرون أصواتاً مرجحة في معركة انتخابات الرئاسة المقبلة، فننقذ عبر الرئاسة الجمهورية بدل أن نخسر بسبب الرئاسة الجمهورية كما تعودنا أن يكون في الماضي وكما هو واقع الحال في هذه الأيام السوداء!

Exit mobile version