طلال سلمان

على الطريق دعوة إلى الإنقاذ… بالحوار – 5 – عن مسؤوليات “أمل” و”الاشتراكي”: حديث في السياسة لا في الأمنيات!

… ونصل إلى الحديث عن مسؤولية حركة “أمل” ونبيه بري، ومسؤولية الحزب التقدمي الاشتراكي ووليد جنبلاط، عن الوضع البائس الراهن في بيروت الغربية، وعما وقع ويقع في مناطق من الجبل وجنوب الصمود.
ولكي يتخذ هذا الحوار سياقه الطبيعي علينا أن نحدد، ومنذ البداية، وفق أي معيار أو مقياس سيتم تحديد المسؤولية، وبالتالي مناقشة مدى النجاح والإخفاق في ممارستها.
*إن البعض يحاسب “أمل”، وكذلك “الاشتراكي”، وكأنهما – منفردين أو مجتمعين – هما “الدولة”، ويحاكم نبيه بري أو وليد جنبلاط، أو كليهما، وكأنهما “الحكم”، أي رئاسة الدولة والقيادة الشرعية للبلاد.
وهو بهذا يعطي هذين التنظيمين اللذين أوصلتهما ظروف محددة إلى صدارة العمل السياسي، أكثر مما يستحقان أو يطلبان، والأهم أكثر مما يمارسان حقيقة، ومن ثم فلا بد أن تأتي أحكامه جائرة وغير صحيحة، مهما اجتهد في أن يكون منصفاً، فالتشخيص الخاطئ لا يمكن أن يؤدي إلى علاج سليم.
*والبعض يحاسب “أمل” و”الاشتراكي” – منفردين أو مجتمعين – وكأنهما أصحاب مشروع انقلابي متكامل له برنامجه السياسي المحدد والشامل لأمور الوطن والمواطن، على صعيد النظام السياسي، كما على الصعيد الاقتصادي، وعلى صعيد المسألة الاجتماعية كما على صعيد التربية، وعلى صعيد الثقافة كما على صعيد موجبات الانتماء القومي.
وهو بهذا أيضاً يعطي هاتين الحركتين الجماهيريتين ما لم تدعيانه وما لا تسمح به طبيعتهما، إضافة إلى أن الظروف العامة للبلاد لا تعطي فرصة لأي حزب بالذات ، أو لأي طائفة بالذات (ناهيك بالمذهب) للاستيلاء على السلطة وفرض برنامجها الخاص (متى وجد!).
*وبعض ثالث يسقط على “أمل” و”الاشتراكي” تمنياته هو وتصوراته (حتى لا نقول أحلامه وتهويماته) حول “سلطة الشعب”، معززة بما علق في خياله من ملخصات مجتزأة عن ترجمات مشوهة لتجارب مختارة في مجتمعات بعيدة، أو بما اختزنته ذاكرته من حكايات الجدات أو حكايات ألف ليلة وليلة، أو ما سمعه ففهمه عن أساطير تحكي عن “المدينة الفاضلة” أو عن “المستبد العادل” أو عن “الشاطر حسن” أو جيش الملائكة الذي يصل دائماً في اللحظة الأخيرة فينقذ الأميرة المحاصرة بالغيلان والحيتان والتماسيح والمارد في العين الوحيدة…
وهو بهذا يريد أن يصدق إن حرباً أهلية جاوزت السنوات العشر من عمرها يمكن أن تكون مجرد كابوس ينتهي بالاستيقاظ (أو بكبسة زر ، أي زر)، أو يمكن أن تبقي في قوى البلاد السياسية من العافية ما يمكنها من إقامة سلطة الشعب، وأي شعب (!!) إذا ما استذكرنا أن أرض لبنان الضيقة تتسع لسبع عشرة طائفة (وهذا من دون الفلسطينيين)؟!
** بالمقابل فهناك من لا يرى في “أمل” و”الاشتراكي” غير تنظيمين طائفيينه، على رأس أولهما رجل مهووس بالسلطة ومحكوم بعقدة الزعامة، وعلى رأس الثاني رجل مهووس بالدم ومحكوم بعقدة التاريخ، وإن كل ما صدر ويصدر عنهما باطل بباطل، وإنهما يمارسان قهر الطوائف الأخرى (وزعاماتها) ويعملان معاول الهدم في الدولة لأنها تشكل عقبة دون مطامحهما في الهيمنة والتفرد بالسلطة والانتقام لماضي القهر (في حالة نبيه بري) أو لاستعادة الأمجاد الغابرة (في حالة وليد جنبلاط).
** وهناك من لا يرى في حركة “أمل” ورئيسها نبيه بري غير “تابع” و”عميل” للنظام السوري يأتمر بأمره فلا يخرج عن إرادته أو عليها، في حين ينظر إلى علاقة وليد جنبلاط والحزب التقدمي الاشتراكي بالنظام السوري على إنها علاقة بحت انتهازية أملاها الاضطرار إلى دفع تهمة ممالأة العدو الإسرائيلي من جهة، والحاجة إلى حليف قوي لمواجهة المد الكتائبي الذي وصل إلى ذروته مع الغزو الإسرائيلي فحاول توظيف تحالفه مع العدو للهيمنة على لبنان كله، وعلى جبل لبنان والشوف أساساً بشكل خاص.
** ثم إن هناك من يرى إن صعود هذين التنظيمين المعزز كل منهما بزخم استقطاب للمذهب (الشيعة في حالة “أمل”، والدروز في حالة “الاشتراكي”)، لا بد أن ينتهي بصفقة منفردة يعقدها أحدهما أو كلاهما مع الطائفة المارونية باعتبار إنها “صاحبة امتياز” الكيان اللبناني فإذا مست مواقع سيطرتها أو أزيلت من قمة السلطة فقد الكيان مبرر وجوده وزالت “الجمهورية اللبنانية” وخلاصة هذا المنطق: إن السنة ستكون الطائفة الوحيدة المتضررة في “الصيغة” المستقبلية للنظام اللبناني. فالموارنة سيحتفظون بموقعهم الممتاز وسيعطون الشيعة والدروز من حصة السنة وهي أقل مما يجب، أصلاً، فالبدار البدار إلى الحركة وإلا راحت على السنة، فاليوم اليوم وليس غداً تكون وقفة الدفاع عن حقوق الطائفة، وإلا كان الندم و”لات ساعة مندم”!!
** وهناك منطق أخطر من هذا كله يروج له همساً ولا يطلق صراحة إلا خمن البعيد، وعبر أبواق تجتر التهييج الطائفي والمذهبي، أو عبر إشارات خبيثة تبثها بعض الجهات الأجنبية المعادية والأميركية – الإسرائيلية، على وجه الخصوص، وقوام هذا المنطق: إن ثمة صفقة عقدت أو هي على قيد الإبرام الآن، بين الأقليات المذهبية الإسلامية (كالشيعة والعلويين والدروز) من جهة، وبين العدو الإسرائيلي من جهة ثانية، لمحاصرة الأكثرية السنية في الوطن العربي وضربها، مع التذكير بأن إيران – الخميني هي قطب الرحى في هذا الحلف الجهنمي الجديد الذي يستهدف حماية الكيان الإسرائيلي بحزام من دويلات الأقليات الطائفية والمذهبية.
ووفقاً لهذا المنطق يصبح الشيعة مرشحين لأن يقوموا بدور حرس حدود للعدو الإسرائيلي ، في جنب لبنان، في حين يحمي الدروز خاصرته عبر كانتون أو دويلة تمتد من صيدا إلى طريق الشام فحاصبيا في الجنوب الشرقي، ويحاصر السنة في شمالي لبنان بين الكانتون الماروني الممتد من شرقي بيروت إلى بشري وبين الحزام العلوي من جهة الحدود السورية.
ومن أسف إن هذا المنطق المشبوه الذي “يخوّن” الناس، بل و”يهوّدهم” أي يخرجهم من وطنيتهم وقوميتهم وإسلامهم، لمجرد إنهم ينتمون إلى هذا المذهب الإسلامي أو ذاك، قد اعتمد رسمياً من قبل العديد من الأنظمة العربية، ومن قبل بعض التنظيمات الفلسطينية الساعية إلى صفقة مع الأميركيين وعبرهم مع العدو الإسرائيلي قبأي ثمن حتى لو كان الثمن بعض ما تبقى من القضية القومية ومن الهوية الفلسطينية.
بل إن أصداء هذا المنطق الذي يستهدف تجديد “الفتنة الكبرى” بين المسلمين قد ترددت حتى في جوانب مؤسسة قومية المظهر كجامعة الدول العربية، مما اضطر أمينها العام إلى محاولة التخفيف منه بقدر ما تتيحه الظروف… والعين بصيرة واليد قصيرة وتونس “التغريبة” قد أآخلت مكانها من زمان لتونس البورقيبة الذي لم يتورع عن إبلاغ ريغان إنه “سيأمر” أمين عام جامعة الدول العربية (وهو تونس، كما تعلمون) أن يهتم بأمر رهائن الطائرة الأميركية ويعمل للإفراج عنهم في أقرب وقت.
ما علينا، لنعد إلى الموضوع…
والموضوع ليس مناقشة مثل هذه الاتهامات أو التصورات أو التقديرات لدور حركة “أمل” ونبيه بري، وكذلك وليد جنبلاط والحزب التقدمي الاشتراكي، بل هو محاولة تحديد المعيار أو المقياس لتحديد مسؤولية هاتين الحركتين الجماهيريتين، وقيادتهما، وبالتالي مناقشة مدى النجاح والإخفاق في ممارستها.
وفي هذه “الدعوة للإنقاذ بالحوار” فإن المقاييس مختلفة تماماً عن تلك التي تمليها التجنيات أو الهمسات المشبوهة كما التصورات الخاطئة، بغض النظر عن مدى الظلم فيها.
وسلفاً يمكن القول إن المقياس سيتخطى كل ما يقال ويشاع ويملأ الأسماع عن “تجاوزات” ميليشيات “امل” و”الاشتراكي” وارتكاباتها وانتهاكاتها للبيوت والحرمات.
ليس لأن ذلك صحيح أو غير صحيح، بل لأن ذلك من طبيعة الميليشيات، أولاً، بل ومن طبيعة اية قوة، نظامية أم غير نظامية، ترمى في الشارع للسيطرة عليه وضبط الأمن فيه، ثم يطول أمد انتدابها لهذه المهمة المفسدة بطبيعتها، للجندي كما للمقاتل فكيف بالمتطوع، ولابن الحي الأصلي فكيف للغريب عنه (وقد تعني “الغربة” أن يكون ابن حي محاور)؟! ثم كيف إذاً كان الشارع بعض بيروت الغنية بكنوز البيوت والمصارف والمؤسسات والمزدحمة بالسيارات الفارهة ووسائل المتعة والراحة. والعائمة على بحر من أجهزة المخابرات متعددة الجنسيات، والتي تعيش حالة انقسام عفا عليه الزمن، وحالة انفصام تمده الحرب الأهلية القديمة والمستمرة بأسباب إضافية في كل يوم؟!
بالمقابل فإن المقياس سيتخطى، أيضاً، ذلك المنطق الغبي القائد بأن من ارتضى هيمنة حزب الكتائب ورفع صور بشير الجميل ليس من حقه أن يرفض الخطأ في ممارسات “أمل” و”الاشتراكي”، وهو منطق يبرر اعتبار هاتين الحركتين الجماهيريتين “قوة احتلال” وافدة على العاصمة من خارجها، إذ يساويهما بذلك الحزب المتواطئ مع العدو الإسرائيلي على إذلال شعبه والمفرط بما تبقى من رموز الوطن من أجل السلطة، ويهمل – أساساً – الجانب السياسي من الموضوع.
على هذا سيعتمد “المقياس” المبادئ السياسية الآتية:
*** 1 – إلى أي حد أفادت تجربة الحزب التقدمي الاشتراكي بعد حرب الجبل، وتجربة حركة “أمل” بعد حروب بيروت والضاحية وصولاً إلى انتفاضة 6 شباط 1984، في إغناء البرنامج النضالي لشعب لبنان من أجل الإصلاح والتغيير، أي من أجل العدالة والديموقراطية وتوكيد الانتماء القومي؟!
على سبيل التذكير يمكن الإشارة إلى أن الهدف المعلن لوليد جنبلاط، منذ حرب الجبل كان : ضرب الهيمنة الكتائبية وإسقاط حكم أمين الجميل، تمهيداً لإقامة نظام سياسي جديد في لبنان يحل محل صيغة 1943 البالية،
وعلى سبيل التذكير يمكن الإشارة إلى أن الهدف المعلن لنبيه بري، منذ حرب الضاحية وبعدها وصولاً إلى مؤتمر لوزان (في آذار 1984) كان : إلغاء الطائفية السياسية كمدخل لإسقاط صيغة 1943 الظالمة وبإسقاطها تسقط حكماً الهيمنة الكتائبية (والمارونية إجمالاً) بما في ذلك حكم أمين الجميل.
والسؤال الواجب طرحه على “أمل” والحزب التقدمي الاشتراكي:
-أين نحن، الآن ، من المهمات التي تعهدا بتنفيذها كعناوين أولية لمشروع برنامج سياسي وطني شامل؟!
هل نحن أقرب إلى تحقيق هذه المهمات مما كنا عليه يوم الإعلان الرسمي عن إسقاط 17 أيار (أوائل آذار 1984) بوصفه ذروة التراجعات التي قدمها الحكم لافتداء نفسه بالقفز إلى دمشق والالتفاف على حالة النهوض الشعبي العظيم التي كان يعيشها لبنان عشية ذلك المؤتمر البائس في لوزان؟!
وفي التفاصيل:
*هل انتهت سياسة الهيمنة أم هي مستمرة، وإن تم تجميدها أحياناً لضرورات تكتيكية، كل هذا مع تجاوز واقع إن أمين الجميل ما يزال على قمة السلطة الشضرعية في البلادز
*هل تم إلغاء الطائفية السياسية، أو هل تم لجمها كخطوة أولى ، أم إنها استشرت بأكثر مما كانت عليه يوم رفع الشعار – المطلب، وتعمقت وتجذرت وباضت وأفرخت المذهبية التي ذهبت بوهج بيروت وألقها ودورها الذي لا يعوض وطنياً وقومياً؟!
*واستطراداً ، هل يمكن إلغاء الطائفية السياسية أصلاً مع الحفاظ على دور طائفة محددة (الموارنة) وموقعها الممتاز في النظام اللبناني الفريد؟!
*** 2 – لقد تولت “أمل” ومعها الحزب التقدمي الاشتراكي مسؤولية بيروت بتبريرات سياسية محددة. بينها: العمل لإسقاط اتفاق 17 أيار وتوكيد عروبة لبنان، ومقاومة سياسة الهيمنة وحماية الحريات الديموقراطية، وأبرزها حق الآخرين – ولاسيما المختلفين مع الكتائب وعنتها – في الوجود وفي التعبير عن نفسها، ثم النضال لتغيير النظام السياسي أو تطويره أو إصلاحه، وهذا أضعف الإيمان.
ومن أسف أن أخطاء الممارسة: من تجاوزات وارتكابات، قد غطت على القضية السياسية، فإذا المحاسبة تتم وتتشعب ودائماً من منطلق بحت أمني، وإذا الرد أو “الدفوع” – أو لوائح الدفاع، بتعبير المحامين – تبدأ وتنتهي محاصرة ومحصورة في تبرير تلك الأخطاء بمنطق بحت أمني هو الآخر…
*”لقد اعتديتم على حريات الناس وحرمات بيوتهم”، يقول الشاكون،
** ويرد المخول بالرد باسم “الحركة” أو “الحزب”:
“– كان لا بد من ذلك لحماية أمن المواطنين وأمن التنظيم”!!
*” – لقد تصرفتم كما كان يتصرف الجيش المتهم بالفئوية وميليشيات القوات اللبنانية في أيام عزها…”.
** ويجيء الرد خالياً هذه المرة أيضاص من شبهة الموقف السياسي:
والاعتداء على بيوتنا ومكاتبنا؟! لقد هوجمنا فكان لا بد من رد الهجوم وتأديب المهاجمين حتى يفهموا إن “حيطنا مش واطي” كما يتوهمون… لقد تولينا هذه المسؤولية كارهين، ربما، لكننا سنثبت إننا “قدها وقدود”!!
وهكذا تختفي تماماً الطروحات السياسية، وهي أساس الموضوع، ويختفي المتهم الأول بالتسبب في الوضع الشاذ الذي حمل “أمل” والحزب الاشتراكي ما لا قبل لهما به من مسؤوليات وتبعات تنوء بحملها الجبال الرواسي؟
***3 – يتصل بذلك وينبع منه تناقص دور”أمل” والحزب التقدمي الاشتراكي في العمل السياسي العام، كون التنظيمين – بكادراتهما الأساسية – باتا مستغرقين ومستنزفين بتفاصيل المشاكل اليومية ووقائعها الكثيرة والمنهكة،
وإذا كان وليد جنبلاط قد نجح في المحافظة على نبرة المعارضة الكاسحة للحكم، بل وللنظام السياسي، واستمر يذكر – لمناسبة ولغير مناسبة – إن “لا حل مع رئيس كتائبي”… وحافظ على هامش من المسافة مع ما يجري في بيروت الغربية، برغم المسؤولية المباشرة التي يتولاها الحزب التقدمي الاشتراكي فيها، فإن نبيه بري المقيم في بيروت (والمحاصر فيها) والمغرق في التفاصيل (والبعض يتهمه بعشق التفاصيل والاستمتاع بالغرق فيها) قد تحول في نظر البعض عن الأصل إلى الفرع حتى لبدأ وكأن قضيته أمن بيروت أو الجنوب وليس مستقبل لبنان.
وعند المتصلين بنبيه بري كثير من الكلام يردون به على ما يوجه إلى “الأستاذ” من اتهامات بينها ق3صر النظر أو القصور في طرح المسألة الأصلية.
*فهم يقولون إن وليد جنبلاطن وارث الزعامة ودارها ودورها المسلم به داخل الطائفة الدرزية، وداخل لبنان، ثم في المنطقة العربية ككل ولدى القوى الدولية المختلفة، يملك هامشاً من حرية الحركة والمناورة لا يملكه ابن الحاج إبراهيم بري الخارج من شق في الأرض بتبنين التي كانت بين “ممتلكات” الإقطاع في الجنوب وليست مركزاً له، والتي كان أهلها من الأتباع والرعية لا من القادة.
*وهم يقولون إن نبيه بري كان عليه، وما يزال عليه، أن يخوض معارك يومية داخل التنظيم وخارجه، داخل الطائفة الشيعية وخارجها، داخل اللعبة السياسية اللبنانية وخارجها، ثم على المستوى العربي وصولاً على المستوى الدولي، للاعتراف بالطائفة أولاً، و”الحركة” ثانياً، وبدوره وموقعه الشخصي ثالثاً، وهذا يستهلك طاقته وقدرته على التمييز بين ما هو أساسي وما هو فرعي، إضافة إلى ما تضطره إليه عملية انتزاع الاعتراف من مساومات لا بد أن تتم – في جزء منها – على حساب الموقف أو المواقف المبدئية.
*وهو يقولون إن وليد جنبلاط كان يكفيه أن يخوض معركة واحدة “للدخول” إلى بيروت، وانتزاع الاعتراف به طرفاً مقرراً فيها، أما نبيه بري فعليه أن يخوض معركة يومية للبقاء في بيروت والحفاظ على موقعه المتميز فيها، بحكم المسؤولية التي ارتضى أن يحملها، ثم بحكم تأثير هذا الموقع على مستقبل العمل السياسي في جنوب ما بعد التحرير وأدوار القوى المختلفة فيه وعلى رأسها حركة “أمل” ونبيه بري شخصياً… مع استذكار الاستحقاقات “السياسية” الباهظة في ذلك الجزء من البلاد الذي التهمت النار أرضه وناسه قبل الغزو وثم خلاله وما تزال تتهدد ما تبقى منه وتطالبه بأن يدفع المزيد لكي يستطيع الاطمئنان النسبي إلى المستقبل القريب.
ومن المفارقات إن هذا الجنوب الذي كان في فترة القاعدة الوحيدة للكفاح المسلح ضد الكيان الصهيوني، وتحت شعار العمل لتحرير فلسطين، ثم غدا في فترة الغزو المسرح الوحيد للقتال الحقيقي واليومي ضد جيش الاحتلال وتهشيم هيبته وقدراته، تحت شعار “تحرير الأرض والإنسان في لبنان”، قد ترك يواجه قدره وحيداً… فلا دولته، ولا الدول العربية الأخرى (مع استثناءات محدودة ومعروفة) ولا الدول الكبرى ذات الشأن مهتمة بما سيكون عليه، بعد جلاء المحتل، مما يجعله على الدوام مستضعفاً ومرشحاً لأن يكون – في المستقبل – رهينة بيد الإسرائيلي يبتز به لبنان والعرب للقبول بشروطه التي عجز عن فرضها بالغزو المسلح قبل ثلاث سنوات.
*ويضيف المتصلون بنبيه بري فيقولون:
-من هنا فإن الجنوب ورقة ضغط على نبيه بري وحركة “أمل” بمقدار ما هو ورقة قوة، من خلال النموذج الفذ الذي قدمه شعبنا في الجنوب عبر مقاومته الباسلة للاحتلال الإسرائيلي، والتي شكلت تحولاً نوعياً في الصراع العربي – الإسرائيلي ستكون له نتائج حاسمة في المراحل المقبلة من هذا الصراع المفتوح.
وهكذا فإن بعض الضربات والهجمات التي تستهدف إنهاك حركة “أمل” وما تمثله، في بيروت، ومعها رمزها القيادي نبيه برين إنما هي مجرد مقدمة أو توطئة للمعركة الأخرى، الأخطر والأكبر في الجنوب.
فإذا كانت معارك بيروت والاشتباكات فيها تدور بهدف التأثير على مواقع الطوائف والقوى السياسية في لعبة النظام ومستقبل الصيغة والحكم، فإن “حرب الجنوب” المستمرة بعد إنما تستهدف هوية لبنان ودوره في معارك النضال القومين وأساساً في مواجهة المشروع الإمبراطوري الإسرائيلي الجاري العمل لتحقيقه تحت رايات “السلام الأميركي” وبتواطؤ العديد من قيادات المنطقة وتحريضهم المباشر.
*ثم يصل هؤلاء المتصلون بنبيه بري إلى الاستنتاج المحدد فيقولون:
-وفي حين إن وليد جنبلاط لا يخضع لضغوطات هذه التطورات ولا يتأثر وضعه السياسي بانعكاساتها، إلا بمقدار، فإن نبيه بري مضطر لإعطاء الأبعاد الإقليمية المزيد من العناية والاهتمام مما يحد من قدرته على تركيز الجهد في المعركة ضد الحكم، ويخفف من اندفاعه في اتجاه تغيير النظام حتى لا يستنفر مزيداً من العداوات والخصومات المؤذية، ولا تتقاطع المصالح على رأسه أو على دور الطائفة التي انتزع موقع القيادة الأولى في تمثيلها،
أين حدود المسؤوليات، في ضوء هذا كله؟
وأين يقع التحالف بين “امل” و”الاشتراكي”، من هذا كله، وهو التحالف الذي يحتاج دوماً إلى توكيد وتجديد الالتزام به، وأساساً بسبب ضمور البرنامج السياسي المحدد الذي يرتكز إليه،
فوليد جنبلاط “باق” في الجبل، ووجوده في بيروت “مركز أمامي متقدم” لحماية دار الزعامة وموقعها الأصلي،
أما نبيه بري فموجود في بيروت وفيها وعبرها يقاتل لكي يدخل فيبقى في الجنوب، أي إن بيروت هي “القاعدة الخلفية” وخسارتها تحسم المعركة في الجنوب أما لمصلحة “أمل” ونبيه بري ومن وما يمثلان، وإما على حساب كل من وما يمثلانه في الداخل والخارج.
ووليد جنبلاط المتخفف من العبء الإسرائيلي الضاغط قادر على مواصلة معركته ضد الحكم، والنظام ، في حين إن نبيه بري مضطر إلى تقديم موجبات المعركة الجنوبية على المعركة مع الحكم والنظام، وربما على حساب ما تقتضيه الثانية، في بعض الحالات.
ووليد جنبلاط، قادر على اعتبار الوجود في بيروت مسألة ثانوية، وقادر من ثم على “التهديد” بالانسحاب منها وتركها لمصيرها، في حين إن نبيه بري مضطر لأن يخوض معركة بيروت، وبأقصى الشراسة حين تفرض عليه، لأن خسارته فيها تنهيه خارجها أيضا، وخياره بالتالي: انتصر فابقى أو اخسر فأزول وتهزم معي قوى التأثير التي تلخص وجودها في شخصي قبل حركة “أمل”.
على إن الطرفين محكومان بالتحالف لأسباب تتعدى الشخصين والتنظيمين، وتتعدى كذلك معطيات اللعبة السياسية المحلية، ولذلك يبدوان وكأنهما ممنوعان من الاختلاف أو من ترك الخلاف يهدد هذا التحالف الاضطراري والمفيد كونه يحد من المناخات المذهبية المحيطة بكل من التنظيمين، كما من تقلبات الرجلين المختلفي المزاج والهوايات. ويضفي على التوجهات عموماً قدراً من الإحساس بالمسؤولية الشاملة، ويجعلهما بالتالي عنصر استقطاب لأطراف العمل الوطني والتقدمي، وملاذاً للرافضين الانصهار في بوتقة مذهب بالذات… فتحالف المذهبين يولد هامشاً للعلمانيين، والله أعلم!
لم نصل إلى النتائج بعدن وقد طال الحديث.
فلا بد إذن من وقفة ثانية أمام مسؤوليات هذين التنظيمين، وقيادتهما، وبالذات أمام حركة “أمل” بوصفها عنواناً لحالة صعود لفئة كانت دوماً على الهامش فإذا هي في القلب من حركة الصراع، بكل ما يعنيه ذلك من أخلال بقواعد اللعبة، محلياً وإقليمياً.
وفي غد نتابع استكمال مناقشة مسؤوليات “أمل” و”الاشتراكي” في سياق هذه الدعوة إلى الإنقاذ بالحوار،
وبعدها ننصرف إلى الموضوع الخطير والمتروك للريح أو للمصادفات: الوجود الفلسطيني في لبنان ومستقبله، في ضوء المعطيات التي فجرت “حرب الأشقاء” في المخيمات ومن حولها وكذلك ما خلفته من نتائج.
فإلى الغد.

Exit mobile version