طلال سلمان

على الطريق دعوة إلى الإنقاذ… بالحوار – 1 – عن محنة “السفير” والصحافة كتعبير عن الأزمة في العمل الوطني والقومي

أخطر المفارقات التي فرض علينا أن نعيشها في أيام التعاسة هنا، إنه بمقدار ما تتزايد مواضيع الخلاف والاختلاف والتعارض في وجهات النظر حول الأساسي من شؤون البلاد والعباد، تضيق دائرة الحوار الديموقراطي. ساعة بعد ساعة، ويضيق هامش الصراع بل والعمل السياسي بأشكاله المألوفة والمشروعة والضرورية، ويصبح السلاح وحده هو الحكم وحامله فقط صاحب الحق بالكلام، وكلامه هو القرار النافذ.
وبقدر ما تضيق دائرة الحوار يتضاءل، طرداً، دور الرأي والمنطق والحجة، وبشكل عام كل ما هو “علني” و”شامل”، وكل ما له طابع الاستقلال في التفكير والاجتهاد، ويتضاءل دور المؤسسات الديموقراطية من الحزب إلى النقابة فإلى الجمعية والرابطة، ومن البرلمان (حيث يوجد!) إلى المجالس البلدية والهيئات الاختيارية والمخاتير (حيث ما يزال المنتخبون منذ بداية السبعينات أحياء يرزقون ويبصمون!)…
وفي هكذا مناخ فإن الصحافة تكون بين أولى الضحايا التي تسقط توكيداً لغلبة الرأي الواحد والصوت المفرد، ولضمان انضباط القاعدة من خلف قياداتها الملهمة والمعصومة!
وبالمقابل فإن هيئات ومؤسسات أخرى ستتقدم، بالضرورة، لاحتلال المساعدات المفرغة من النشاط السياسي والحزبي والفكري والدعاوى العلني. وفي حالة لبنان فإن “الفراغ” الذي خلفه غياب أو تغيب الدولة ومؤسساتها المدنية والعسكرية، التشريعية والتنفيذية، وغياب أو تغييب الأحزاب والهيئات السياسية والنقابية قد احتلته ثلاث “مؤسسات” من طبيعة مختلفة تماماً وهي:
1 – الميليشيات، وهي شيء آخر غير الأحزاب حتى لو استعارت اسمها وبعض شعاراتها، فالحزب تنظيم سياسي له برنامجه المعلن وله قياداته المعروفة بمؤسساتها وتسلسلها الهرمي، أما الميليشيا فمجاميع من الأنصار والمحازبين يأتون مدفوعين بالعاطفة والحمية فيتم تدريبهم (عسكرياً) على عجل، أما تثقيفهم وتوعيتهم وإلزامهم أو حتى تعريفهم الجدي ببرنامج الحزب أو التنظيم فيرجأ إلى “ما بعد حسم المعركة” التي تحتاج “إلى مقاتلين وليس إلى فلاسفة ومنظرين”… وهكذا فإن رجال الميليشيا يصبحون “قوة مقاتلة” علاقتها بالسياسة رمزية إلى حد كبير، يتوحدون مع السلاح ومع الشعارات الإيمانية البسيطة والمطلقة، قياداتهم موضعية ومحلية تتصرف وفق “الحالة على الأرض” أمامها أكثر مما بقرار مركزي. ولذا فإن قادة “المحاور” و”السرايا” و”الفصائل” يملكونفي العامة من السلطة الفعلية (سلطة النار) أكثر مما لرجال الصف الأول من “سياسيين” التنظيم. هذا باسثتناء القائد أو الأمين العام أو الرئيس الذي لا بد من الحفاظ على مكانته حرصاً على “شرعية الانتماء أو الارتباط” بالتنظيم ولو عبر خط مباشر به شخصياً أو بمكتبه حيث مركز السلطة المطلقة ومصدرها.
إذن “فالأرض” لا السياسة هي التي توجه فصائل الميليشيا وقادة “المحاور” الذين لا يعرفهم إلا القلة القليلة، في حين لا يملك “سياسيو” التنظيم حق التوجيه دائماً، وهكذا يضيع الناس فلا يعرفون إلى من يتجهون: إلى صديقهم صاحب الصورة أم إلى “صاحب الأمر” الذي لا تكاد تظهر له صورة، ولا يضطره موقعه إلى تحديد موقف، ولا يصل منه إلى الناس إلا اسمه الحركي، بينما مسؤولياته تشمل أمن منطقتهم ومصالحهم وأزراقهم وحياتهم ذاتها؟!
على إن الأخطر في هذا المجال يظل أن الحكم يتحمل مسؤولية كبرى في تحويل الجيش إلى ميليشيا مثلها مثل الميليشيات الأخرى في ارتباطها وتوجهاتها وممارساتها وصولاً إلى الأسماء الحركية.
2 – أجهزة المخابرات وفيها المحلي والأجنبي، وفيها الصديق والعدو وصديق العدو وعدو الصديق. وإذا كانت حوادث الشهور القليلة الماضية وأحداثها قد كشفت بعض عمليات المخابرات الأميركية والإسرائيلية (وحتى الفرنسية) في بيروت وصيدا وأنحاء من الجبل والبقاع والجنوب والشمال، فإن عمليات أخرى معروفة قد كشفت تورط جهاز المخابرات اللبنانية، وصدرت اتهامات علنية وعن مراجع رسمية وشعبية تحمل هذا الجهاز المسؤولية المباشرة عن محاولات اغتيال بعض الشخصيات (الرئيس الحص مثلاً)، وتفجير سيارات مفخخة والتحريض على الفتن وإشعال نارها في غير مكان.
وفي ظل تعطل دور الدولة، الجهة ذات المسؤولية الشاملة عن أمن الوطن والمواطن، وفي ظل البطالة السياسية السائدة وانحسار دور الأحزاب والهيئات الشعبية ومؤسسات الأعلام والتنوير، كالصحافة، تكاد تنعدم الرقابة العامة، فيسرح رجال المخابرات ويمرحون، مستغلين حالة التمزق التي تعيشها البلاد فيندس بعضهم هنا وبعضهم هناك يعبئ ويحرض وينفخ في النار كلما صارت إلى همود، ويضرب حيث يعرف إن ضربته ستهيج العواطف والغرائز والأحقاد، مما يعطل دور العقل وليس فقط العمل السياسي ويدفع الناس إلى أتون الاقتتال الأهلي مستعيدين في ظل تصاعده تقاليد الجاهلية والغزو والحملات الصليبية وتراث التتار والمغول جميعاً ودفعة واحدة.
وفي مجال تبرير القصور كان بعض مسؤولي جهاز المخابرات اللبنانية يردد أن ثمة 22 جهاز مخابرات أجنبية تنشط في لبنان عموماً، وفي بيروت الغربية خصوصاً، بينها 16 جهاز مخابرات غير عربي (بما في ذلك أجهزة الدول الكبرى)، تضاف إليها أجهزة المخابرات الإسرائيلية.
على أن ما يلفت في وضع المخابرات اللبنانية هو الدور السياسي والعلني الذي أناطه بها الحكم، فندر أن رأينا أو سمعنا عن تكليفاتسياسية مباشرة لبعض رجال هذا الجهاز كالتي كلفوا بها في لبنان (رسائل إلى ملوك وؤساء وإلى مراجع سياسية وروحية وحزبية في الداخل والخ). وطبيعي أن يرى الناس في هذه التكليفات انتقاصاً من دور الحكومة والمسؤولين السياسيين وإمعاناً في تغييب من وما هو سياسي لمصلحة التفرد في الحكم والقرار، وإغراء للآخرين باعتماد الأسلوب ذاته وكأن “لبنان” موضوع أمني أولاً وأخيراً.
3 – المراجع الروحية لمختلف الطوائف والمذاهب التي أتاحت لها البطالة السياسية وسيادة المناخ الطائفي والمذهبي المتزايد خطورة واتساعاً أن تلعب دوراً متزايد الأهمية والتأثير في الحياة السياسية في لبنان.
ومع التقدير لدور بعض هذه المراجع التي حافظت على كرامة الرسالة التي تنتدب نفسها لها، ودأبت علىمقاومة رياح الفتنة والتوكيد على وحدة الوطن شعباً وأرضاً، فإن عدداً من رجال الدين قد رأى الفرصة سانحة للقفز إلى المسرح السياسي، مفيداً من ثوبه وعمته والقلنسوة، ليقول ما لا يجوز قوله، وليعيد تحديد الحلال والحرام وفق رؤية أو مصالح أو ارتباطات محددة، مبارياً السياسيين التقليديين في مباذلهم، مستنفراً في الناس أسباب الانقسام والاختلاف حول أمور الدين بدل أن يعزز فيهم عوامل الوحدة الطبيعية على قاعدة الانتماء الوطني والترابط المصيري أمس واليوم كما غداً.
وإذا كان في النموذج الذي قدمته الثورة الإسلامية لدور رجل الدين ما يبهر ويغري بأتباع القدوة، فمن أسف أن بعض رجال ا لدين في لبنان قد أساؤوا فهم ذلك النموذج ولعلهم أساؤوا إليه، إلا قلة لعبت وما تزال تلعب دوراً متميزاً وفذاً في الربط بين قضايا الدين وقضايا الدنيا وإعطائها مضموناً نضالياً شاملاً يتسع للوطنية كما للقومية، للقدس كما للرغيف، وللحرية الشخصية كما لعداء الإمبريالية الأميركية.
ومن أسف أيضاً أن بعض رجال الاكليروس وقد بهرتهم تصرفات البابا يوحنا بولس الثاني وتحركاته حاولوا تقليدها فجانبهم النجاح خصوصاً وإنهم تجاهلوا تاريخ منطقتهم وطبيعة أهلهم وضرورات الوحدة والاندماج في محيطهم الطبيعي، وكان ملفتاً أن ينحو الفاتيكان سياسة توحيدية في لبنان والمنطقة، بينما بعض الطامحين إلى دور الزعامات السياسية من رجال الاكليروس عندنا ينهجون نهجاً انفصالياً لا بد أن يحمل شبهة الفتنة طالما أن قاعدة الانقسام هي الانتماء الديني وليس الانتماء الوطني أو القومي.
ومفهوم إن رجال الدين عموماً، ولاسيما الكبار منهم، كانوا يقاربون السياسة ويتعاطونها من مقارهم، باستمرار، لاسيما في الأساسي في الشؤون، لكنهم كانوا يحرصون على إبقاء مسافة بينهم وبين العمل السياسي المباشر، ربما بدافع الوقار أو التهيب أو الترفع عما في سوق السياسة من تكتكات ومناورات ومساومات وألاعيب، لا يتقنها غير “تجار الهيكل”. لكن بعض الجيل الجديد من رجال الدين متعجل في ما يبدو، للعب دور مباشر وهكذا امتلأت صفحات الصحف والمجلات، ونشرات أخبار الإذاعة والتلفزيون، بالتصريحات والنشاطات اليومية. والخطب والتوجيهات والتعاليم الصارمة التي لا تترك شأناً إلا وذكرته ولا حادثة إلا وقيمتها وحددت منها موقفاً.
وليست البطالة السياسية وحدها مسؤولة عن هذا الواقع، بل هناك أيضاً الحكم الذي لعب ورقة رجال الدين أيضاً، فاحتضن بعضهم وفتح لهم أبواب القصر، وحاول تحريضهم ضد الزعامات السياسية التي ناصبها أو ناصبته العداء، وكلفهم بمهام كانت تغريهم بالإيغال في النزعات الانقسامية أو التقسيمية، لا فرق.
ولقد استنفرت لعبة القصر رجال دين من مختلف الطوائف والمذاهب، على فتراتوبحسب موجات العداء للسياسيين ومواقع نفوذهم.
ولقد يقال في مجال التبرير أو التفسير إن الحكم كان لا بد له من الاستعانة بمؤسسات أخرى، مع معرفته بطبيعة الخطورة في مثل هذه العلاقة، نتيجة لاختلافه مع معظم السياسيين أو لرغبته في الاستغناء بنفسه عنهم، لكن المسؤولية تظل مسؤوليته أساساً عن البطالة السياسية العامة التي تعيشها البلاد، ثم عن البدائل التي ارتضاها أو اعتمدها أو تركها تحتل كل هذه المساحة التي تحتلها في حياة البلاد العامة، والتي لم تستثنه من قيودها وأحكامها الصارمة (والظالمة) التي فرضتها على الآخرين.
فعلى اختلاف ما بين هذه “المؤسسات” الثلاث، أي الميليشيات والمخابرات وبعض رجال الدين المتصدين لقيادة العمل السياسي بمفاهيم انقسامية، فإن صفة محددة تجمع بينها: إنها تملك القدرة على محاسبة الآخرين دون أن تخشى أن يحاسبها أحد. الكل يراك وأنت لا ترى أحداً، بالوضوح الكافي لمطالبته أو تحميله المسؤولية.
فالميليشيا لا ترى منها إلا سلاحها والعواطف المستثارة، والمخابرات لا ترى إلا نتائج عملها (إذا قدر لك أن تبقى لتشهدها!) ورجل الدين من هؤلاء يعصم نفسه بثوبه كما بالغرائز المهاجة ويحيل الحساب على الله سبحانه وتعالى، فإذا أنت ضائع بين السماء والأرض ولا مغيث أو مجير!
من هنا إن الصحافة في لبنان، وهي التي تكاد تكون القلعة الأخيرة للرأي وسائر الحريات الديموقراطية في الوطن العربي، تفقد أكثر فأكثر دورها وزخمها ووهجها وقدرتها على التأثير… فمع غياب أو تغييب الصراع السياسي، وفيظل تغليب ما هو انقسامي وتقسيمي، أي طائفي ومذهبي، على ما هو وطني وتوحيدي وعام، تتحول الصحف إلى أوراق نعي غير رسمية، وإلى نشراتباهتة أبرز ما فيها “التفاصيل الأمنية”، كأسماء القتلى والجرحى والمفقودين، في هذا الاشتباك أو ذاك، ورسائل التطمين إلى الأهل، ثم تعليقات “المعنيين” مدرجة بحسب مواقع تأثير هؤلاء ، أي بحسب قدرة اتباعهم على المحاسبة والمعاقبة والاقتصاص من متجرئ على حذف صورة أو اجتزاء مقطع من تصريح خطير (فعلاً، ولكن على الناس)، أو الإخلال بالأصول والمراتب، كتقديم مرجع على آخر في الصفحةز أو في الأعمدة، أو في عدد الأسطر أو البنط المستخدم في النص، ناهيك بالعناوين ودلالاتها الكثيرة.
ونعترف، بداهة، إننا في “السفير” نعيش أزمة سياسية – مهنية خانقة تعكس نفسها بوضوح وفي الصفحات والأقسام كافة، سببها الأول، إننا نعيش حالة غربة كاملة عن هذا الواقع المقيت، الذي يثقل بوطأته علينا يوماً بعد يوم.
فنحن أبناء جيل تربى على قيم ومبادئ وشعارات ومفاهيم ولغة مختلفة تماماً عن السائد اليوم: كان تطلعنا وما يزال إلى الأمة لا إلى الكيان، إلى الوطن لا إلى الطائفة، إلى الدولة – دولتنا جميعاً – لا إلى المذهب أو إلى الميليشيات “جماعتنا”.
كان واحدنا، وما يزال، يحضن في بؤبؤ العين خريطة لوطن كبير ينداح ما بين المحيط والخليج، مفترضاً في جيله القدرة على تحقيق وحدة بين هذه الأقطار جميعاً على قاعدة من وحدة التاريخ والمصير، اللغة والتراث، الدين والمصلحة، الدور الحضاري والوجدان والحق بدور يتناسب وإمكاناتها وقدرتها على استيعاب روح العصر.
وكنا نلقي على أنفسنا، أيضاً، مهمة تحرير أشقائنا وأصدقائنا والمظلومين مثلنا في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، ونرى في ذاتنا الأهلية لإقامة مجتمع الاشتراكية، حيث الكفاية والعدل والكرامة، فإذا واحدنا الآن ممزق بين بيروتين ممزقتين، وبين المزق الأخرى التي توزعت بينها المساحة القليلة للبنان الجميل… أما أحلامنا في الحرية والاشتراكية والوحدة فقد تغلغلت في أعماق الوجدان، خوفاً من اتهامنا بأننا من “أهل الكهف”، أو بأننا نكفر بالكيانات السرمدية ذات الخصوصيات الخالدة.
وإذا كنا قد اصطدمنا، ومنذ اليوم الأول بالروح الانعزالية لحزب كالكتائب الذي أوصل مولوده “القوات اللبنانية” إلى علاقات تحالف مع العدو الإسرائيلي ، فإننا لا نستطيع أن نفهم أو نقبل أن يتم (في بيروت الغربية وبعلبك وأنحاء أخرى) تحطيم تماثيل لأعظم قائد أنجبته الأمة في تاريخها الحديث، ثم لا يحاسب المعتدي على كرامة الأمة وإنسانها ورمز وحدتها ونضالها المجيد من أجل التحرر والوحدة؟!
وما قيمة القول، مثلاً، بعروبة لبنان (وهي التي تطلبت حروباً ومعارك ضارية بعضها ما يزال مستمراً حتى اليوم) إذا جاءتنا تلك “العروبة” نصاً جامداً في ميثاق مفرغ من مضمونه سلفاً؟!
ثم ما قيمة الإعلان عن عروبة لبنان، رسمياً، بينما يندس في تظاهرات شعبية حاشدة في صور، فرحاً بالتحرر من قيد الاحتلال الإسرائيلي، من يطلق هتافاً كريهاً ومريباً منثل “لا إله إلا الله، والعرب عدو الله”.
وكيف لجريدة مثل “السفير”، تحمل على صدرصفحتها الأولى شعارات الرسالة “جريدة لبنان في الوطن العربي، جريدة الوطن العربي في لبنان”، أن تسكت عن مثل هذا الهتاف الاستفزازي المجافي لطبيعة صور المجاهدة وأهلها، كما لأهل الجنوب عموماً وشعب لبنان الذي أكد بالدم – أنه الأكثر عطاء وبذلاً في المعركة القومية الأعظم قداسة، المعركة ضد العدو الصهيوني؟!
ثم كيف لجريدة مثل “السفير” أن تفضح مثل هذه الأعمال المشبوهة في ظل مناخ مسموم تصبح فيه الطائفة فوق الأمة، والمذهب فوق الوطن، والعصبية التنظيمية أو الجهونية فوق الشعب، مما يطمس طبيعة العدو وهو بعد قاب قوسين أو أدنى من الهاتفين ضد طبيعة انتمائهم وهويتهم وأساس وجودهم ومنطلق نضالهم المستميت من أجل أن يعودوا هم؟!
ثم إننا تعلمنا مهنة الصحافة واخترناها بوصفها أداة تنوير وتثقيف ووسيلة أخبار وأعلام مهمتها إيصال الوقائع إلى الناس وتحليلها والبحث عن حقيقة ما يُخفى عنهم أو يخفي عليها، وأرض حوارتتلاقى وتتقاطع وتتصارع فوقها الآراء المختلفة والاجتهادات المتعارضة والطروحات المتمايزة، تزيد من معارف المواطن وتضيف إليها وتساعده على التمييز وصولاً إلى اختيار الحلول الأسلم والأكمل للمشكلات التي تعرض له.
فإذا ما تعطلت لغة الحوار، وحظر على الصراع السياسي، وغيب البعد القومي وحتى الوطني للعمل العام، واعتبرت الطائفية أو المذهبية أساساً للتقييم والتصنيف، وصار السلاح هو الحكم في أي نزاع، سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات أو الهيئات، انتفى دور الصحافة، وأصابها الشلل، بل إنها تتحول – في الغالب الأعم – إلى نقيض ما يفترضه الناس ويتوقعونه منها مما هي مهيأة له أصلاً؟
فما قيمة صحيفة تعرض ولا تنقد، تغفل الإشارة إلى السيئة وتبرز الحسنة وحدها، تسكت عن فضح المخطئ (إذا كان صديقاً؟!)، وتشهر بالخصم (خصم من؟!) ولو كان على صواب، تنساق وتندمج في المناخ المسمم بالطائفية والمذهبية بدل أن تظل تدعو وتعمل لاعلاء راية القضية الوطنية ووحدة الأرض والشعب، وتوكيد الانتماء القومي؟!
وهل كانت للصحف والصحافة في لبنان، يوماً، قيمة خارج نطاق دورها في التوعية والترويج للفكر القومي والترابط المصيري بين العرب جميعاً؟!
وهل اكتسبت هذا الوهج وهذه المكانة المميزة إلا لأنها كانت “صحافة العرب” تعرض من بيروت وفيها بالذات، همومهم ومطامحهم جميعاً، تعبر عن أشواقهم إلى الحرية والوحدة، تساهم في إضاءة الطريق أمامهم وهم يخوضون معاركهم ضد الاستعمار والصهيونية والإمبريالية، من أجل التحرر والكرامة والاستقلال؟!
فبيروت اللبنانية – السورية – المصرية – الجزائرية – الليبية – اليمنية – السودانية – العراقية – الفلسطينية، بيروت كل العرب جعلت الصحافة فيها صحافة العرب جميعاً من المحيط إلى الخليج.
لهذا كله نعترف إننا في “السفير” كما في سائر الزميلات، وبغض النظر عن التمايزات السياسية، نعيش حالة مريعة من انعدام الوزن والضياع وافتقاد الجدوى، والدور… حتى لنحس وكأننان نعيش أيامنا الأخيرة كصحافة وصحافيين.
وكل ذلك نتيجة النقص في كمية الهواء المتاح للتنفس، بعد، وبعد سريان السم في المناخ من حولنا (جميعاً)، سم الطائفيات والمذهبيات، وسائر أصناف العصبيات وإفرازات الغرائز، بما فيها الشوفينية والعرقية، كتلك التي أطلقتها “حرب الفقراء والمحرومين من وطنهم أو في وطنهم” في المخيمات ومن حولها.
ومع اعترافنا بالتقصير والارتباك والضياع والعجز عن إيجاد حل ذاتي لهذه الأزمة التي تتهدد المهنة. كونها واحداً من وجوه الأزمة الوطنية العامة، يبقى ضرورياً التوكيد على إن حالة البطالة السياسية ومجافاة المذهبية والطائفية لروح العمل الوطني والقومي وهي الحالة التي تعيشها البلاد الآن هي التي حدت من قدرتنا على أداء دورنا الطبيعي.
من هنا فإن هذه الكلمات ليست لمجرد الاعتذار عن قصور أو تقصير في الأيام، أو الأسابيع القليلة الماضية، بل هي دعوة لإنعاش الحوار الديموقراطي، وإعادة الاعتبار إلى الكلمة والرأي والحجة، ومحاولة تحريض أو استدراج للساكتين والمستنكفين من أجل أن يرفعوا أصواتهم، بالاعتراف أو بالتأييد لا فرق، وإلى أن يقول الكل علناً وعلى رؤوس الاشهاد ما يهمسون به في الغرف المغلقة، أو ما يهمهمون به في سماعات الهاتف. أو ما يفكرون فيه بصمت اليائس لوحدهم لعل ذلك كله يحد من الآثار المدمرة للبطالة السياسية السائدة والتي تخلي الجو لنمط وحيد وقاتل من “الحوار” هو : الحوار بالسلاح!
ولقد دفعنا جميعاً ثمناً فادحاً للاشتباك بالسلاح عند أي خلاف حول أي موضوع، وسندفع أكثر وأكثر كل يوم، أما لم نستعد، وبجهد خارق، قدرتنا على الحوار وحقنا في ممارسته وفي اعتماده أسلوباً لحل الاشكالات وحسم الخلافات والوصول إلى تصور مشترك للصيغة المفتقدة ولطريق الخروج من هذه الأزمة الخانقة، التي لا يكابر أحد في أنها ستنهي لبنان والكثير من اللبنانيين وأخوانهم العرب، محققة ما عجزت وتعجز عنه الإمبريالية والرجعية والصهيونية العالمية الخ الخ الخ.
هي دعوة للحوار، إذن، حول المواضيع جميعاً، وحول مسؤوليات الأطراف كلها، في بيروت والجبل والشمال والبقاع وجنوب الصمود الوطني والقومي.
دعوة لا تستهدف الحساب ولا هي تقدر عليه أصلاً، بل تستهدف محاولة تحديد معالم الطريق لكسر الحلقة الجهنمية التي حوصرنا في داخلها فأخذنا نتعارك على حق القيادة، وأخذ واحدنا يفرح بأنه أكمل طوق الحصار على الآخر، ويرفع يديه بعلامات النصر، ناسياً أو متناسياً أن خطر الموت اختناقاً داهم وجدي ولن يبقي لأحد فسحة الاستمتاع بنصره اليتيم!
إنها، أولاً وأخيراً، دعوة للإنقاذ، وعبر الحوار، أي عبر الكلمة والرأي والحجة، ودائماً بعيداً عن السلاح وحملة السلاح…
وفي الغد نتابج معاً السعي لتوسيع دائرة هذا الحوار.

Exit mobile version