طلال سلمان

على الطريق خيار بين طائفيتين!

خلّ عنك الأخبار المقلقة كمثل احتمالات الحرب فوق المصير العربي وعلى الثروة العربية بسبب من الغزو العراقي للكويت،
وخل عنك أيضاً هم التحولات المذهلة التي تستمر فصولها في الاتحاد السوفياتي (وما كان يسمى سابقاً المعسكر الاشتراكي) وبينها استقالة ادوارد شيفاردنادزه، وزير خارجية غورباتشوف بسبب من توجهاته الدكتاتورية.
خل عنك أيضاً وأيضاً الاضطراب الأوروبي والحيرة اليابانية، في مواجهة هيمنة القطب الأميركي الواحد على الكون، والضيق الأميركي من الأعباء الثقيلة لمثل هذه الهيمنة المستحيلةز
تلك كلها من عاديات الحدثان وأمرها هين إذا ما قيست بهذا الذي يجري على المسرح السياسي اللبناني الملتبس، خصوصاً وإن الواجهة مرصعة بالشعارات والرموز الطائفية التي تحد من الكلام الصريح خوفاً من الحساسيات وعليها…
ولبنان السياسي يعيش حالة انعدام وزن تقريباً وهو يتأرجح في منطقة الفراغ الفاصلة بين ظلام الحرب الوحشية وبين تباشير السلام الغامضة الملامح حتى الآن،
إنها المنطقة الفاصلة بين طائفيتين: طائفية ما قبل الطائف والطائفية المنقحة والمزيدة لما بعد الطائف.
ولقد خبر اللبنانيون الطائفية الأولى فدفعوا من أعمارهم وأرزاقهم ثمناً غالياً جداً،
لكن ما دفعوه يبدو أقل مما هم مرشحون لدفعه في ظلال الطائفية المجددة، طائفية الجمهورية الثانية الوطيدة الأركان!
في الأولى تحقق القول المأثور: ما دخلت الطائفية بلداً إلا أفسدته!
فلقد دخلت الطائفية الدولة فمنعت قيامها أصلاً، وخلتها مجرد أمل مبهم ومستحيل التحقق!
ودخلت الطائفية الأحزاب والتنظيمات السياسية والنقابية والمهنية والجمعيات الخيرية فدمرتها تماماً وجعلتها مجرد لافتات وواجهات مزركشة الشعارات لتغطي ضآلة المضمون وهشاشته، هذا إن وجد!
لم تسلم “عقيدة” ولم تكتب النجاة لفكرة أو لمبدأ أو لموقف إلا بقدر ما يحاول أن يوجد صلة رحم ما مع الطائفية، أو يثبت بالدليل الحسي إنه إنما يقصد تطويرها أو تحسينها أو عصرنتها!
وها هم اللبنانيون يشهدون جولة جديدة من جولات الحروب المفتوحة داخل الطوائف ذاتها من أجل احتكار التمثيل” الشعبي” وحصر الوكالة التجارية حتى لا تضيع حقوق “الخائفين” و”المحرومين” و”المغبونين” و”المكتومين” في الجمهورية الثانية التي ما قامت إلا لإغاثة الملهوف وإنصاف المغبون وتطمين الخائف من الآخرين أو من ضماناته ذاتها!
تحت عنوان “الأعظم طائفية هو صاحب الحق الشرعي بالحكم” تجري الجولة الجديدة من الحرب في ظلال مشروع حكومة “المصالحة الوطنية”.
فالأعظم طائفية هو المنقذ،
وحتى لو صحت التقولات بأن هؤلاء مسؤولون عن مذابح وعن آلاف وآلاف من الضحايا، فلا أحد ينكر إنهم لو شاءوا لما أبقوا في البلاد أي شيء حي!
… وكان كان الرئيس سليم الحص الممثل الشرعي والوحيد للضحايا والمقتولين في حكومات زمن الحرب فعمر كرامي يدخل اليوم “النعيم” من الموقع نفسه، خصوصاً وإنه قد جاء ليكمل الناموس لا لينقضه،
مع فارق مهم: إن الرئيس الحص لم يكن صاحب ثأر شخصي وإن كان وكيلاً لعموم الثكالى والأيامى واليتامى والمتضررين، في حين أن عمر كرامي يحمل وكالتين خاصة وعامة ضد الميليشيات.
وإذا كان سليم الحص، وبرغم كل الحصانات التي يتمتع بها قد أحرج فأخرج، بطريقة أقل ما يقال فيها إنها منافية لأصول الأخلاق ولتقاليد “الدول”، فإن التهمة الأخطر الموجهة لأهم رجل دولة في لبنان إنه لم يستطع الدخول إلى نادي “الأعظم طائفية”!
لكن خصوم الحص، كرمز لرجل الدولة وللكفاءة والنزاهة، يوجهون إليه، الآن، الاتهام بأنه انزلق إلى المذهبية، في أواخر أيامه… علماً بأن هؤلاء إياهم ممن بنوا وجودهم السياسي على ادعاء التمثيل الحصري للطائفية أو للمذهبية، حين جاءت مواسم المذهبية!
المهم أن عمر كراكي يجتاز الآن امتحان دخول قاسياً على النفس. إنه أشبه بالمكلف بعملية استشهادية. وهم يريدونه غير ما يريد نفسه، ويدفعونه دفعاً نحو أن يكو ن ما يريدونه منه: أي أن يماثلهم فيغطيهم!
وبصراحة فإن قادة الميليشيات يريدون من عمر عبد الحميد كرامي الأخ الشقيق لشهيد العنف الطائفي الأسود رشيد كرامي، أن يكون طائفياً، بل ومذهبياً مثلهم!
يريدونه سنياً لا مسلماً، ومسلماً وليس قومياً عربياً، وطرابلسياً أو شمالياً وليس وطنياً يرى لبنان كله بجنوبه وبقاعه وجبله وعاصمته الأميرة ويحرص عليه بكليته ويجتهد لإنصاف المظلوم منه وفيه،
إنهم يريدون تشويهه لكي “يتكرموا” عليه بمنحه شرف العضوية في ناديهم!
يريدونه أن يتبرأ من أبيه وأخيه وسلفه الصالح لكي يعتمدون وكيلاً محلياً لبعض المذهب!
فقادة الميليشيات العسكرية والسياسية “يناضلون” لكي تختل المعايير ولكي تسحب من التداول المقاييس الثابتة كالوطنية والقومية والتقدمية.
إنهم يريدون الطائفية معياراً وحيداً: لكل طائفي نصيب وللمذهبي نصيبان!
حتى الحزببي أو العقائدي يفرض عليه إذا أراد دخول النادي أن يدخل باسم طائفته أو مذهبه لا باسم حزبه العقائدين أو برنامجه الفكري!
ومن بين الميليشيات تتصدر “القوات اللبنانية” جبهة “النضال” لتغييب هويتها السياسية مغلبة طابعها الطائفي كمدخل للمصالحة “الوطنية”!!
فهي تضع شروطاً على مشاركة ضحاياها من المسيحيين في السطلة معها!
وهي تحاول أن تفرض نفسها على الدولة من موقعها كدولة رديفة! لكأنما نحن أمام تعاقد أو تحالف أو فيدرالية بين “دولتين”، وحق الفيتو محصور في “القوات” بوصفها الممثل الشرعي والوحيد للطائفة العظمى!
… وكل ذلك يجري باسم الإخلاص في تنفيذ الطائف!
ومرة أخرى عليك أن تختار بين طائفيتين: طائفية ما قبل الطائف، وطائفية ما بعد الطائف،
وفي الحالين فأنت المغلوب، والضحية من جديد.

Exit mobile version