طلال سلمان

على الطريق خطوة أولى مباركة لكن الضمانة في الخطوات التالية

مبارك جهدك يا سي الأخضر الذي أنبت وردة فوق مزبلة الحرب الأهلية في لبنان، في أول يوم من خريف سنتها الخامسة عشرة.
لقد أعدت الاعتبار إلى العمل الدبلوماسي العربي، وحفظت كرامة الجهة التي أوفدتك والتي تمثل أرفع مستوى قيادي عربي، القمة ولجنتها الثلاثية. وقرارها التاريخي في الدار البيضاء.
بل إنك جددت الأمل بالحل العربي للمعضلة اللبنانية الذي ثبت بالملموس بعد التجارب البائسة والمكلفة إن لا حل غيره ولا حل بعده ولا من يحلون.
والأهم إنك، أنت الأكاديمي الهادئ، استطعت إقناع “جنرال” لم يعرف بالحكمة ولم يشتهر عنه التعقل والتبصر ودقة الحساب ولا خاصة الرأفة بأهله وبلده الجريح.
مع ذلك: برافو “جنرال”!
برافو، حتى وأنت آخر من وافق على وقف إطلاق النار الذي كنت أول من بادر إلى إطلاقه، من غير حساب وبغير مبرر وبغير شفقة، وفي الزمن الخطأ والمكان الخطأ وعلى الهدف الخطأ.
برافو، من غير أن ننسى إن “حربك” التي لما تنتهي قد كلفت البلاد والعباد في ستة شهور أضعاف أضعاف ما كلفته الحروب الأخرى المتعددة الأسماء والأطراف والشعارات والتبريرات في خمس عشرة سنة من القحط والبؤس الشامل.
… وهي قد كلفت في الأرواح والأرزق الكثير، ولكنها كلفت أكثر في ذلك الذي لا يعوض في المشاعر والروابط والعواطف التي تعطي للحياة معنى، والتي تنسج ذلك الرباط المقدس بين الأرض والناسز
خصمت من الأعمار، حربك يا “جنرال” أقل مما خصمت من الأحلامن ودفنت في الصدر والقلب، في العين والفكر، في الذاكرة والوجدان، من وشائج التعلق بالحياة أكثر مما دفنت من الأحياء.
ليس من لبناني اليوم إلا وهو أقل إقبالاً على الحياة مما كان قبل عيد ميلادك الثاني في 14 آذار 1989، بافتراض إنك ولادت على يد “القابلة” أمين الجميل لأول مرة في ذلك الليل البهيم من الأسبوع الأخير من أيلول 1988.
بل إن اللبنانيينن يا “جنرال” هم نصف عددهم في لبنان قبل أن تحررهم من ترابهم الوطني، من جامعاتهم ومدارسهم، من مصانعهم ومتاجرهم، من مزارعهم ومصارفهم، من صحفهم ومطابعهم، من مكاتب المحاماة أو العيادات أو الهندسة وسائر المهن الحرة التي صنعت أسطورة الازدهار اللبناني طيب الذكر!
مع ذلك، مرة أخرى، برافو يا “جنرال” فهي في أي حال لحظة للفرح لأن المدافع قد صمتت، ولو إلى حين، وإن الضحايا يستطيعون لملمة أشلائهم والالتفات إلى جروحهم النازفة بأجسادهم أو في معنوياتهم المدمرة أكثر من بيوتهم المهجورة.
أما يوم الحساب فآت بلا ريب، لكل من سبب أو شارك أو تواطأ أو تستر أو ساهم في إشعال نيران هذه الحرب وتعميم أضرارها بحيث شملت وجوه الحياة كافة ومرافق البلاد ومؤسساتها جميعاً.
ولكن هذا حديث عن الأمس بكل مآسيه وفواجعه وذكرياته المرة، فماذا عن الغد أو ما تبقى منه؟! ماذا عن الملف الأصلي، السياسي، باعتباره مصدر الحرب والسلام؟!
لا بد من التنويه بداية بالجدية التي عملت بها اللجنة العربية الثلاثية والتي تمكنت بواسطتها من تحويل التمنيات الطيبة إلى قرار التنفيذ لا يمكن لأحد أن يرفضه أو يجزئه أو يعترض عليه حتى “الجنرال” الذي احترف إعلان الرفض لكل ما ينهي الحرب بوصفها علة وجوده واستمراره في الملجأ الحصين بالطابق الثالث تحت أرض القصر الجمهوري في بعبدا.
لقد وفرت اللجنة لقرارها ظروف النجاح، ثم أطلقته فإذا هو أقوى من المدافع والصواريخ جميعاً، وأقوى بالطبع من قرارات المستفيدين من دوي المدافع.
وحين وقف سعود الفيصل ليعلن القرار، باسم اللجنة ويشرحه بالتفصيل أدرك الناس إن ضمانات التنفيذ قد توفرت وإلا ما كانت هناك ضرورة لحشد الصحافيين واستقدامهم من كل مكان والوقوف أمام العدسات الكاشفة للإجابة على الأسئلة القلقة والمقلقة بما يطمئن القريب والبعيد.
“إنها الخطوة الأولى” كما قال الأخضر الإبراهيمي.
ويدفعنا الحرص على نجاح الرجل الطيب ومهمته الجليلة إلى الاهتمام بظروف النجاح للخطوة الثانية: فالثالثة والرابعة ولكل خطوة لاحقة.
ذلك إننا تعودنا أن نكون حذرين وأن تتزايد مخاوفنا كلما جرت محاولة جدية لفتح الملف السياسي أي ملف إصلاح النظام، فكثيراً ما كان وقف إطلاق النار يقدم كرشوة لإغلاق هذا الملف أو لشطب بند الاصلاح فيه أو لتشويهه وتسخيفه بحيث يصبح سبباً لتجديد الحرب بينما هو – في الأصل والحقيقة – طريق الخروج منها إلى عهد السلام الوطني المنشود.
كان لسان حال البسطاء : يا سيدي انعموا الآن بالأمن ولنؤجل الاصلاح حتى تهدأ النفوس وتنتفي المخاوف وتذوب الأحقاد!
أو كانوا يجهرون بما هو أشنع: يا أخي لكل نظام عيوبه، ونظامكم بعيوبه ليس الأسوأ بين الأنظمة العربية بل لعلها جميعاً أسوأ منه.
أو إنهم كانوا يغمغمون: الاصلاح قضية أجيال. اتركوها للزمن، اطمئنوا وطمئنوا الآخرين، فهم كلما اطمأنوا أعطوكم أكثر. الخائف لا يعطي، إنه يريد دائماً أن يأخذ أكثر، ثم إنها مسألة معقدة، إذ هي ترتبط بالغرب ومصالحه، وبترسبات “المسألة الشرقية”!
لكن الغرب قال قبل العرب بكثير إن لبنان لا يمكن أن يستمر من دون إصلاح جذري لنظامه السياسي ينهي الهيمنة الفئوية على مقدرات البلادز ويحقق “للرعايا” فيه حقوق الإنسان بحيث يقتربون من مرتبة المواطنين المتساوين في الحقوق والواجبات.
قالتها الولايات المتحدة الأميركية مراراً وبصراحة موجعة لرافضي الاصلاح “الأميركيين” في النشأة والتربية والرغبة معاً!
وقالتها فرنسا بطريقة ملتوية، إذ حاولت التوفيق بين الماء والنار، بين ضرورة التغيير وبين المحافظة على الامتيازات أو الضمانات… والضمانات أجنبية في الأصل، وفرنسية في نسبة كبيرة منها، وهي – للمناسبة – بين أسباب الحرب الأهلية واستمرارها.
قالها الألمان، وقالها الطليان، وقالها الإنكليز وحتى الفاتيكان لم يستطع إنقاص أهميتها وضرورتها لاستمرار لبنان.
أما الاتحاد السوفياتي فموقفه معلن ومعروف وعملي وليس مبدئياً فحسب.
ولسنا نطلب الآن من العرب إلا ما طالب الغرب – بزعامة زعيمة العالم الحر الولايات المتحدة الأميركية – بضرورة إنجازه في لبنان لكي تنتهي الحرب فيه وتتأكد جدارته في الحياة.
إنها خطوة أولى لكن اللبنانيين يتمنون على اللجنة الحرص على أن تأتي الخطوة الثانية على الطريق الصحيح، فلا يكون انحراف أو تراخ أو تساهل بحجة تطمين الخائفين.
إن اللبنانيين جميعاً يموتون ألف مرة في اليوم خوفاً، برغم إنهم يصورون في العالم بصورة المخيفين والإرهابيينز
إن كل اللبنانيين بحاجة إلى ضمانات ، ولهذا فهم هم مصدرها الأول والأهم، يعطونها لبعضهم البعض، ثم يطلبون من العرب أولاً وبعدهم من العالم أن يؤكدها ويحميهاز
ومع التمني للجنة العربية الثلاثية المزيد من النجاح، فإن اللبنانيين يأملون ألا يكافأ “الجنرال” على قبوله بوقف النار بتوفير ضمانات لبقائه واستمراره حيث هو، أي وراء المدفع الذي دمر بيروت وأنهى الدولة وكان أن يغتال آخر فرصة للسلام الوطني في لبنان. فالسلام ليس بحاجة إلى “جنرال” ولا إلى مزيد من الجنرالات وأمراء الطوائف المتعيشين بالحرب وعليها
..السلام بحاجة على عمل سياسي جاد، حتى لو اتخذ شكل الصراع بين العقائد والاتجاهات يخرجنا من ملاجئ الجمود والرعب والصمت الجبان في ظل دوي المدافع، إلى الأفق الرحب للتوافق الوطني على صيغة المستقبل في هذا البلد الذي لا يستطيع أن يحتكره أحد أو ينسبه إلى طائفته أو دينه أو دولته الحامية.
ومبارك جهدك يا سي الأخضر وجهد من أوفدوك، لاسيما إذا ما واصلت وواصلوا رعاية “صغيرهم” و”مريضهم” و”غائبهم” المسمى لبنان، ولم يكتفوا بالإنجاز الذي تحقق والذي لا يكفي – على أهميته – باستيلاد هدنة هشة يمكن أن يخرجها أي أرعن سواء أكان برتبة “جنرال” أم براتب أميرال أم بقداسة أمير طائفة خائفة أو مغبونة.
وشرف العهد مرتبط بإنجازه يا سي الأخضر، كما تعرف ويعرف من أوفدك ممن يعيش معنا لحظة الفرح هذه التي نتمنى أن تكون نقطة البداية لتاريخ عربي جديد لهذا البلد الأمين.

Exit mobile version