طلال سلمان

على الطريق خطاب الأسد والانتفاضة: رسالة إلى خط النار

يثير خطاب الرئيس حافظ الأسد، لمناسبة الذكرى الخامسة والعشرين لثورة الثامن من آذار في سوريا، الكثير من الذكريات الحميمة، وأكثر من أسباب الشجن والأسى القومي.
فالخطاب عن التاريخ، كما إنه موجه إيله، إنه رسالة إلى المستقبل بقراءة معاصرة لوقائع الماضي، وربما لهذا حمل نبرة شخصية متميزة… فالذكرى عزيزة، والمسيرة حافلة وغنية بالدروس، ثم إن المهمات الباقية جليلة وتتطلب جهد أجيال، وقد لا تكفيها “25 سنة أخرى” كالتي تمناها الرئيس الأسد للجميع.
ولعل الانتفاضة المجيدة في أرض فلسطين المحتلة قد أعطت الخطاب لغته ومضمونه الحقيقي، وأعطت صاحبه الحق في أن يركز حديثه عن “الغد”، بغير أن يغفل متاعب “اليوم” ومصاعبه المعقدة.
ذلك إن الانتفاضة أعادت الاعتبار إلى ما هو “قومي” بقدر ما أكدت الحاجة إلى “القومي” في النضال من أجل التحرر… وهي قد فرضت على العدو نفسه أن يتعاطى معها باعتبارها شأناً عربياً عاماًن وحلقة في الصراع المفتوح بين الأمة العربية وبين الكيان الصهيوني. كذلك فهي فرضت طبيعتها “القومية” على حليفة العدو ومصدر دعمه الأساسي، الولايات المتحدة الأميركية، فجال وزير خارجيتها على أربع عواصم عربية لكي يحاول تطويقها أو محاصرتها أو الاقتراب منها بالأفكار القديمة التي يحملها.
وواضح إن جورج شولتس يحاول، هنا، أن يوظف العنصر المفترض “قومياًط ضد أو في مواجهة العنصر “الوطني” الفلسطيني، وإنه يحاول، على حد ما أبلغه الرئيس حافظ الاسد قبل أيام، أن ينهي أزمة الكيان الصهيوني بالسعي لإشعال حرب فلسطينية – أردنية، أو لإشعال نيران فتنة فلسطينية داخلية، وفي كل الحالات لتصوير “الفلسطينيين” وكأنهم غير “العرب” وخارجهم، وإن “العرب” ضدهم وخارجون على قضيتهم.
ومحاولة جورج شولتس لا تستهدف فقط إنكار حق الشعب الفلسطيني في أرضه، وبالتالي حقه في إقامة دولته فوق هذه الأرض الفلسطينية، مما يعطيه بداهة حق الاشتراك في المؤتمر الدولي بهويته الفلسطينية الصريحة، بل إن هذه المحاولة تستهدف أيضاً إسقاط الحق العربي، في فلسطين… فالعرض المقدم هو في جوهره خيمة “دولية”، هي في حقيقتها أميركية، لتحقيق مجموعة من معاهدات الصلح المنفرد بين إسرائيل وبين كل “دولة” عربية على حدة، وطالما إن “فلسطين” ليست “دولة” فهي إذن “ملحق” بدولتها الأردنية!!
أي إنه يريد من الفلسطيني أن يتنازل عن فلسطينه، عن وطنه وأرضه وهويته ووجوده وكل موجبات هذا الوجود،
ويريد من “العربي” خارج فلسطين أن يوقع له مرتين: مرة كمفرط بالحق العربي في فلسطين ، ومرة ثانية كشاهد “عدل” على توقيع الفلسطيني بإلغاء ذاته!!
إنه يريد من الفلسطيني كما من العربي خارج فلسطين خيانتين: الأولى إنكار وجود فلسطين والثانية إنكار عروبة فلسطين. فالعربي خارج فلسطين لا علاقة له بفلسطين الفلسطينية التي يراد لها أن تصير إسرائيلية، والفلسطيني لا علاقة له بالعرب خارج فلسطين التي يشترط للاعتراف “بقدر” من وجود بشر غير إسرائيليين فيها أن ينكر أهلها هويتهم وهويتها القومية.
إنه يريد، كما قال الرئيس الأسد، خيانة تؤبد الهزيمة، على أن تكون ممهورة بالتواقيع والأختام والمصادفات “القانونية”. إنه يريد مصادرة حقوق الجيل الحالي ومعها حقوق الأجيال القادمة أيضاً… فالخيانة يجب أن تشمل الذين لم يأتوا بعد.
إنه يريد أكثر مما يحصل عليه سلفه هنري كيسنجر من مصر التي قهرها السادات في كامب ديفيد.
وحافظ الأسد الذي يعرف مصر جيداً، ويقدر لها دورها التاريخي المجيد، قد تجاوز الحديث عنها في خطابه لأسباب سياسية، وإن ظلت حاضرة كأكثف ما يكون الحضور في المضمون.
فحافظ الأسد، شخصياً، ومعه جيله برمته، هم حصيلة النضال القوميث المشترك مع مصر أساساً وقبل سائر العرب. إنهم أبناء الوحدة التي كانت فكرة وصارت دولة، فلما انتكست تجربتها بالانفصال انتفضوا على الانفصال وأنهوا بالقوة عهده، وأعادوا الاعتبار إلى الوحدة كفكرة والمشروعية إلى النضال من أجل إعادة بنائها “دولة كبرى في هذا الشرق، لا هي عادية عليه ولا تستعديه، تشد ازر الصديق، ترد كيد العدو”.
وهم، بهذا المعنى، يعرفون إن فلسطين هي لب القضية القومية، وهي عنوان نصرها والطريق الذي لا بديل عنه إلى اكتمال الثورة بالوحدة.
فمن فلسطين جاءت ضرورة التغيير إلى سوريا، وإلى مصر ثم إلى سائر أقطار العرب.
وفي الطريق إلى فلسطين استعاد الجندي العربي كرامته حين انتزع زمام المبادرة وانتقل من ادلفاع الذي كان يقود دائماً إلى الهزيمة، إلى الهجوم الذي فتح باب الأمل بإمكان تصحيح الخطأ في مسيرة التاريخ،
وعلى هذا الطريق مشت مصر وسوريا معاً، وخلفهما كان سائر العرب يقدمون ما تيسر من الدعم المادي والمعنوي،
وسوريا ما زالت على الطريق ذاته، في اتجاه فلسطين… ومن هنا فقد جاء خطاب الرئيس الأسد وكأنه رسالة على رفاق السلاح في الخط الأمامي من الجبهة إلى الذين يبنون بحجارتهم مجد فلسطين والعرب. ولأنه خطاب موجه إلى التاريخ فقد كان ضرورياً أن يمر على تجربة المقاومة الوطنية (والإسلامية) في لبنان، وأن يوجه التحية إلى جبل عامل والمجاهدين من أبنائه، وأن يذكر بقومية المعركة (في حال التراجع كما في حال النصر) كما تجسدت من خلال امتزاج الدم السوري – الفلسطيني – اللبناني عبر المواجهة المشتركة للاجتياح الإسرائيلي العام 1982.
أما الحل، الحل الحقيقي، فلا يكون إلا بالنصر،
والنصر آت، بلا ريب، إذا عملنا من أجله، كما يعمل جيل التحرير داخل فلسطين المحتلة.
وأبرز سمات الأهلية في تحقيق النصر إن هذا الجيل غير متعجل، ولا يلهث وراء أوهام التسوية التي لا تعني غير أن نفرط ببعض حقنا، ثم نقبل من العدو أن يتنازل لنا عن بعض حقنا مقابل أن نتنازل له عن كل حقنا في المستقبل.
ومؤكد إن “الأطفال” الذين أعطونا مجد الانتفاضة يفهمون التاريخ بعمق، ويقرأونه القراءة الصحيحة ويستخلصون من دروسه مثل ما استخلص الرئيس حافظ الأسد الذي كان بالأمس “فلسطينياً” و”لبنانياً” بقدر ما كان “سورياً”… ولهذا فقد التزم المنطق القومي الذي بقوته أسقط عهد الانفصال.

Exit mobile version