طلال سلمان

على الطريق خريف الطائفة العظمى!

في اليوم الأول من خريف العام 1988 كان السقوط العظيم للطائفة العظمى في لبنان!
ولربما سيؤرخ – مستقبلاً – بهذا اليوم لسقوط عصر الطوائف، ملوك الطوائف، أمراء الطوائف، تجار الطوائف، الخيانات باسم الطوائف ومصالح الطوائف، الجرائم المرتكبة بذريعة خوف الطوائف أو لحماية الطوائف الخائفة من الطوائف الخائفة.
لقد فاضت كأسنا فكان لا بد أن يسقط ماؤها فيذهب في الأرض!
لقد أترعنا بالطائفية، منطقاً ولغة وذرائع للسياسات الخاطئة والمنحرفة، ولم يتبق مجال لمزيد، فكان لا بد من سقوط الطوائف، والطائفيات المتساندة!
لقد أشبع الهواء ففسد فارتد على نافخيه فاختنقوا بسمه الذي أنهك اللبنانيين على امتداد أجيال!
ولقد كان سقوط الطائفة العظمى علنياً، بالصوت والصورة الملونة: تهاوى الرموز والقادة والممثلون والزعماء كصفائح من كرتون، فإذا خلفهم هوة سحيقة من الفراغ والتفاهة والانحطاط المزري!
لقد زالت الغمامة عن عيون اللبنانيين، وانكشف الغطاء فبدا الجميع عراة في باحة المقر البطريركي ببكركي كما في ساحة القصر الجمهوري ببعبدا. وحدهم الأصحاء، نسبياً، أو الذين ما زالت فيهم مناعة كافية لمقاومة الداء العضال وقفوا شهوداً “يندبون” ضحايا “الحمى اللبنانية” بشعر الأخطل الصغير: هذا قتيل هوى ببنت هوى فإذا مررت بأختها فحد!
ولسوف يسجل لأمين الجميل هذا الفضل الباقي: إنه كان الأخير، وإنه لم يذهب إلا بعدما تسبب في سقوطهم جميعاً قبله أو معه.
فإذا كان هو الرائد وحامل الراية، وإذا كان هو المطوّب حامي حمى الطائفة وفارسها وسيفها، وإذا كان هو المطوّب حامي حمى الطائفة وفارسها وسيفها، وإذا كان هو “الأذكى” والأدهى والأشطر والأمكر. إذا كان هو رحيق التعصب وفي الوقت ذاته عنوان الانفتاح العربي، رمز الديموقراطية والقيم على الدستور وفي الوقت ذاته الخارج على الدستور والمتفرد برأيه وبالحكم وبالقرار والمسخر الشرعية لخدمة الأغراض والأهواء والمصالح المدمرة للشرعية ومؤسساتها.
وإذا كانوا قد التزموا به فحموه وحفظوه وأطاعوه حتى اللحظة الأخيرة، حرصاً على الطائفة ومصالح الطائفة وكرامة الطائفة، وكأنها أقدس وأهم من حقوق الجمهورية والوطن والشعب.
وإذا كانوا قد اختلفوا على وراثته فاقتتلوا على الأسلاب والمغانم، وهو بعد في القصر لم يغادره ولم يتخل عن ذرة سلطة أو منفعة،
إذا كان هذا واقع الحال فطبيعي أن يكون السقوط جماعياً، وأن تشهد الدقائق الأخيرة عملية قيصرية لاستيلاد حكومة شوهاء رئيسها جنرال لم يكسب إلا حروبه ضد الوطن والشعب، أما أعضاؤها فقد رفضوا جميعاً المشاركة في هذه الجريمة بعضهم جهراً وعلانية والبعض الآخر في السر وبالتعهد بالامتناع عن الممارسة!
الأرض بساط مزركش بأعلام التنظيمات المندثرة، باللغات المنقرضة، بالشعارات البائدة، بصور الوجوه القديمة – المجددة أو الجديدة المولودة قديمة!
أهل الحرب في الأرض، معفرو الوجوه بالتراب والخيبة وافتقاد الأهلية والجمهور. ليس لهم غد يرتجونه، وهم في هربهم من ماضيهم يطاردون اليوم الحاضر كما الكاوبوي يحاولون أن يعتقلوا الساعة فيه حتى لا تدور عقاربها فتسحقهم وتلغيهم.
أهل الحرب لا يعيشون إلا بالحرب. وعدة الحرب الطوائف… وهم يتحصنون خلف الطائفة وحقوقها، ويتخذونها درعاً وسيفاً، لعلهم يستدرجون سائر الطوائف إلى ساحة حرب ولو وهمية تبقيهم في موقع السيطرة ولو قضى الوطن (والشعب) نحبه!
لكم هو مفجع أن يقود الطائفة مجموعة من المحكومين بالإعدام والمعاقين والمقامرين المحترفين ومدمني أفيون الحرب الأهلية!
لكن هؤلاء أبناء شرعيون للجو الطائفي، للمنطق الطائفي، لادعاء الحق الالهي لطائفة بالذات في أن تكون القائدة والسيدة وصاحبة السلطان بلا شريك!
إنه منطق أسطورة “شعب الله المختار” ذاته. وهو منطق عدمي. ومن الطبيعي، بالتالي، أن يحكم باسمه “المقتولون حتماً” من أصحاب النزعة الانتحارية.
ومن أسف إن هذا المنطق قد ساد في ظل الحرب الأهلية، فصارت كل طائفة بذاتها ترى إنها “شعب الله المختار” وتسليم قيادها للأكثر هوساً والأقل ارتباطاً بالأرض والشعب وفكرة الوطن.
ولأننا نشهد الآن، عبر الدوي المجلجل، سقوط الطائفة العظمى فلك أن تتخيل ما أصاب أو ما سوف يصيب الطوائف الأخرى!
ذلك إن الطائفة للطائفة كالبنيان المرصوص، يشد بعضه بعضاً، فكيف إذا انهارت الطائفة – القائدة، المحمية والحامية، الممتازة وذات الامتياز والتي تستطيع أن تمنح وأن تمنع؟! ومفهوم إن لا بد من طوائف ملحقة أو طوائف صغرى لتكون ثمة طائفة عظمى، فإذا ما نخرها السوس وضربتها رياح الخريف “هرت” الطوائف الأخرى من قبل أن يصلها الدور!
لقد سقطوا جميعاً وكان السقوط عظيماً!
وقبيل السقوط ظهروا جميعاً وبالحجم الطبيعي وبمواصفاتهم الطبيعية:
“الرئيس” صغير في مقعد الكبار. يحاول أن يقلدهم، يرفع رأسه، ينفخ صدره، يرفع يده كمن يشير بالرأي الفصل، فإذا ما انتبه إلى العدسة ولمح صورته فيها أخذه الزهو فمد لسانه للجمهور، وانفتل في كرسيه الدوار يطالب من حوله بالتصفيق وبجائزة المتفوق في المباراة المدرسية: لقد خدعت جميع النفس كل الوقت! كلهم خسروا وخرجت الرابح الوحيد!
و”القائد” مختل، في تكوينه عيب طبي، إذ إنه بلا عمود فقري، وهكذا فإن يديه أسرع من لسانه. ولسانه مقطوع الصلة بمخه. وعينيه المنفصلتي الشبكة تدوران في محجريهما دورة كاملة حول وجهه العبيط، ثم تهربان إلى الفراغ حيث مصدر الوهي ومنبع العبقرية… أما الساقان فمسكونتان بموسيقى راقصة تهتزان على نغماتها اللاهثة يميناً ويساراً وإلى الخلف، ومع النغمة الرابعة تجيء الاندفاعة إلى الأمام فإذا الساق في موضع اليد، وإذا اللسان في موضع العين، وإذا “الفكر” في ذلك القسطل الفارغ الملتوي حيث كان يفترض أن يمتد النخاع الشوكي!
أما “الجنرال” فاكتع حتى من قبل أن يكسر يده ليشحذ عليها!
طلب الرئاسة فلما امتنعت عليه ارتضى بالقيادة، فلما ضربوه على يده ارتأى إن الوزارة تكفيه. يرى في نفسه ديغول… ولأن ديغول طويل جداً وهو قصير جداً فقد قبل أن يكون نصفه، وبصره مشدود بعد إلى فوق يحاول أن يدرك الأنف الأشم القائم برجا في الوجه المشدود بكبرياء أصحاب الأنفة!
يبقى سيد بكركي… وبكركي قلعة بلا حرس، فالصنوبر يطيب الأنفاس لكنه لا يصير جيشاً، والنية الطيبة إذا استنقعت تحولت إلى عاهة، واللاهوت بعضه بالسريانية وبعضه بعربية قريش وبعضه المستبقى باللاتينية القديمة، وهذه كلها بعيدة عن إنكليزية الأميركان!
ولأنه لا يحل ولا يربط فقد اختاروه مكاناً. ثم ألبسوه قرارهم، وقالوا رأيهم من فوق رأسه، فلا هو استطاع أن ينكره، ولا هو قادر على تبنيه، وهكذا اعتصم بالصمت شهادة على البراءة، في حين ظلت الصورة شاهد إثبات وإدانة!
في اليوم الأول من خريف 1988 انتهى عهد أمين الجميل، فلم ينزل عن كرسيه إلا وقد أسقط معه رئاسة الجمهورية!
وفي ليلة الوداع طال السهر ليتأكد الناس إن الذي دخل القصر الجمهوري خلسة ومحمولاً على دبابة إسرائيلية قد خرج ولن يعود.
جلسوا إلى شاشات التلفزيون يسمعون النشيد المنسي، ويتأملون العلم المعلق في فضاء مفتوح، فلما جاء “الرئيس” ليخاطبهم للمرة الأخيرة وجدوه كما تخيلوه: عاجزاً، فاشلاً، أنانياً، يرى في نفسه – بعد – مركز الكون.
فخطابه الوداعي كان شخصياً إلى أقصى حد، لم يتضمن كلمة واحدة عن أي هم من همومه الفعلية. بل هو “بشرهم” بأنه قد أضاف إلى تلك الهموم مشكلة إضافية معقدة هي الحكومة. لا كلمة عن الاصلاح، لا كلمة عن التحرير، لا كلمة عن هوية البلاد أو مستقبلها.
على إنهم حفظوا له إنه امتنع عن التبجج بإنجازاته، كما تعود أن يفعل.
وقبل أن يغيب كان ليله الطويل قد أطبق عليهم بظلمته.
لقد تركهم فريسة للمجهول.
ذلك هو آخر إنجاز لحكم الانقلاب الكتائبي الذي سنشهد بعد شيئاً من تداعياته المنطقية في عهد ما بعد أمين الجميل.
لكن لبنان بخير، بعد،
ولبنان أقوى من الطوائف، بما فيها الطائفة العظمى،
فإن يعجز أمين الجميل ومعه “القائد” و”الجنرال” من إقناع سياسي واحد بتشكيل حكومة أو بالمشاركة في حكومة، هذا انتصار تاريخي للوطن على الطائفةز
لقد سرّع أمين الجميل عملية خروج الموارنة من الطائفة إلى الأفق الوطني الرحب،
ولسوف تنتقل العدوى إلى سائر اللبنانيين بالضرورة،
وبهذا فقد نكون، فعلاً، وإذا أحسنا التصرف وفهمنا معنى الأحداث والتحولات، على عتبة عهد جديد يمكن أن ينبثق منه لبنان الجديد… لبنان الوطن العربي الديمقراطي السيد المستقل الحر الذي نتطلع إليه جميعاً.
إن لبناناً نقيضاً للذي كان في ظل حكم الانقلاب الكتائبي على وشك أن يولد الآن،
فلنساعد جميعاً على أن تتم الولادة في مناخ صحي،
ولنترك الخريف يذري الطوائف أوراق شجر مهترئة وعفنة،
المهم: ألا نعتبر سقوط الطائفة العظمى انتصاراً للطوائف الأخرى،
المهم ألا نعتبر سقوط بعض أمراء هذه الطائفة انتصاراً للأمراء الآخرين فيها أو في سائر الطوائف.
المهم أن نعمل جميعاً لإقالة الجمهورية من عثرتها،
وأول الدرب: إقالة الجنرال وإقالة القائد الذي اختبأ خلف الجنرال ليقود – كالعادة – حربه بالآخرين، فيتخلى لهم عن الهزائم ويظل هو المنتصر الدائم على لبنان، الجمهورية بشعبها وأرضها (التي ما زالت محتلة) والمؤسسات.

Exit mobile version