طلال سلمان

على الطريق حول لقاءات “الحلفاء” في دمشق: لنطو ملفات “الحروب” الخاطئة

تظلمنا لقاءات دمشق إذا هي اقتصرت على إتمام مصالحات بين سياسيين متخاصمين لأسباب يغلب فيها الخاص على العام ويتداخل الطائفي مع الوطني بحيث تضيع الحدود ويضيع الناس وتضيع القضيةز
ويظلمنا الذين قصدوا أو سيقصدون دمشق إذا هم تعاطوا مع الوضع السائد في البلاد وكأنه هو ذاته الذي كان مع نقص فيه سببه غياب رشيد كرامي.
فلا الذين يتواجدون الآن في دمشق، من السياسيين اللبنانيين، يعوضون فرادى الرئيس الشهيد، ولا هم إذا ما اجتمعوا يستطيعون ملء الفراغ الكبير الذي نجم عن تغييبه بالقتل والمتعمد ومع سبق الإصرار والترصد.
… ولو إن أحداً منهم، أو لو إنهم يعوضونه مجتمعين، لما قتل رشيد كرامي، ولما كان اللبنانيون ومعهم السوريون والكثير من العرب يعيشون، بعد، حالة الذهول، ويعانون صعوبة بالغة للخروج من تأثير الصدمة والتعامل بواقعية مع لبنان ما بعد رشيد كرامي، وعالم ما بعد كرامي.
ومن الأمانة أن نصارح المتداعين إلى دمشق إنهم يصغرون في نظر الناس بقدر ما يعملون على تكبير الخلافات في ما بينهم،
فهم، في أحسن الحالات، سياسيون محترفون، لا مواقعهم ثابتة، ولا مواقفهم محكومة بالمبدئية الصارمة، ولا خلافاتهم هي شغل الناس الشاغل.
وبالصراحة ذاتها يمكن القول إن الناس، يفضلونهم متخاصمين سياسياً، لأن تجربة تحالفهم أو ظهورهم بمظهر رفاق صف واحد، كلفت البلاد والعباد الكثير الكثير من الأرواح والأرزاق وقوة الموقف وصلابة المواجهة المطلوبة مع الخصوم في الداخل، كما مع العدو القومي.
ثم إن الناس، وبعد الذين كان في أعقاب اغتيال رشيد كرامي، قد أحسوا بشيء من اليتم وافتقاد المرجع والقائد السياسي، واختلفت محاكماتهم وأحكامهم على كثير من القوى والقيادات السياسية المحلية.
كان الناس مستعدين أن يغفروا حتى لأمين الجميل الكثير من خطاياه المميتة لو إنه تصرف بالمسؤولية الوطنية المطلوبة وبالحزم الضروري وبالشجاعة الأدبية التي تفرض الاعتراف بالخطأ، وتفرض أيضاً الاعتراف بالعجز بدلاً من الصمت الذي لا يمكن أن يعني غير التواطؤ، وغير الهرب إلى تكبير الجريمة للتستر على الأدوات وصغار المنفذين.
ولقد برهن اللبنانيون عموماً، بمن فيهم أهل طرابلس ذاتها بقيادة آل الرئيس الشهيد، إنهم كانوا يطلبون “موقفاً” لا ضحية، وإنهم كانوا يبحثون لأنفسهم عن مكان في الدولة، دولتهم، حتى بعد اغتيال رجلها وعنوان وجودها، فلم يخرجوا منها ولم يخرجوا عليها ولم يتوجهوا إلى غيرها.
… وماذا أكثر من أن يتوجه “اللقاء الإسلامي” إلى رئيس الجمهورية، ويخاطبه مخاطبة المرجع، ويتجاوز كل الحساسيات والآلام، فينهي القطيعة باتصال مباشر، ثم يكرس الوصل باتفاق على صيغة تمنع حدوث فراغ في السلطة وتحمي مكانة الدولة ورئيسها. كل هذا وجثمان رشيد كرامي على مدرج مطار الموت في حالات، بعد، متروك للريح وللشماتة وللظلم ولتجبر المتسلطين على البلاد والعباد ودولة أمين الجميل أيضاً؟!
حتى الجلسة الشهيرة في منزل آل كرامي بطرابلس ما كان ليكون لها مجال، وما كان ليصدر عن نائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام ما صدر عنه، لو إن أمين الجميل كان قد تصرف بما يمليه عليه واجبه تجاه البلاد وصيغتها السياسية، وتجاه دولته ورجلها الأبرز، رئيس حكومة وحدتها الوطنية.
وغير مهم هنا أن ينسب عدم تصرف أمين الجميل إلى الخوف أو إلى العجز أو إلى التواطؤ، فكل ذلك سواء. فدم الدولة المهدور على مطار حالات حتفاً، ظل مهدوراً ومعه دم جيشها وسائر المؤسسات، بل إن بقعة الدم صارت تنتشر حتى كادت تغطي كل المساحة القاتمة بين جسر المدفون وكفرشيما بوصفها المنطقة المعادية للدولة، والمنطقة التي قتلت فيها الدولة، بغض النظر عن العواطف والنيات الطيبة والمواقف الأخلاقية المعلنة.
في السياق ذاته يمكن القول إن الناس كانوا مستعدين لأن يقبلوا فعل توبة من “القوات اللبنانية”، لو إن قيادتها تصرفت بحس من المسؤولية تجاه الوطن ودولته ومواطنيه الذين لم يجسدهم أحد – متوحدين، متكافلين متضامنين – كما جسدهم رشيد كرامي حياً ثم وهو ممزق إرباًز
كان الوطن ممزقاً بفعل العبوة الناسفة،
ولقد أكملت “القوات” بقصر نظرها، أو بقوة ارتباطها بالجهة القاتلة، حتى لا نقول بتواطؤها مع هذه الجهة وتسترها عليها، تمزيق ما تبقى من أسباب الوحدة ومن رموزها،
ولن ينفع بعض قياديي “القوات” أن يظهروا الآن الندم، أو أن يعترفوا بأنهم قد ظلموا رشيد كرامي حياً وظلموه ميتاً، طالما إن موقف قيادتهم المعلن والعملي قد وظف لاغتيال رشيد كرامي وما يرمز إليه مرة أخرى.
حتى ادعاء الحرص على وحدة المسيحيين في مواجهة اتهامهم بقتل رشيد كرامي، لا ينفع لا في التبرير ولا في تخفيف الجرم،
فلا الادعاء صحيح، ولا أحد من المعنيين، أو حتى من اللبنانيين، وجه تهمة القتل إلى المسيحيين، أو حتى إلى “القوات” كتنظيم مسلح، ولا إلى الجيش كجيش، ناهيك بأمين الجميل.
لكن كل طرف كان معنياً وكان مطالباً بتبرئة نفسه، خصوصاُ وإن الملابسات والظروف التي أحاطت بالجريمة كانت وما تزال تلقي ظلال الشك حول الجميع،
وكانت الطريق إلى تبرئة الجميع، وما تزال، واضحة تماماً: كشف الجناة، الفعليين،
فالناس مستعدون لأن يتفهموا أن يكون بين الأدوات بعض العناصر من “القوات”، بغير أن يكون هذا قد تم بعلم “القوات” وبقرار مركزي من قيادتها.
والناس مستعدون لأن يتفهموا أن يكون بين أدوات التنفيذ ضابط أو أكثر، رتيب أو أكثر، جندي أو أكثر، بغير أن يعني تورط هؤلاء إن الجيش – كمؤسسة – أو إن قيادته المباشرة، أو قيادته العليا، هي مصدر القرار بالقتل.
ونعود إلى دمشق والذين يظلموننا ويظلمونها حين يتعاطون مع مرحلة ما بعد كرامي باستخفاف لا يتناسب أبداً مع مخاطر هذه المرحلة الصعبة.
وهم يظلمون دمشق لأنها المعنية والمسؤولة والمطالبة بإنقاذ ما يمكن إنقاذه من لبنان وهويته القومية ودوره العربي، بل من سلامة الناس فيه.
ثم إنها معنية بالجريمة لأن رصاص الاغتيال موجه إلى دورها في لبنان وخارجه،
وفي العين السورية، كما في أي عين عربية، فالاغتيال مقدمة هجوم إسرائيلي شامل يتجاوز لبنان إلى كل عربي بين المحيط والخليج.
هي الحرب،
حرب إسرائيلية ضد كل وطني في لبنان، في الشرقية كما في الغربية. وضد كل عربي، سوريا كان أم فلسطينياً أم يمنياً أم حتى مغربياً.
وأبسط واجبات القيادات السياسية ذات التوجه الوطني أو المنتدبة نفسها لدور وطني، أن تثبت إنها في مستوى المسؤولية، وإنها مؤهلة وقادرة على تجاوز كل الحساسيات الشخصية والمكاسب الصغيرة لمواجهة مسؤولياتها الوطنية والقومية، وتمكين الناس، بل دعوتهم وتحريضهم على تعبئة صفوفهم للقيام بأدوارهم الطبيعية في الحرب المفروضة على الجميع،
أما التسلي بالشروط، وإما استخراج كل موروثات حروب الزواريب، وإما التصرف وكأن البلاد بألف خير وبوسعها أن تنتظر إلى ما شاء الله حتى يصفو خاطر قياداتها التاريخية الفذة وحتى يهدأ بالها وينشرح صدرها ويزول عن مزاجها الكدر،
وأما الاستمرار في استنفار الطوائف والمذاهب ضد بعضها البعض وكأن الحرب في ما بينها هي واجب مقدس لا مفر منه ولا مندوحة عن القيام بأعبائه ولو صار شارون في غرفة النوم.
وأما إرباك دمشق وإضعاف قدرتها على المواجهة التي ستطول وستتعدد جبهاته داخل لبنان وخارجه.
أما كل ذلك فلا يمكن تصنيفه إلا كخطأ قاتل، والخطأ هنا يتجاوز في مخاطره الجريمة البشعة التي أفقدتنا رشيد كرامي.
أليس ملفتاً أن يتوحد الخائفون والعاجزون والمتورطون والمتسترون على الجريمة والجناة، ويكون توحدهم على خطأ فظيع وبين من شأنه أن يهدد وحدة لبنان وسلامته؟!
.. ثم أن يفترق المتفقون، من حيث المبدأ، على توصيف الجريمة وخطرها المؤكد على وحدة لبنان وسلامته، فيساهمون بفرقتهم في تبرير عجز العاجزين وخوف الخائفين وتورط المتورطين وتستر المتسترين، وبالتالي في إفقاد لبنان المزيد من ضمانات سلامته ووحدته؟!
إنها الحرب، الحرب،
فلنطو ملفات “الحروب” الخاطئة السابقة،
فلنطو ملف حرب الزواريب التي أفقدتنا المناعة الوطنية،
ولنطو ملف حرب المخيمات التي أفقدتنا المناعة القومية،
ولنطو ملف حرب الطوائف والمذاهب ضد العقائد وضد العمل الحزبي وضد مبدأ التنظيم الشعبي، وهي قد أفقدتنا وضوح الرؤية والصفاء الفكري،
فاتفاق القاهرة ميت، وبيد ياسر عرفات، منذ زمن بعيد، وآخر مرة قتله فيها عرفات كانت يوم وقع اتفاق الهزيمة والخروج مع فيليب حبيب بوكالته عن شارون،
ومطار “حالات” حتفاً ولد جهيضاً، وما كان ليصبح قضية لولا مسلسل الحروب الأخرى التي ذكرناها والتي أنهكت الناس وفرقتهم ومزقت قدرتهم على مواجهة الخطأ، هنا وهناك،
والطائفية ليست سلاحاً صالحاً لبناء وطن، فكيف بالمذهبية، ثم كيف بالحروب المذهبية.
فارحموا رشيد كرامي الشهيد،
وارحموا لبنان الشهيد،
وارحموا سليم الحص الذي يكاد ينوء بحمله شخصياً، فكيف إذا أثقلتم عليه أيضاً بخلافاتكم الجانبية،
وكيف ومتى وأين وبأية قوة يمكنكم، وأنتم في هذه الحال، مواجهة من تتهمون بالجنايات العظمى جميعاً، وآخرها جناية قتل رشيد كرامي؟!
وقبل هذا وبعده: ارحموا دمشق،
فدمشق، ولاسيما في هذه الأيام، ليست فندقاً، وليست منتجعاً سياحياً لطالب الراحة، ولا تملك أن تضيع وقتها وجهدها واهتمام مسؤوليها في حل خلافات هامشية بين قيادات ترفض أن تحاسب نفسها ثم تعطي لذاتها حق محاسبة العالم أجمع.
إنها ساعة للصحوة، للعمل، للتعبئة، للاستعداد، للوحدة،
فالحرب قد بدأت، فعلاً،
والتاريخ لن يرحم مقصراً، أو متخاذلاً، أو هارباً، من الميدان بأية ذريعة،
وكلمة أخيرة: حتى التأثير في الجهة الأخرى، بقصد تغليب القوى الوحدوية على التقسيمية، شرطه الأول والأخير إثبات الوحدوية في هذه الجهة، وهي بديهية، ثم مساعدة دمشق على لعب دورها الطبيعي والحاسم بغير معوقات.
ودمشق مع الوحدويين، هنا وهناك،
والوحدوية هي شرط التحالف معها،
وحذار حذار من أن يتحول الحلفاء إلى أثقال وأعباء ومعوقات، فعندها لن يخسر هؤلاء دمشق فقط، بل سيخسرون لبنان كذلك،
وعلى مر التاريخ، لم تكن التحالفات بين قوى سياسية، أمراً دائماً وثابتاً ومستمراً، بل هي تتبدل بتبدل الظروف والاحتياجات وطبيعة توازن القوى السائد.
والحليف من قدّر أوضاع حليفه فكان عوناً له في لحظة الشدة، حتى وإن كان له رأي مختلف، ولم ينتهزها فرصة لتحسين موقعه الشخصي ولو على حساب الحليف والأهداف الأصلية للحلف ذاته.
.. مع التذكير بأن الأساس العقائدي أو الأيديولوجي لمثل التحالفات التي نتحدث عنها أكثر هشاشة من أن يتحمل مبالغة في “الدلال”.
ومع التذكير أيضاً بأن البداية والنهاية، قبل اغتيال الرئيس الشهيد رشيد كرامي وبعده، هي عروبة لبنان.
وحماية هذه العروبة، هي الآن، الأساس الوحيد للتحالفات في الداخل كما مع دمشق.
وبعروبتنا، في لبنان، نحمي عروبة دمشق، والعكس بالعكس، وما عدا ذلك فهو باطل الأباطيل.

Exit mobile version