طلال سلمان

على الطريق حوار مع دجلة عن دمشق والقاهرة وطهران المقدسية

هل تسمح “المرحلة” ، بعد، ببعض الكلام العاطفي، وهل لا زالت لغة الوجدان صالحة للتعبير عن النفس (والوضع) ومفهومه في عصر “كامب ديفيدط والسلام الإسرائيلي؟!
في أي حال، هذه هوامش في دفتر يوميات سياسية، وإذا كان ضرورياً الاعتذار عن اللهجة الشخصية فلا مجال للاعتذار عن دفء الكلمات، ذلك إن العراق لا يعرف “الوسطية” لا في العواطف ولا في السياسة، ثم إنه كان يعيش فرحة العودة إلى أمته وعودة أمته إليه، وقد انتقلت العدوى إلى جميع الذين شهدوا وشاهدوا بغداد ترفل في ثياب عيدها الكبير.
القمة في بغداد، والعين على دمشق، والهوى فلسطيني، والقلب في بيروت، والعقل مشغول بما في القاهرة المقهورة بساداتها.
التاريخ ليس كتاباً وليس حكايات، بل هو إنسان أسطوري بل شكل، لكن الجو عابق بأنفاسه ووقائعهن وأنى ذهبت لا تخرج من أساره بل تجد إنك إنما تتوغل فيه أكثر وتحس أنه يملأك، يسد عليك المنافذ، يفرض عليك أن تتعاطى معه، أن تحدد موقعك منه وعلاقتك به.
ودجله راوية لا يتعب. صامت حتى لتحس أنه وحده المتحدث، وإن ما يقوله هو فقط المهمز
دجله سيف يماني ينتظر القبضة المؤهلة. تجلس إليه لتتأمله وحين تصل تكتشف أنه كان يتأملك طول الوقت، وتهرب منه فإذا عينه تتابعك، ترمقك بشيء من الإشفاق، تحتويك، تربت على كتفك مهونة عليك، وتبلغ غرفتك فتجده قابعاً على سريرك ليحدثك عن أجدادك الذين كانوا أعظم منه فطوعوه، وابتنوا حوله عاصمة للدنيا.
أينك يا القاهرة، وأين نيلك العظيم يكمل الحكاية التي نكاد لا نفعل شيئاً غير إثبات براءتنا من وقائعها المثيرة؟!
لكن دمشق هنا، وبردى يقهقه هازلاً عبر الشرايين جميعاً، ويدغدغ دجله ويعبث بلحيته فينتزع منه ابتسامات تسقط عن وجهه الوقار الحزين.
مثل الصبي الشقي، هذا البردى، قد يستفزك وقد يخرجك عن طورك، لكن حبه يظل أسراً ، ويظل – لسبب ما – رمزاً ومرادفاً لأيامك الأمتع بالوجد والصبابة ورفيف الأقحوان فيها.
ودجله مرآة ناطقة،كثيرة فزعوا حين نظروا إليه فإذا وجوههم فيه بملامح ساداتية.
وعند باب القاعة الرئيسية للمؤتمر كان دجله يقف هناك متأدباً ملتزماً بأصول الضيافة وكرمها، لكنه كان يتململ بين الحين والآخر ويهمس لمن حوله: أف ما أكثر الساداتيين! ثم يقرأ الفاتحة لروح “أبي العباس السفاح” و”محمد علي الكبير”!
“بغداد العروبة”… الساحات شهداء: جمال عبد الناصر، كمال جنبلاط، الشواف، والقافلة طويلة، خصوصاً لأولئك الذين بلا أسماء،
“بغداد العروبة”.. الجدران والشجر والأعمدة والحجر، الأبواب والنوافذ كلها تحمل السمة المميزة لعصر البعث: أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة، وحدة حرية اشتراكية، مع الصورتين متجاورتين موحدتين في القياس والزي مدنياً كان أم عسكرياًز
وبغداد متورمة ، منتفخة بملايينها (أكثر من ثلاثة وأقل من أربعة)، ودجله يلهث ليصل إليهم جميعاً في دورهم الأنيقة المتباعدة والتي تنبت وتتكاثر كما الفطر ملتهمة مزيداً من المساحات الخضراء.
لا حاجة للأرقام. الغنى واضح. واتساع رقعة الميسورين مؤكد بتورم بغداد وبتناقص الريفيين: العقوق واحد في كل مكان، فهنا أيضاً يهجرون أمهم الأرض إلى قرش الوظيفة المضمون وإلى “المكتب” والعمل المريح.
الشوارع بيروتية، دمشقية في ازدحامها بالسيارات، والفرق واضح ما بين الحقبتين: ما قبل ارتفاع أسعار النفط وما بعد ارتفاعها إلى أرقام فلكية. وفي الشوارع كما في المصانع والمزارع يتجاور العالمان الرأسمالي والاشتراكي بلا تحرج.
تسألهم عن القمة فيحدثونك عن دمشق،
تسألهم عن “الحد الأدنى” عربياً فينطلقون مبشرين بـ “الحد الأقصى” عراقياً، وسوريا وتأتيك من أجهزة الإذاعة أغاني السنوات الأبهى: النصف الثاني من الخمسينات،
وفي صورة المستقبل التي يحدثونك عنها بكثير من النشوة تحتل الدولة مساحة لا تقل عن تلك التي للحزب..
ويسبقونك إلى التنبيه إلى مرارة التجارب التي عشناها، وإلى غنى الدروس المستفادة: “لسنا متعجلين ولكننا جديون، ودليل الجدية إننا لم نعلن الوحدة فوراً، مع أن جو العلاقات الجديدة كان يسمح بذلك”.
“بغداد العروبة” سورية الملامح، الآن، ودمشق عراقية الساحات والأسواق ، وبردى خمرة لهؤلاء القادمين من عاصمة الرشيد بعطش عتيق عتيق، هل ثمة ما يمنع مصالحة بين العباسيين والأمويين، أم إن التاريخ يجب أن يظل وقائع قتال بين الأخوة؟!
والطائرة الإسرائيلية عمياء، لن تفرق بين أبناء العمومة الهادرين دم المستقبل على مذبح الماضي الذي مضى وانقضى ولن يعود،
وعصر الردة والتردي والسلام الإسرائيلي ثقيل الوطأة، والوحدة موحشة ومخيفة، وافتقاد النصير يزين السقوط ويبرر للضعيف انحرافه.
وشبح السادات يهوم في كل مكان، يقتحم علينا غرف نومنا، يخرج إلينا من مسامنا، يفاجئنا كامناً متربصاً في عيون أطفالنا، يهزأ بشعاراتنا وأغانينا، يلغي أعمارنا، يشطبنا جميعاً، يغرقنا في متاهة الإحساس بالتفاهة والعجز، يقهرنا وهو يحاول قسرنا على التمثل به أو الانتحار.
وفي بغداد رأيناه جميعاً، كما في بيروت ودمشق وطرابلس والجزائر وعدن من قبل، يطوف في الشوارع محاولاً تمزيق الرايات ورمي كتب التاريخ وأسماء الشهداء والأبطال جميعاً في دجله.
بل إنه كان يحاول رمي الأطفال أيضاً والحوامل ليخلص حتى من الأجنة.
وهو يفاخر بأنه مزق مصر إرباً إرباً وألقى كل قطعة منها في مكان،بحيث تستحيل إعادتها إلى الحياة.
لكن مصر كانت عظيمة الحضور في بغداد.
وكانت تنبه الجميع كلما أخطأوا وترشدهم إلى الاتجاه الصحيح: فليس لقاء بغداد – دمشق بديلاً عنها، بل هو الطريق إليها ويجب أن يكون.
وفي بغداد، كما في دمشق يعرفون: إنها ليست معركة لعزل مصر، بل إنها أساساً معركة لاستعادة مصر ممن عزلنا عنها وعزلها عنا، لإضعاف الجميع وإخضاعهم لمنطق السلام الإسرائيلي.
بغداد في ثياب العيد،
والعيد آت، هذه المرة، من طهران قاصداً القدس،
وفي بغداد، كما في دمشق، يعرفون أن أيام إيران العظيمة “عربية” بالهوى والهوية، بالسبب والنتيجة، بالتاريخ والجغرافيا وحقائق الحياة الخالدة.
فطهران “قاهرة” أخرى و”مصدق” كان البشارة بجمال عبد الناصر،
لكن هذا لا يعني، بأية حال، إننا وصلنا،
يعني إننا – أخيراً – عثرنا على نقطة بداية صحيحة،
يعني إننا وضعنا أقدامنا – أخيراً – على الطريق،
وما أحلى الوعد بالتعب بعد أن قتلتنا الأوامر بعدم الحركة، حتى لا نقول أوامر التحرك في الاتجاه الخطأ!
بغداد – تشرين الثاني – 1978

Exit mobile version