طلال سلمان

على الطريق حوار في الشارع الخاوي!

طريف هو “الحوار” الحاد والصاخب الجاري الآن في شوارع بيروت وسائر المدن اللبنانية بين “الشعب” ممثلاً بالاتحاد العمالي العام وبين الحكم ممثلاً بالحكومة والمجلس النيابي وسائر المؤسسات والأجهزة الأمنية (حتى لا ننسى لجنة الطوارئ الاقتصادية طيبة الذكر التي سحبت من التداول، في ما يبدو)..
إنه “حوار” غريب عجيب إذ يجري بين رأس بلا جسم وبين جسم بلا رأس..
فلا الاتحاد العمالي العام هو “الشعب” ولا هو يستطيع أن يكون أو أن يقود “الحركة الشعبية”،
ولا الحكومة أو المجلس أو سائر المؤسسات القائمة يمكن أن تشكل منفردة أو حتى مجتمعة صورة لحكم سوي، بمعنى الأهلية لتحمل المسؤولية عن البلاد والعباد.
الغائب الأكبر والذي يستحيل الحوار طالما استمر غيابه هو “الحركة السياسية” وليس علم الاقتصاد الذي يمكن استحضاره في أي وقت عبر “لجنة من الخبراء” لتعويض نقص الفهم في حكومة الثلاثين فهيماًز
فالبلاد تعاني من خواء سياسي قاتل، وفي هذا الخواء يسرح الدولار الشرير وتمرح المؤامرة الخبيثة وتتهاوى الليرة ذات الأمجاد ويفقد الحكم توازنه ويظل الشارع أرضاً سُوّدت بالأسفلت من دون أن تسفلت، تصفر فيها الريح أو تعول منذرة بالويل والثبور وعظائم الأمور.
العلة في البطالة السياسية التي تشل الاتحاد العمالي العام وتجعله يبدو رأساً بلا جسم، لأن مصدر الحيوية والفاعلية والقدرة على التأثير والتغيير تكمن خارجه: في الحركة الشعبية التي يفترض أنه قد انبثق ذات يوم منها، ليعبر عن بعض تطلعات بعض فئاتها.
وفي غياب الحركة الشعبية، وهي النهر بل البحر الذي تسبح فيه “أسماك” الاتحاد العمالي العام، تغدو هذه المؤسسة مجرد جهاز نقابي بائس يعاني وطأة آلام مبرحة ناتجة عن مرض خطير أصابه كما أصاب سائر المؤسسات والمنظمات الشعبية فأقعدها وعطبها وضمها إلى قائمة مشوهي الحرب وضحاياها الذي لا يقعون تحت حصر.
من يحاور من؟
وهل كل طرف مسلم بشرعية الطرف الآخر ومشروعية ما يطرحه؟!
ومن هو المرجع الصالح للبت في شرعية كل طرف؟!
هل تكفي الاستمرارية، بالتمديد أو بالتعيين أو بالانتخاب الشكلي والتزكية الاضطرارية منعأً للانقسام والاندثار، مصدراً لشرعية أية مؤسسة من طبيعة “شعبية”، يفترض فيها تجسيد إرادة الشعب، كله أو بعض فئاته أو حتى بعض قطاعاته المهنية؟!
وبعيداً عن اللغو الفقهي: هلى يرى “الشعب” نفسه في أي من هذه المؤسسات القائمة، إن على مستوى الحكم أو على مستوى العمل الشعبي (ومن ضمنه العمل النقابي).
لا أحد يجادل في وجاهة المطالب التي يحاول الاتحاد أن يرفع الصوت بها، ولو اتسمت بحدة الصراخ.. اليائس!
ولا أحد يمكن أن يكابر فينكر مسؤولية هذا الحكم، بهذه النسبة أو تلك، عن الأزمة الخطيرة التي تجاوزت شروط الكفاية إلى لقمة لاعيش ذاتها،
لكن الحوار غير سوي، ولا يمكن أن يصبح سوياً، وبالتالي فسيظل حوار طرشان ولن ينتهي إلى نتائج عملية محددة، لأن المسؤولية أرض مشاع لا بواب لها ولا وكيل وقف، لا من يحاسب على أدائها أو التقصير أو الامتناع أو الاعتكاف أو الاعتزال عن ممارستها.
الحكم مستقيل من مسؤولياته تماماً،
وأبرز دليل على استقالته إن كل طرف من أطرافه إنما يهتم بأن يرمي المسؤولية على غيره من الأطراف، وينفض طوقه معلناً “براءته” من المسؤولية.. ومع ذلك يستمر حاكماً!!
والحركة الشعبية قد هجرت ميادين العمل السياسي واعتكفت، فاستقالت الأحزاب أو استقيلت وانصرف المناضلون القدامى إلى الاهتمام بما يؤمن الحياة اللائقة ومستوى التعليم الجيد للذرية الصالحة، أو انتظموا في طابور “المستوعبينط وأصحاب الحق في غنائم الحرب، سواء أكانت تعييناً أم “انتخاباً” بالتفصيل والمقاس.
ومن أين العصب للاتحاد العمالي في غياب الأحزاب والنقابات الممتلئة عافية والمندفعة إلى مسرح العمل العام بزخم إرادة الذين انتخبوا ومن يعبر فعلياً، وفي هذه اللحظة، عن همومهم وتطلعاتهم المشروعة؟!
وهل تجوز محاسبة الاتحاد العمالي على تقصير القوى السياسية من أحزاب “تاريخية” وتنظيمات عريقة، أو غيابها؟!
وفي ظل هذا الغياب المفجع من يتبقى لمحاسبة الحكم بمؤسساته جميعاً، وصولاً إلى محاسبة الاتحاد نفسه، أو ترشيده حتى لا يشتط بالمزايدة السهلة أو بالمناقصة الرخيصة فيبتعد عن حيث يجب أن يكون؟!
الخواء السياسي هو المرض وانهيار الليرة وارتفاع سعر صرف الدولار هما بعض مظاهر هذا المرض،
ولا حل إلا بتجديد الدم في خلايا الحركة الشعبية وعودة مؤسساتها إلى الشارع، إلى العمل المنظم والمبرمج والحامل رؤيا، يجتمع الناس من حولها بالاختلاف أو الاتفاقن فتستعيد البلاد بعض عافيتها وبالتالي بعض دورهاز
أما مع استمرار غياب الشعب عن الشارع وعن مؤسسات الحكم في آن فلسوف يستمر الدولار في صعوده والمستوى المعيشي في هبوطه حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
ولن تنجح العمليات الجراحية في استنبات جسم صناعي للرأس العائم في الفراغ،
كذلك فهي لن تنجح – خصوصاً – في استيلاد رأس لهذا الجسم الأشوه الذي تتزايد علله بعد ثلاثين شهراً على ضربه في الطائف واستمرار ضربه في بيروت والأمكنة الاخرى البعيدة.
والتظاهرات والإضرابات والصرخات الممرورة لن تملأ خواء الشارع ولن تنجح في إقامة نصاب سياسي لبلاد تصفر فيها رياح البطالة والاستقالة من المسؤولية وتكمل مع البطن المبقورة للمدينة صورة المقبرة لهذه العاصمة التي كانت نوارة العرب وشارعهم الوطني العظيم.

Exit mobile version