في مطار روما التقينا، بالمصادفة، ووقفنا متقابلين يتأمل واحدنا الآخر كأنما ليتعرف على حجم التغير في ملامه، إلى مفاعيل الزمن الصعب في التماعة عينيه وفي ذلك الانطفاء في أفكاره.
لسبب ما كان الحذر أقوى من اللهفة، ولذا هيمن الصمت على رحلتنا القصيرة. لم يكن التعب وحده مصدر الخرس. كنا نبحث عن بدايات مختلفة، عن أسئلة لا نعرف أجوبتها سلفاً. ولم يكن الأوتوبيس الصغير يتسع للأسئلة المثقلة بالاتهامات المتبادلة.
كانا قادمين من “الأرض المحتلة”. حسب منظمي الندوة “الأصدقاء الطليان”… لكن فلسطين كانت تطل عبر العيون، عبر اللفتات، عبر الكلمات، وتخترق تعابير الاحتلال وإسرائيل والصهيونية والأنظمة العربية لتطل متوهجة كنجمة الصبح.
في الليل خلا الجو لتبادل الهموم والأسئلة المتفجرة. مشينا في البداية على حافة الجرح ثم رحنا نسبح في دمائنا ونحن نحاول تلمس صورة الغد.
-ما أخبارنا؟ إنها خلاصة الخلاصة لإخباركم. إننا نتسابق معكم على الانحراف، على التورط، والأرجح إننا سنسبقكم نحن المطلوبون. نعرف ذلك، ونعرف إنها الرشوة، وإننا – جميعاً، أنتم ونحن – سندفع الثمن، في النهاية – لكن لا خيار أمامنا غير قبولها.
-رابين؟! نعرفه أكثر مما تعرفونه. إنه جلادنا، محطم عظام أطفالنا. وهو أخطر من شامير. لكننا مجبرون على قبول عرضه التافه الذي لا بديل له في المدى المنظور.
– ما يحيرنا هذا القبول “العربي” بل الترحيب “العربي” بإسحق رابين. إن الجميع ينافق واشنطن بالمزايدة في الترحيب بهذا “الإسرائيلي الجميل” الذي حل محل “الإسرائيل يالبشع”، ولكنه إسرائيلي أولاً، وذكي ثانياً، وخطر ثالثاً، ثم إن أميركيته قد تنسف “مؤتمر السلام” أو مضمونه الذي يتوهمه العرب.
-لكننا بعض ثمار الهزيمة، وأضعف الحلقاتا. نحن مهزومون سلفاً. أمتنا مهزومة فمن أين لنا بالتسوية. إنه يعرض علينا ما هو دون الحكم الذاتي بكثير. لا يحلمن أحد بالحكم الذاتي كما نص عليه كمب ديفيد. إن السقف أوطى بكثير. لكننا لا نملك حق الرفض. لا نملك حتى حق النقاش. ولسوف نقبل ما قد يعتبره البعض حلاً منفرداً، وتخلياً عن إخواننا العرب وغدراً بهم.
-إن لأنور السادات في نظر بعضنا في الداخل صورة غير التي له لديكم. ثمة من يرى أنه “أنجز”، وثمة تيار ضاغط لأن نمشي في طريقه فنأخذ ما هو معروض علينا، مهما كان ناقصاً أو تافهاً، ومن ثم مواصلة العمل من الداخل للتعديل استناداً إلى حقائق الحياة واحتمالات الغد.
-لا يظنن أحد إننا أقل إيماناً من أي منكم في أن إسرائيل دولة إلى زوال، أو إن فلسطين عائدة إلينا حتماً. لكن ذلك رهان طويل، إنه رهان على التاريخ.
ولكن، ماذا عن اليوم؟ عن السنة المقبلة؟ عن الخمس أو الشعر سنوات المقبلة؟! هل نستوطن الحتمية التاريخية ونترك الإسرائيليين يرثوننا ونحن أحياء؟! المستوطنات تتوالد كالفطر فتلتهم مدننا وقرانا، أرزاقنا وأراضي جدودنا. الوقت. الوقت هو المأساة.
فصل أحدهما الحياة السياسية الإسرائيلية، الأحزاب وأنماط التحالفات المحتملة، ما يسمى يساراً وما هو يمين حقاً وما هو إلى يمين أقصى اليمين، ثم رمانا بالسؤال مدوياً: – ولكنهم جميعاً إسرائيليون، فهل جميعنا عرب؟!
قال الآخر: – تصور حالنا ونحن نسمع أخبار الجزائر. إن ما يقع هناك يزلزلنا. إن فجيعتنا أعمق من فجيعة الجزائريين أنفسهم. إن مصيبتهم تغتال بعض أحلامنا الباقيات.
-لا ننكر عليكم إننا بتنا مرضى. صرنا نبدو وكأننا نفرح لأية مصيبة تحل بالعرب الآخرين فتساويهم بنا. ليست شماتة، وليست تشفيا،ً وليست دائماً تبريراً لما تعتبرونه انحرافاً في سياستنا. إنه شعور انتحاري.
عند ذكر صدام حسين وقع التباين في موقف الرجلين. فهو بالنسبة لأولهما “بطل” حتى الساعة، وبرغم كل ما كان، والذين تخلوا عنه هم المسؤولون عن الهزيمة التي أصابت الأمة كلها، أما بالنسبة للثاني فهو سفاح غبي ومتورط ومشبوه، وهو المسؤول الأول والأخير عن الكارثة.
أما عند ذكر لبنان فقد اختلطت المشاعر: كان ثمة حنين إلى ماض لن يعود وكان ثمة شماتة ضمنية بالعجز عن الخروج من الأزمة، وكان ثمة فرح خفي بتواطؤ ضمني بين الشعبين الصغيرين اللذين يلعب بهما الكبار والأقوياء.
كادا يقولانها: – مصيركم مرتبط بمصيرنا. ما ترونه خيانة منا اليوم سترتكبونه غداً أو بعد غد، وستستخدمون أعذارنا وتبريراتها ذاتها.
وأما ياسر عرفات فتتداخل الألوان في صورته حتى لتختفي الملامح والتفاصيل. إنه خليط عجيب من الأب والزعيم والمبشر، الشاطر والماكر و”الملعون”، إنه خلاصة الأمراض العربية لكنه الضرورة. إنه البلاد بديل. إنه الخطأ المزين بالصواب، وهو الصواب المطرز بالخطأ الاضطراري. إنه “الفلسطيني” اليوم. إنه كاريكاتور الحلم. لكنه في الوقت ذاته مجسده الوحيد.
للهزيمة خطان: تذهب منا إليهم مثقلة بأخطائنا وارتكاباتنا وكراهيتنا والتخلي، وتعود منهم إلينا مثقلة بالتفريط والانحراف وراء الحلول السهلة لأن النصر مستحيلن بل لأن الصمود يكاد يصبح مستحيلاً.
لكن فلسطين نار لم تنطفئ بعد، وإسرائيل لم تصبح فلسطين، وبالمقابل – وبرغم العدوى وتقليد المضطهد – فإن الفلسطينيين حتى وهم أقل عروبة، كما يتهمهم البعض لم يصبحوا “إسرائيليين” ولن يصبحوا.