طلال سلمان

على الطريق حوار الصوت الواحد!

من الجزائر إلى اليمن مروراً بمصر وما جاور هذه وتلك والثالثة، ثمة “أمر عمليات” يلتزم به جميع السلاطين: ممنوع الحوار!
وأكثرية هؤلاء السلاطين يرون في مواطنيهم، بل في رعيتهم، مخلوقات بآذان فقط، بلا ألسنة وبلا عقول وبلا كفاءة تمكنهم من تكوين آرائهم الخاصة، وبالتالي فعليهم السمع وإطاعة أولي الأمر منهم.
من المحيط إلى الخليج: لا صوت يعلو على صوت السلطان. لا صوت أيضاً يواكبه أو يتداخل معه أو يرتفع إلى جانبه أو بموازاته إلا همهمات الإعجاب والتهليل والنشوة: “الله يا سيد الله، أعد يا روحي أعد، يا سلام يا مولانا يا سلام، الله يزيدك…”.
كل من هؤلاء السلاطين يحتكر لنفسه ميكروفون الإذاعة وشاشة التلفزيون ووكالة الأنباء والصحف (وكلها حكومية)، ويمن على رعيته بأنه يمتعها بحق الاستماع إليه والتبرك برؤيته والاطمئنان إلى صحته، قبل أن تذهب إلى النوم راضية مرضية.
في مصر جهر السلطان برفضه الحوار مع من يسميهم “المتطرفين” ويسميهم الغرب “الإسلاميين” أو “الأصوليين” وترك لقوات الأمن المركزي أن “تحاورهم” باللغة التي يفهمونها أي بالرصاص.
أما في الجزائر فقد تصرّف السلطان بطريقة أذكى: نده على “المحاور” المفترض، فلم يحضر، فأناب نفسه عنه، وهكذا انتخب السلطان نفسه رئيساً بالإجماع!! ومع أن الجميع يعرف أن المعارضة أما في “سجن المقهر” وأما في “منفى المهجر”، وأن الجيش أخلى الشارع تماماً إلا من المتسولين و”الحيطانيين” والكلاب الشاردة، فقد أصر السلطان على أن تتم العملية الانتخابية بديمقراطية مثالية. وهكذا “انتخب” الجيش رئيسه رئيساً وبالأكثرية الساحقة للصوت الواحد!
في اليمن، وحيث ثمة “سلطانان”، فتح كل سلطان حواراً ذاتياً مع نفسه انتهى بتطابق كامل في وجهات النظر، فلما جرت محاولة للوصل بين الحوارين الذاتيين كادت اليمن تتشطر سلطانات ومحميات ومشيخات لكل قبيلة منها نصيب، والأنصبة على “قدر أهل العزم”: للقبيلة الأميركية الصدارة، وبعدها القبيلة السعودية، ثم القبيلة العراقية، ثم تجيء حاشد وبكيل وقبيلة الحزب الاشتراكي، ومعظمها يعود بنسبه إلى قبيلة النفط المكرمة!
ولما كان لكل قبيلة جيشها وأسلحتها ومناطق نفوذها وموارد دخلها فقد بات “الحوار” هو المصدر الفعلي للخوف. وطالما ساد الصمت بل الخرس كان ذلك عامل اطمئنان ولو مؤقت.
إن السلطان لا يحاور إلا نفسه.
لا ند للسلطان ولاشبيه ولا مثيل. ولقد مات الشيخ بيار الجميل في لبنان وهو يتساءل عن المحاور فلا يجده، ولعله لم يكتشفه إلا بعد اغتيال نجله بشير الجميل وهو يهم بالتربع على سدة السلطة.
الحوار يكون بين ندين أو متكافئين، وبالتالي بين طرفين يعترف كل منهما بالآخر ويقر بأنه – ولو من باب المعارضة – شريكه في القرار، بالمعنى الوطني العام، وإن لم يكن شريكه في متعة السلطة ومباهجها.
وفي سالف العصر والزمان كان في الوطن العربي أحزاب وقوى سياسية وتنظيمات شعبية وهيئات نقابية واتحادات طلابية.
كان ثمة “شارع”،
وكان ثمة صحف (غير حكومية وغير محكومة بسلطة مطلقة لممول أوحد تتعذر مواجهته بالعملة الصعبة)، وكان ثمة منشورات تطبع سراً وتوزع علناً:
وكان بالتالي ثمة رأي عام، يعبر عن تفسه بالاحتجاج والاعتراض (أو التأييد)، فتنطلق التظاهرات لتحتل “الشارع” ومنه تسمع السلطان رأيها، وغالباً ما تفرضه عليه، فإن أخطأ فأنزل الجيش سقط هو عن عرشه (يحف به مجموعة من الشهداء الأبرار).
اليوم، تبدو الصورة مخيفة: لقد اندثر الجميع أو كادوا، واختفى الشعب وتمت مصادرة الشارع بالدبابات أو بالمخابرات التي تخاف الخواء كما تخاف العاصفة، فتزيد من وجودها في الشارع الخالي حتى لا يملأه الشعب أو الفراغ!
بقي السلاطين وحدهم في الواجهة، وكل يقف أمام مرآة يحاور نفسه فيتفق معها غالباً وقد يختلف معها أحياناً فيكسر المرآة ويطرد الحكومة ويأمر ببناء سجون إضافية لكي تتسع للشعب الذي لا يستاهل نعمة أن يحكمه هذا المستخلف في الأرض!
الطريف أن هؤلاء السلاطين اندفعوا إلى “محاورة” العدو بحماسة ملفتة، فأظهروا منتهى الأدب والكياسة وأبدعوا في فنون الحديث الأنيس في مخاطبة الدولة – الرئيس: لم يرفضوا شروطاً من شروطه، ولم يعترضوا على قرار من قراراته، ولم يناقشوا مجرد نقاش مختلف احتياجاته، سواء منها النفطية أو الاقتصادية أو نقص المياه لديه أو شح الغاز في الأراضي التي يحتلها (والتي كانت لهم).
بل لقد اعتبروها “ساعة رضا” ، و”علامة حظ” واستجابة لدعوات الوالدات الطاهرات في ليلة القدر أن قد من عليهم العدو فرضي بالجلوس إليهم وتلطف فحادثهم ولو بلهجة الأمر، وهو مطاع في كل حين!
وهذا ليس حواراً بأي حال، تماماً كما أن “مونولوغهم” اليومي الموجه للرعية ليس حواراً ولا يستهل الوصول إلى أي حل لمعضلة الحكم في هذه المنطقة.
الطريف أن جميعهم يقبل من العدو عذره بأن لديه رأياً عاماً لا بد أن يؤخذ في الحسبان، فيأخذونه هم أيضاً في حسبانهم، ثم يسهون عن “الرأي العام” في أقطارهم انطلاقاً من أن السلطان هو جميعنا، وإن الكل في واحد.
لكأننا أمة خرساء، أو هكذا يراد تصويرنا!
هذا في حين يضج العالم بالقلق الصاخب وتتلاطم الأفكار وهي تبحث عن يقين بعد انهيار النظام العالمي القديم ومسلماته المقدسة.
تريد حواراً؟!
أجلس إلى الشاشة الصغيرة فاستمع إلى نشرات الأخبار المعدة للصم والبكم والتي تعتمد على حركات الشفاه واليدين بديلاً من الكلام الذي قد يكون خطراً جداً!
ملاحظة: حاذر أن تعبر عن رأيك بالإشارة، فغالبية الشاشات الصغيرة مزودة أيضاً بجهاز تسجيل وعدسة تصوير، لكي يطمئن السلطان إلى أنك سمعت فوعيت فاقتنعت فنمت وارحته وارتحت.
ملاحظة أخرى: إياك والشارع، فالشارع لأهل البدع، وكل بدعة ضلالة، وكل طلالة في النار.
ملاحظة أخيرة: ليست هذه محاولة لتحريضك على طلب الحوار، بل ربما فرضه، ولا هي عملية استدراج لك إلى محاورتنا، فنحن مثلك ومثل السلطان لا نحاور إلا أنفسنا، وهذه كلمات مهربة من حوار ذاتي، فمن وجدها فليتلفها فوراً، ونحن غير مسؤولين عن سوء الاستخدام!

Exit mobile version