طلال سلمان

على الطريق حوار الجدران

الكواليس معتمة والهس فيها هو السيد، لكن الجدران ناطقة، كما البشر وأفصح، وصمتها مدو تماماً كثرثرتها الملونة.
والحوار السياسي المعطل في دست الحكم، كما بينه وبين مختلف الأطراف، يكاد يختزله ويعبر عنه هذا “الحوار” الأخرس بين الجدارين اللبنانيين الناطقين!
ويمكنك أن ترسم الحدود النفسية للانقسام السياسي (والاجتماعي والثقافي؟!) بين اللبنانيين باستقراء الجدران واستنطاق الصور ومهرجاناتها المزركشة المنداحة فوق مساحاتها المسطحة، بالثقوب والفجوات والتصدعات فيها والتي تقدم “شهادتها” عن تاريخ هذا الانقسام وضريبته الدموية الباهظة.
مئة خطوة، ربما أقل، وتنتقل من عالم صاخب تدوي فيه الصفارات الزاعقة بأسماء الأقطاب – زعماء الحكم واللوائح والشارع – إلى عالم أخرس برغم الزحام فيه، وبرغم أنه يتحرق رغبة لممارسة لعبته التقليدية المفضلة: الانتخابات.
مئة خطوة، وتنتقل من مناخ القطب المتجمد الشمالي إلى خط الاستواء تودعك “مادونا” ويستقبلك وهاج الشيخ موسى،
و”المعابر” قديمة صارت “حواجز” تمنع نهر الانتخابات من أن تنساب مياهه في المجرى الطبيعي. والمرشحون الكثر، عبر صورهم الملونة المتقنة الطبع، المتعددة الألوان، والتي استعدوا لها طويلاً، وأحدثوا تعديلات في قيافتهم وتسريحاتهم وألوان بذلاتهم، واشتروا لها ربطات عنق خاصة، ودفعوا غالياً لبيوت الخبرة ثمن الشعارات التي “تبيعهم” للمستلك… وهو هنا الناخب،
كل هؤلاء يتابعونك بعيونهم الجامدة وابتساماتهم البلهاء وأنت تقطع من ضفة إلى أخرى، متوسلين إليك أن تأخذهم معك، أن تسوقهم “هناك”، أن تحاول وتلح في المحاولة لعل الرافض يقبل فيتقدم من الصندوقة السحرية ليرميهم فيها.
جدار بلا صور، وجدار بصور كثيرة، والمسافة أبعد من أن تقطعها بلا تعب وبلا أسئلة مقلقة عما بعد، وعما يتعدى الانتخابات، كائنة ما كانت نتائجها المعروفة.
لا الرفض منطقي، خصوصاً وإن أسبابه الفعلية لا تصلح للتسويق الجماهيري، ولا الموافقة على المبدأ تستولد من الحماسة ما تحتاجه “المعركة”… ربما لهذا تستعاد مفردات الخطاب السياسي للحرب الأهلية، بطبعتيه المتكاملتين، فإذا الأمر يتجاوز الانتخاب والديموقراطية وحقوق الإنسان إلى الموقف من الكيان والهوية والانتماء، ومن ثم إلى مواقع الطوائف وامتيازات الممتاز منها، بوصفها “محميات” أجنبية حتى لو قام على حراستها بعض شيوخ العرب العاربة!
الرافض متجاوز برفضه الانتخابات إلى من دعا إليها وينظمها ويتولى الإشراف عليها، بل وحتى إلى الأساس القانوني لهذا القائم بالأمر كله، قبل الانتخابات وبعدها.
والقابل سابق بقبوله المواعيد واللوائح وإخراج القيد المزور والقانون الأعرج والإشكالات التي رافقت إقراره في المجلس الحاضر – الغائب الذي لم يتعلم من الكلام غير كلمة “صدق”!
فالرافض وجد في الانتخابات موعده المرتجى مع إعلان انفصاله عن السياق الذي اتخذته الأحداث تحت عنوان تطبيق اتفاق الطائف، وهو ما لم يكن قادراً على إعلانه من قبل لأن الموجة كانت عالية، وما كان صوته ليسمع لو أنه اعترض وإلا بدا وكأنه “متمرد” ويستحق ما لحق بقيادة “التمرد”.
أما القابل فكان يرى نفسه في خانة الرابحين، وبالتالي فهو يعطي، إن أعطى من “فائض القيمة” أو من الربح الذي لم يكن يتوقعه.
ولأن “المتمرد” الذي أسقط تمرده كان “مارونياً” حاول تنصيب نفسه قائداً وطنياً ففشل فشلاً ذريعاً، بات منطقياً أن يكون الرافض اليوم هو ذلك الذي كان قد راهن على “قائد التمرد” ووالاه ونصره وأعلن استعداده لأن يفتديه “بالروح والدم”، ثم انفض عنه مرغماً، وتجرع غصات الحسرة والخيبة والانسحاق وهو يراه يخرج مهزوماً في ظلمة الليل وبحراسة قبارجة فرنسية وفي ظل صفقة مريبة طغى عليها الجانب الفضائحي المتصل بالذمة المالية.
كان مستحيلاً إعادة جمع الزجاج المكسور، وكان صعباً التبرؤ من القائد المهزوم، وكانت الجراح التي خلفتها حروبه أعمق من أن تشفى بسرعة، كذلك كان الانقسام داخل الصف الواحد أخطر من أن يغطيه جلباب رجل دين حتى لو كان بمستوى البطريرك الماروني.. خصوصاً وإن هذا المقام العالي قد طاولته “الحرب المسيحية – المسيحية” فآذته بأكثر مما آذت غيره من القوى والمراجع والمؤسسات.
وفي ظل هذه الظروف كان متعذراً إبرام الصفقة التي تمت في الطائف، خصوصاً بعد التطورات الخطيرة التي استجدت والتي أعادت صياغتها بحيث تكرست هزيمة المتمرد ومشروعه السياسي والجمهور الذي دغدغته شعاراته البراقة فكادت تخرجه من صوابه والأهم: من حقائق الحياة السياسية في بلد هش التوازنات كلبنان، وفي منطقة ترجها الزلازل كهذه المنطقة العربية.
الآن، ينزل هذا الرافض – وقد تخفف إلى حد كبير من آثار هزيمته – إلى الشارع مطالباً بتعديل شروط الصفقة، خصوصاً وإن التطورات ذاتها تمنحه حق النقض، أو الأقلية المعطلة، وقد كانت سحبت منه حق الأكثرية المقررة وصلاحياتها “الممتازة”.
الجدار “الشرقي” صامت بينما شارعه مهتاج، متحفز، وقد استعاد بعض حيويته بعدما استخدمت لاستثارته شائعات مغرضة تحك على جرحه “الانفصالي” ومنها حكاية أن المجلس الجديد ستكون مهمته إعلان الوحدة مع سوريا!.
والجدار “الغربي” صاخب الضجيج بالشعارات والصور (وكلها ملون)، بينما شارعه ساكن، يقبل على اللعبة بكثير من الفضول وقليل من الحماسة. فلقد انقطع عن هذا السيرك المتجول منذ عشرين سنة، بل إن الجيل الجديد لم يعرفه، وتدفعه حشريته لأن يتساهل في شروط المستوى ونظافة المكان والمقاعد واللاعبين!.
وبين “الجدارين” حوار أخرس: كل يحسد الآخر على وضعه،
وبين “الشارعين” حوار طرشان: أحدهما ممتلئ بأصوات جورج وسوف وملحم بركات ومادونا، ودوي قرع الأجراس حزناً على الانتخابات والناخبين، والثاني ممتلئ بهيصة المواكب الانتخابية الحاشدة، وخطب المرشحين الطنانة، وتصريحات الحكام التي يختلط فيها الوعد بالوعيد.
وما لم ينتظم الحوار ويتخذ سياقه الطبيعي، يظل المخرج بعيداً، ويظل “الحل” كامناً في ما يصدر عن العواصم البعيدة، في تقدير البعض.
نفكر بالآخرين جميعاً وننسى أنفسنا.
لا الرافض معترف بالقابل، ولا القابل عابئ أو مهتم حقيقة بموقف الرافض، وكلاهما يستغرب “موقف” الآخر ويتهمه بالتخلي،
وإلى أن يتلاقى “المتخليان” ستمر مياه كثيرة، وعكرة، بين الجدارين!

Exit mobile version