طلال سلمان

على الطريق حوارات في واشنطن (4) عن العرب الأميركيين جداً وتحالف الكيانيين اللبنانيين والفلسطينيين

قال لي صديق جمعتني به فرصة حضور المؤتمر السنوي لمنظمة الخريجين العرب الأميركيين (A.E.G) في واشنطن: “أتراه تجنيا أن نقول إن أسوأ الأميركيين، سياسياً، هم العرب الأميركيون!؟”،
كنا قد شاركنا، ولساعات طويلة، في مناقشات صاخبة مع العديد من أعضاء هذه المنظمة التي يحتل فيها الفلسطينيون موقعاً مميزاً. ولقد تركزت المناقشات حول الأوضاع العربية المترية، وحول العلاقات العربية – الأميركية، مع وقفات مطولة أمام ما يجري حول لبنان وفيه وما يجري في منظمة التحرير ولها… وكان طبيعياً والمناقشون من العرب أن تتواتر الاتهامات بالانحراف والخيانة، وأن ترتفع الأصوات بأناشيد الحماسة للقرار الفلسطيني المستقل وسط التساؤل عن من يكون الاستقلال ومتى وكيف واين الخ…
وفي الكواليثس كنا قد التقنيا جماعات من الطلبة اللبنانيين يسعون لإقامة “كونغرس لبناني” مواز للكونغرس الفلسطيني تكون مهمته الرد على ما تطرحه المنظمات اللبنانية الأخرى التي يطغى عليها لون طائفي معين يجعلها كتائبية الميل والتوجه وبالطبع أحادية التفكير.
وطالت اللقاءات وتعددت، وكان لا بد أن تطول وتتعدد لتشمل عشرات من هؤلاء الرجال المتبايني المشارب والاتجاهات، والذين تتشكل أكثريتهم من أساتذة وطلبة جامعيين، بينهم الأميركي المتحدر من أصل عربي، والعربي الذي وفد دارساً أو باحثاً عن الرزق ثم استقر في الولايات المتحدة واكتسب جنسيتها وإلى حد كبير منطقها ورؤيتها السياسية ومنهم أيضاً من لا يزال يحمل جنسيته الأصلية، وكل يعكس في فكره ومنطقه – بهذا القدر أو ذاك – ملامح المرحلة التي اغترب فيها… إذ يبدو وكأن زمن الوطن يتجمد عند المغترب عند لحظة اغترابه، فيفترض إن الأمور فيه ثابتة وجامدة بينما هو مشدوه بسرعة التبدل التغيير في محيطه الجديد وفي العالم من حوله.
عبر تلك اللقاءات والمناقشات جميعاً تجمعت بعض الملاحظات التي قد تكون مفيدة لأهل الداخل خصوصاً وإنها تتناول المواضيع والمسائل ذاتها التي يهدر فيها اللبنانيون والفلسطينيون وسائر العرب الكثير من الحبر والوقت والجهد والأعصاب المتعبة…
هنا أبرز تلك الملاحظات بغير ترتيب خاص:
*الملاحظة الأولى إن العرب في الخارج وفي الولايات المتحدة بالذات “يفتقدون” الإطار الجامع. يفتقدون الوحدة بمختلف معانيها وحدة الهدف، وحدة العمل، وحتى وحدة الصف، لقد رحلت القيادة القومية التاريخية التي كانت تشكل المرجع في القاهرة، وتبعثرت قيادات الأحزاب والتيارات القومية نتيجة لخلاف الأنظمة الحاكمة باسمها، وبعثرت معها – في الخارج كما في الداخل – كل أطر العمل القومي، بما في ذلك منظمات الطلبة. وكلنا يذكر إن منظمة الطلبة العرب كانت ذات يوم مؤسسة نشطة ومؤثرة ومرشحة لأن تكون جسر عودة لطلبتنا الدارسين في الولايات المتحدة وكندا، واستطراداً في أوروبا الغربيةز لكن ذلك كله صار الآن من ذكريات الماضي، وما تبقى من المؤسسات العربية يحمل في كيانه الكثير من معالم الضعف والقصور، اما لاتصاله ببعض الأنظمة التي تحاول بالذهب شرشاء مواقفه المعلنة أو صمته عن قول الحق، وأما لعجزه المادي عن القيام بالحركة الواسعة والمكلفة المطلوبة، وهو عجز يتضمن موقفاً من الأنظمة إذ يرفض أصحابه الاتصال بالأنظمة أو المنظمات حتى لا يدخل في تجربة البيع والشراء وما قد ينتج عنها، وهو مدمر بشهادة تجارب السابقين.
*الملاحظة الثانية وهي متصلة بالأولى ومنبثقة عنها: لقد خسر العرب الفلسطينيين أو معظمهم كعنصر موحد لسائر أخوانهم في المشرق والمغرب. كان الفلسطينيون هم القضية، هم روح العمل القومي وقاعدته إذ لا وجود لهم من دونه، فلما أوهموا أو توهموا إن منظمة التحرير تغنيهم عن كل ما عداها تعطل دورهم التوحيدي وخسروا وخسر معهم سائر العرب خسارة فادحة.
وبالتأكيد فإن العرب الآخرين مسؤولون، من السادات إلى كل من سكت على نهجه المنحرف وخيانته، ومعهم كل أولئك الذين قاتلوا في الزمان الخطأ والمكان الخطأ وضد من لا يجوز قتاله.
لكن يظل أن تعطل الدور القومي للفلسطيني واندفاعه في طريق الكيانية والشوفينية التي كادت تبلغ العنصرية قد شجع سائر العرب على أن يتقوقع كل منهم داخل صدفة إقليميته مكتفياً من الدنيا بـ “قائده الملهم” طمعاً أو رهبة أو افتقاداً لأي إطار يمنحه القدر الكافي من الحصانة المعنوية.
*يتصل بالملاحظتين السابقتين إن الحرب الأهلية في لبنان قد سجلت مزيداً من الحروب بين العرب أنفسهم، إذ استعر العداء بين الفلسطيني واللبناني ثم بين الفلسطيني والسوري ثم بين السوري واللبناني. كل ذلك ومصر تسحبها خيانة السادات بعيداً عن موقعها الطبيعي فينفصل المشرق عن المغرب انفصالاً عملياً لم يسبق لهما أن عاشاه بهذه الحدة ولا عاشت الأقطار العربية بمجملها ما تعيشه من أجواء اقتتال تجعل الحدود حدوداً من الدم والأحقاد والكراهية.
من هنا كان منطقياً أن تشهد جامعة جورج تاون مثل تلك الواقعة المؤلمة التي يتندر بها طلبتها هذه الأيام.
فلقد لاحظت إحدى المدرسات تزايد طلبتها العرب وحين أبدت ابتهاجاً بهذه الحقيقة فوجئت بطالب يقف محتجاً: – أنا لست عربياً أنا لبناني.
ثم فوجئت بطالب آخر يرفع صوته بالاحتجاج : – وأنا مصري.
وقالت المدرسة ذاهلة: – اعرف إن بينكم اللبناني والسوري والفلسطيني والمصري والسعودي والكويتي، الخ، ولكن ماذا اسميكم مجتمعين؟!
وقال اللبناني: – لكل منا هويته كما للفرنسي والألماني والسويدي.
وردت المدرسة: – لكن أولئك جميعاً لا يغضبون إذا ما دعوتهم بالأوروبيين.
فعقب المصري قائلاً: حسناً يمكنك أن تقولي عنا “الشرق أوسطيين”.
ووسط دهشة المدرسة اندفع طالب خليجي يقول بملء صوته: – إلا لعنة الله ولو بعد الموت على أنور السادات.
*الملاحظة الرابعة إنه ضخمن هذا المناخ غير اصحي نمت وترعرعت ظاهرتان مرضيتان متعارضتان في الشكل متكاملتان في المضمون وهما الكيانية اللبنانية والكيانية الفلسطينية.
وإذا كانت الكيانية اللبنانية مسممة حكماً بالجو الطائفي، فإن الكيانية الفلسطينية قد سممتها العنصرية. ويوماً بعد يوم وفي ظل الشحن المستمر لكراهية الآخرين من دون تمييز بين الأقطار وحكامها، كانت الكيانيتان اللبنانية والفلسطينية تتلاقيان على قاعدة العداء المشترك لـ “العرب”.
وإذا كان ضرورياً القول بأن ليس كل لبناني أو فلسطيني في الولايات المتحدة هو بالضرورة كياني ومعاد للعرب، فإن الأمانة تقتضينا أن نشير إلى أن لكل من هاتين الكيانيتين جماهيرها الآن، ومنطقها الذي نعرف أصله ونعرف أصحابه في بيروت كما في سائر العواصم العربية.
*الملاحظة الخامسة إن هذا المناخ غير الصحي قد سمح ببروز مجموعة من “الدكاترة” الفلسطينيين الذين يعيشون في الولايات المتحدة منذ سنوات طويلة يعملون في جامعاتها ويتعلمون من سياستها ويتصلون بمراكز صنع القرار ويتشبعون بالمفاهيم السائدة فيها وبقيم مجتمعها المصنوعة باتقان عبر وسائل الضغط والتأثير وأبرزها وسائل الأعلام الهائلة القوة والنفوذ، وإن كانت محكومة جميعاً بمصالح الأغنى من أصحاب المصالح.
وهكذا فقد انطلق هؤلاء “الدكاترة” يبشرون بإمكان التأثير على السياسة الأميركية واستدراجها بحيث تصل إلى الاعتراف بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني!
كان منطقهم المضلل بسيطاً: – لا بد أولاً أن تعتدل قيادة منظمة التحرير وتمتنع عن الهجوم المباشر بمناسبة وبغير مناسبة على الإدارة الأميركية وعن تسمية المسؤولين تحديداً طالما إن واشنطن تملك أوراق الحل جميعاً.
ثم توالت الطلبات: – “لا بأس من إقامة علاقات مع السوفيات والمعسكر الاشتراكي، كشر لا بد منه، ولكن لا بد من تجنب أن تأخذ هذه العلاقة بعداً استراتيجياً فنتهم بالشيوعية أو بالتحالف معها ونخسر من ثم أية فرصة للتأثير على الأميركيين. إن مشكلتنا مع الإسرائيليين ومفتاح تل أبيب في البيت الأبيض وليس في الكرملين، وطالما إننا نريد حلاً فلا بد من الوصول إلى البيت الأبيض، لا يهم كيف ولا يهم بواسطة من ولا يهم بأي ثمن فإذا ما وصلنا فقد اقتربنا من التسوية أي من الغاية التي تنسي الناس الأسلوب… أما إذا ما تشنجنا أو تطرفنا أو أخطأنا التصرف فقد تضيع الفرصة وتنتهي هذه الثورة المجيدة بغير نتائج وتذهب دماء الشهداء هدراً…”.
ويوماً بعد يوم كانت المطالب تأخذ أبعاداً أكثر خطورة، ضمن منطق مؤداه:
“لا نستطيع أن نتحدث مع قيادة أقوى دولة في العالم وصورتنا في عينها هي صورة الإرهابين حسناً لقد أدى الكفاح المسلح غرضه بأن اعترف الناس بنا فلنوقفه الآن ملتفتين إلى العمل السياسي إنه هو الذي يوصلنا إلى أرضنا. لنعتمد الديبلوماسية لنفتح قنوات الحوار والاتصال ولتكن في البداية سرية وغير مباشرة. يجب أن نساعد أصدقاءنا المقتنعين بعدالة قضيتنا في واشنطن ونحميهم. يجب أن لا نكشفهم فيسقطهم الصهاينة، ويجب أن لا نحرجهم بتطرفنا وشعاراتنا غير المعقولة.
“ويجب أن نبتعد عن العرب غير المقبولين هنا كالليبيين والسوريين والشيوعيين في عدن وأن نقترب من أصدقاء واشنطن في عالمنا العربي والسعودية أساساً. إن العلاقة مع الأولين شبهة، أما العلاقة مع الآخرين فمطمئنة للأميركيين إذ تقنعهم بأننا لم نعد متطرفين ولم نعد نعتمد العمل الإرهابي”.
ومع قبول قيادة المنظمة بهذا المنطق وتسليمها به فقد اندفع به أصحابه إلى مداه الأقصى:
” – حسناً لقد آن أوان الحديث مع المعتدلين من الإسرائيليين . إن هذه حجة لا تدحض عن اعتدالنا إضافة إلى تأثيراتها المزلزلة في المجتمع الإسرائيلي…
“- حسناً لماذا نتشنج في رفض القرارات الدولية بما في ذلك القرار 242 في حين يقبله العرب. لماذا نترك العرب يبيعوننا، إن كان لا بد من صفقة فلنعقدها نحن ومباشرة ولنتقاض ثمنها بيدنا بدلاً من أن يأخذه الآخرون.
“- حسناً فلنناور فلا نرفض مبادرة ريغان مباشرة. لقد مد يده إلينا ضمن ما يقدر عليه، فلماذا نرد بصفعه؟! لنذكرإن فيها إيجابيات ولنقل إن فيها أيضاً ما لا نقبله ولكن فلنبتعد عن رفضها القاطع والفوري. لنترك الباب موارباً لماذا يتكتك ويحرم علينا نحن أصحاب القضية إن نتكتك؟!”.
وفي ظل قبول قيادة المنظمة بهذا المنطق بكل تداعياته فقد صارت للمنطق مؤسسة بل مؤسسات في الولايات المتحدة الأميركية، ثم تكتيل مجموعات من الدكاترة ورجال الأعمال الفلسطينيين في ما يمكن أن يسمى الكونغرس الفلسطيني، وصرفت الأموال بغير حساب لإقامة “لوبي فلسطيني” يتولى الاتصال والتأثير على مراكز القرار في الولايات المتحدة بدءاً بالجامعات والتروستات الاحتكارية وصولاً إلى بعض من في مجلس الشيوخ والكونغرس ووزارة الخارجية من “الأرابيست” ، وكذا بالنتاغون وانتهاء ببعض من يمكن الحديث معه في البيت الأبيض أصدقاء الرئيس وناخبيه الكبار.
ولقد تباهوا خلال صيف العام الماضي وبينما بيروت تقصف ليل نهار والمقاومة فيها بأنهم إنما لعبوا دوراً في إسقاط ألكسندر هيغ والاتيان بجورج شولتس وهو الموظف في شركة يملك العرب القليل من أسهمها والكثير من أعمالها، وزيراً للخارجية.
ولكنهم بالقطع لا يستطيعون الآن أن يتمادوا في التباهي بهذا “النصر” لأن شولتس أثبت أنه لا يقل “صهيونية” عن الجنرال هيغ، بل لعله يزيد عنه بشهادة اتفاق 17 ايار المشؤوم، والنهج السياسي الأميركي الراهن المعادي لفلسطين كما للبنان كما لكل ما هو عربي.
على إن العجيب إنهم لم يتراجعوا عن منطقهم وما زالوا مستمرين فيه وعليه برغم كل ما كان وما زالوا يؤكدون إنها الطريق الوحيدة إلى قيام الدولة الفلسطينية إن لم يكن على أرض فلسطين كلها فعلى بعضها والقليل أفضل من العدم!
بالطبع تظل المسؤولية، في النهاية مسؤولية من استمع إلى هذا المنطق وقبله. وبالتأكيد ليس أولئك الدكاترة والمتمولون الفلسطينيون الأميركيون بالتحدر او المتأمركون ، المستشرقون لشدة غربيتهم، هم من أجبر ياسر عرفات على اعتماد السياسة التي اعتمد قبل الاجتياح الإسرائيلي وخلاله وبعده… ولكنهم بالقطع باعوه أوهاماً لا حصر لها، وكانوا يأخذون منه بالمقابل – ومع الأسف – مواقف تضعف روح المقاومة وإرادة القتال وتعجل في النهاية المحتومة لهذا النهج الخاطئز
ولقد بلغت القحة ببعض هؤلاء أن يقترحوا على عرفات خلع المسدس توكيداً لاعتداله ورغبته في الحوار وإيمانه بالديبلوماسية.
ومن أسف أنه لم يطرد من أبلغه بهذا المطلب بل رد عليه بابتسامة وإشارة نصر.
بالتوازي مع نمو هذا التيار الكياني الفلسطيني الذي كان لا بد له أن ينحرف خصوصاً وإنه كان يرى في كل هزيمة عربية نصراً له، كان ينمو تيار كياني لبناني هو هو الذي زين ويزين للحكم اللبناني إن القدر هو ما تريد واشنطن، وإن لا فائدة من التوجه إلى غيرها، ولا فائدة طبعاً من الاعتماد على الذات وعلى المحيط وعلى ما تبقى من دول العالم، شرقيها والغربي، صغيرها والكبير.
وليس بالمصادفة، من ثمن إن هذين التيارين الكيانيين يتعايشضان بل ويكادان يتكاملان وتنشأ الجسور يومياً بين واحدهما والآخر، ثم بين كليهما والتيار الكياني المصري الساداتي المتصهين، وهو غير التيار المصري الطبيعي الذي لم ينفصل لحظة عن التيار القومي أو ما تبقى منه.
وبالقطع فثمة تيارات واتجاهات كيانية في أوساط سائر العرب الأميركيين، لكن تلك التيارات جميعاً ما كانت لتجرؤ على إظهار ذاتها لولا إن تيسرت لها الحماية بالسابقين، خصوصاً من له “حصانة” الفلسطيني و”خصوصية” اللبناني و”ثقل” المصري.
والأخطر إن هذه التيارات لا تكون أميركية فحسب بل هي تمد اليد والذراع في اتجاه الإسرائيليين.
والعلاج على أي حال، في الوطن ذاته وليثس في واشنطن أو أية عاصمة بعيدة.
فكما نكون هنا يكونون هناك والخطأ هنا يغرقهم في الخطيبة هناك والعكس ليس صحيحاً.

Exit mobile version