طلال سلمان

على الطريق حوارات في واشنطن (3) تاريخ العلاقة مع الكتائب

ليس لبنان واحداً في العين الأميركية
لكن للولايات المتحدة سياسة واحدة في المنطقة
وإن تعددت ضمن هذه السياسة الخطوط، لضرورات تكتيكية، وبهدف استيعاب مختلف التيارات والاتجاهات والأهواء المتناثرة.
ويحكم السياسة الأميركية في لبنان كما في المنطقة والعالم بأسره هاجس واحد هو : الوجود أو النفوذ السوفياتي، ومن هنا تنشط حركتها وتحتدم مساعيها حيث يتواجد السوفيات أو حيث ينفتح أمامهم المجال للعمل بقدر من الحرية.
وهكذا فإن من اقترب من السوفيات وفتح الباب لعلاقة جدية معهم، صنف في واشنطن على الفور في خانة “المعادي” و”الخطر” و”الهدام”. ومن ابتعد عنهم فهو “الصديق” فإذا ما عاداتهم فهو “الحليف”… تستوي في ذلك الدول أو القوى أو الأحزاب السياسية حتى الأفراد.
أما التوصيف الأميركي المعاصر للوطني أو القومي المتمسك بقضايا نضاله فهو “الإرهابي” فإذا ما اكتسبت حركته مدى وافقاً واسعاً أضيفت إلى صورة الإرهابي صفة الدولي. ليمكن تسعير العداء ضده بنسبته إلى العدو الدائم على المستوى الكوني: الاتحاد السوفياتي.
وحتى في لبنان الصغير بمساحته وعدد سكانه يقسم الأميركيون الناس على القاعدة ذاتها: من مع السوفيات فهو عدونا ومن ضدهم فهو الصديق الصدوق، ولا مجال للجياد فمن ليس معنا فهو علينا، على الأقل حتى يثبت العكس.
وفي نظر الأميركيين فإن انقاسامات الناس في لبنان محيرة إذ أنها ليست نهائية ومحددة. ويقول أحد الدبلوماسيين الأميركيين ممن عملوا طويلاً في بيروت إنه اكتشف إن في لبنان منطقة حرة سياسياً تقبع فيها بعض القوى بانتظار عروض التحالف أو المساندة وفقاً للمصلحة الآتية وبغض النظر عن الموقف الايديولوجي المعلن. فإذا بعض المحسوبين على اليسار لا يتحفظون في العلاقة مع واشنطن وإذا بعض أقطاب اليمين وبعض أمراء الطوائف يمدون يد الصداقة على موسكو الشيوعية والملحدة بغير عقد أو تحفظ.
ويضيف “إنه كان يضطر إلى الإكثار من الهوامش في تقاريره للاستدراك وتصحيح ما كان قد تسرع في اعتماده كتصنيف للقوى واتجاهاتها.
المهم إن لبنان ليس واحداً في العين الأميركية.
ويقول الأميركيون في مجال تبرير هذه النظرة: إن اللبنانيين على اختلاف فئاتهم هم المسؤولون عن سقوط صورة لبنان الواحد وعن طغيان الحديث عن الأقليات الطائفية والمذهبية وعن الاختلافات بين الفئات والجهات بحيث صار لبنان المستقل ذكرى من الماضي أكثر منه هدفاً نضالياً للحاضر والمستقبل.
ويعترف الأميركيون إن الكتائبيين كانوا أول من أغراهم باعتماد النظرة التقسيمية وقبول المنطق الطائفي في الحديث عن لبنان.. ويزيدون : إن الإسرائيليين لم يدخروا جهداً لإظهار الانقسام وكأنه حقيقة ثابتة ودائمة وحاولوا أن يبرزوها على الأرض عبر الدعم المستمر لأصدقائهم الكتائبيين وإجمالاً لكل من ماشاهم من الفئات والقوى سواء بالقناعة أم نتيجة لتضرر مصالحها بسبب وجود المقاومة الفلسطينية.
ويقول المتابعون في واشنطن إن صورة الكتائب قد تبدلت غير مرة في السنوات الأخيرة في العين الأميركية. ففي البداية كانت الإدارة الأميركية تنظر إلى الكتائب كطرف متشنج طائفي وشبه فاشستي وانتهازي في علاقاته السيايسة ومن ثم فهو طرف لا يطمئن لا إلى فاعلية ولا إلى ثبات مواقفه. ويستشهد الأميركيون هنا بموقف الموفد الأميركي دين براون الذي يصفه الكتائبيون عدواً ويعتبرون إنهم حققوا نصراً ساحقاً عليه حين رفضوا عرضه تزويدهم بسفن لكي يرحلوا عليها إلى حيث يشاؤون وربحوا بعد ذلك الحكم في لبنان وصداقة واشنطن في آن.
على إن الأميركيين لا يتوقفون طويلاً أمام هذا التبجج الكتائبي ويقولون إنهم ظلوا يرفضون محاولات التقرب الكتائبية طوال سنوات 75 و76 وحتى خريف 77 وإن كانوا سمحوا لأجهزتهم بأن تفتح خطأ مع هؤلاء المتعصبين لعله يلزم في المستقبل.
بعد زيارة السادات المشؤومة للقدس المحتلة 19 تشرين الثاني 1977 تبدلت أمور كثيرة في المنطقة وفي لبنان.
وبعد الزيارة السادات المشؤومة للقدس المحتلة 19 تشرين الثاني 1977 تبدلت أمور كثيرة في المنطقة وفي لبنان.
وبعد الزيارة – الخيانة – كانت هناك محادثات الصلح المنفرد واتفاقات كامب ديفيد.
وفي الفترة ذاتها تقريباً تفجرت إيران بالثورة الإسلامية منذرة بتغيير جذري في موازين القوى وفي خريطة منطقة الشرق الأوسط والعالم الإسلامي عموماً.
نتيجة لذلك كله، عدل الأميركيون الكثير من خططهم وتعدلت بالتبعية خطط حلفائهم وأصدقائهم في المنطقة وبينها إسرائيل وكذلك بعض الأنظمة العربية.
وفي الفترة ذاتها أيضاً ولأسباب معروفة كانت تتوثق أكثر فأكثر العلاقات الكتائبية الإسرائيلية وكانت تتوثق أيضاً – ولأسباب مفهومة العلاقات بين حزب الكتائب وعدد من الأنظمة العربية بينها نظام السادات والأنظمة الحاكمة في شبه الجزيرة العربية والخليج وبينها أيضاً العراق وعلى قاعدة الخصومة المشتركة للسوريين على أقل تعديل.
وفي الفترة ذاتها أيضاً وبغرض أشغال الأنظمة العربية وتبريراً لانصرافها عن التصدي للسادات وسياسته المدمرة روجت الولايات المتحدة لفكرة أولوية الخطر الشيوعي وضرورة تقديم “النضال” ضده على كل ما عداه، لافتراض إن “الفوضى” التي زرعها نظام الخميني المتعصب في إيران تفتح الباب على مصراعيه أمام الشيوعية لاجتياح الأرض العربية المقدسة!
وهكذا عقد الأميركيون ما يشبه (“معاهدة حماية”) مع كل طرف عربي على حدة، في ضوء رعبه من (الخطر الإيراني) الذي لا بد من ربطه بالشيوعية لينفي صلته بالإسلام، ومن ثم تبرير العلاقة مع الصديق الوحيد القادر على مجابهة السوفيات الأميركيين.
بل وهم قد اندفعوا يبحثون في كل بلد عربي عن القوة المؤهلة والقادرة على المساعدة على تنفيذ مخططهم فوجدوا الكتائب في لبنان جاهزة وهكذا مدوا الجسور إليها وإلى من ماثلها في التفكير والممارسة بين القوى والهيئات والشخصيات السياسية من الطوائف جميعاً.
وفي رأي خبير أميركي سبق له العمل لسنوات في مجلس الأمن القومي، فإن وصول رونالد ريغان إلى الرئاسة يمكن اعتماده كتاريخ لبداية مرحلة جديدة من بديهياتها أن تعتمد الولايات المتدحة حزباً كحزب الكتائب قوة حليفة في لبنان.
ومع وصول ريغان إلى السلطة أصبح التفاهم مع السوفيات أكثر صعوبة وأبعد احتمالاً، وتعذر بالتالي أن ينشأ حوار جدي ومثمر بين الإدارة الأميركية الحالية وسوريا، وعموماً بين هذه الإدارة وبين كل من يرفض منطقها وهيمنتها. وهكذا كان لا بد أن تتدهور العلاقات بين واشنطن وبين دول مثل الجماهيرية الليبية واليمن الجنوبي وإلى حد ما الجزائر، وكان لا بد أن تفشل كل المحاولات لفتح حوار ما مع منظمة التحرير برغم كل التنازلات والاستعدادات الطيبة التي أبدتها قيادتها سعياً وراء أوهام روج لها أساساً الفلسطينيون الأميركيون ولاقت هوى في نفس القيادة التي كانت ترى إن الحديث مجرد الحديث مع الإدارة الأميركية ولو بالسلطة هو خطوة واسعة على طريق التحرير.
ضمن هذا المناخ ومع اقتراب موعد انتخابات الرئاسة في لبنان وبسعي حثيث من الإسرائيليين وفي غياب المعارضة العربية الجدية وبتزكية مؤكدة قدمها الحكم اللبناني آنذاك، عدل الأميركيون موقفهم جذرياً من الكتائب خصوصاً بعدما اقتنعوا بقدرة بشير الجميل على التعهد باسم الحزب وتأمين التزامه بما يتقرر وهكذا فتحوا صفحة جديدة عنوانها: تأييد بشير الجميل مرشحاً للرئاسة، وفي رواية مؤكدة لسياسي لبناني بارز لعب دوراً مؤثراً في معركة انتخاب بشير الجميل، فإن بشيراً قد اعتمد نهائياً مرشح الولايات المتحدة للرئاسة في لبنان عشية الاجتياح الإسرائيلي الذي كان تعهد أن تلعب فيه “قواته” دوراً تكميلياً وضرورياً.
وفي رواية هذا السياسي فإن بشير الجميل كان قد تبلغ في شهر نيسان 1982 القرار الإسرائيلي “الأميركي” بالهجوم لطرد قوات منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان وإنه اعتباراً من تلك اللحظة بدأ يتصرف وكأنه ضمن تبني ترشيحه من قبل الأميركيين ثم لم يلبث أن تحقق من ذلك بنفسه عندما زار واشنطن بعد أسابيع قليلة.
على إن صورة الكتائب سرعان ما عادت كريهة وبشعة في العين لاأميركية في أعقاب مجازر صبرا وشاتيلا. كان بشير الجميل قد اغتيل وعادت إسرائيل تشكك في كفاءة الكتائب كجزب وقوة سياسية – عسكرية وبقدرة قيادته على حكم البلاد… واستمرت أجهزة الأعلام الأميركية لشهور تستخدم تعابير “الفالانج” و”الميليشيات المسيحية” إضافة للتشهير السياسي “بالحزب الصديق”.
وبالتأكيد فإن ما يسمى “اللوبي اللبناني” الذي نشأ ونما في أحضان المؤسسات الأميركية المعادية للعرب ثم دعمته ورعته المؤسسات الصهيونية قد لعب دوراً في التخفيف من هذه الحملة لكن القرار بوقفها كلية جاء من البيت الأبيض حسبما يقول مسؤول كبير سابق، ويربط هذا القرار بتقدم المفاوضات لعقد اتفاق 17 ايار المشؤوم.
وكان الموجه المباشر لهذا “اللوبي اللبناني” من يعتمده بشير الجميل ممثلاً له و”للقوات اللبنانية” هناك وكان الأبرز بين هؤلاء عبد الله بو حبيب (السفير الآن في واشنطن) والفرد ماضي (الذي انتخب قبل شهور عضواً في المكتب السياسي للكتائب وإلى حد كبير كبديل لكريم بقرادوني).
وإذا كانت شجاعة عبد الله بو حبيب الأدبية تجعله لا يفكر إنه إنما كان مع بشير الجميل وليس مع الرئيس أمين الجميل، فإن لا بد من تسجيله إن أمثال السفير الحالي في واشنطن قد وجدوا أنفسهم ولفترة طويلة في خندق واحد مع الإسرائيليين يقاتلون معاً ضد “الأعداء المشتركين” الذين لا يصعب هنا تحديدهم.
من هنا لا يستغرب أن يقبل عبد الله بوحبيب ومن معه المنطق الأميركي القائل: ساعدونا على التطرف الصهيوني بالاقتراب من المعتدلين الإسرائيليين ومن التجمعات اليهودية عموماً فإذا ما كسبنا هؤلاء تغلبنا على المتطرفين من دون أن نخسر خسائر تذكر.
ولا يجادل الأميركيون حين يصل النقاش إلى حرب 82 لأن القرار فيها كان أميركياً – إسرائيلياً مشتركاً، وإن كانوا يصرون على إظهار التمايز في الأهداف، واعتبار هذا التمايز من بين أسباب اغتيال بشير الجميل. وكذلك بين إسقاط شارون ثم بيغن ثم إسقاط المشروع الإمبراطوري الإسرائيلي المستقل ليبقى في المنطقة مشروع وحيد هو المشروع الأميركي ومن ضمنه وفيه وليس خارجه حصة إسرائيل.
يقول بعض المطلعين في واشنطن إن بشير الجميل في لقائه الأخير وبيغن إنما تحدث بقوة بأنه كان يستند إلى الدعم الأميركي الكامل الذي يفترض أنه سيوفر له في ما بعد الدعم العربي المطلوب… ومن هنا يسلم هؤلاء ولو مداورة بمسؤولية واشنطن عن عدم توفير الحماية الكافية لحياة بشير الجميل.
بعد انتخاب أمين الجميل رئيساً وفي ضوء التجربة اندفعت واشنطن تفتح خطوطاً وقنوات مع مختلف أمراء الطوائف في لبنان سواء عبر الدعوات والاتصالات المباشرة، أو عبر الأرشيف المفتوح الذي كان يعده فيليب حبيب ومن معه عن الشخصيات والقوى واتجاهاتها في لبنان باعتباره الأرشيف الأحدث والأكثر دقة في ضوء وقائع الحرب العارية.
ومؤكد إن فيليب حبيب لم يضع وقته في بيروت. فعبر المفاوضات لخروج المقاومة تصرف حبيب بلباقة ملحوظة إذ غطى موقف بلاده بتأييد ظاهري وعلني من السنة حتى لا يبدو خروج عرفات كأنه إخراج للسنة من قيادة العمل السياسي في لبنان وهكذا ترك لصائب سلام (ومن خلفه شفيق الوزان) أن يلعبا الدور الأول في مفاوضات “الخروج الكريم” على حد تعبير أحد أبرز الخبراء الأميركيين في شؤون المنطقة.
وحين يصل الحوار مع الأميركيين إلى وليد جنبلاط يقولون بصوت واحد : ليس لهذا الرجل من مشكلة معنا إلا تحالفه الوثيق مع السوريين المتحالفين بقوة مع أعدائنا السوفيات.
ويذكر في هذا المال، إن ماكفرلين ألمح خلال لقائه الشهير مع وليد جنبلاط في باريس أواخر أيلول الماضي إلى ثقل أعباء هذا التحالف، فرد وليد بما معناه: ” لقد دفعنا ثمناً باهظاً حين أخطأنا الحساب في الماضي، ولسنا مستعدين لأن نكرر ذلك الخطأ خصوصاً وإنكم أنتم تعتمدون السوريين كطرف رئيسي للحوار والحل في المنطقة مرة أخرى بعد تجربة 1976، وتقرون بمصالحهم المشروعة في لبنان، فلماذا امتنع أنا مثلاً عن لقاء خدام في مكتبه بينما لا يكاد يخرج شولتس حتى تدخل أنت”.
على إن ما بين وليد جنبلاط وبين الأميركيين فعلاً هو كونه يراهم يتصرفون مع حزب الكتائب كحليف في حين يواجه هو هذا الحزب من موقع الخصم.
بالنسبة للشيعة وبعد رهان أميركي طويل على الرئيس كامل الأسعد جاء الخطأ في الحساب مع سوريا ليوجه ضربة إلى صديقهم رئيس المجلس النيابي، وكان إن اضطروا إلى التسليم بإقصائه عن مؤتمر الحوار الوطني في جنيف، ومع إنهم ما زالوا يؤكدون استمرار صداقتهم للأسعد فإنهم يرسلون بين الحين والآخر إلى من في المجلس الشيعي كلاماً مؤنساً ومشجعاً، كذلك فهو يشجعون بين “أعيان” الشيعة كل من يجد في نفسه الأهلية على تقدم الصفوف.
وليس الموقف المتشنج من كل رموز التيار الخميني الجدية وغير الجدية كالسيد محمد حسين فضل الله وحسين الموسوي وبعض قيادات “حزب الله” التي بالكاد يعرف الناس أسماءها، إلا هزا للعصا في وجه أي اتجاه راديكالي ومن طليعة ثورية داخل صفوف الشيعة وإذا كانت الزعامات الأخرى تهدد بأشخاصها أو بمصالحها ضماناً لحسن سلوكها فإن الشيعة يهددن بمصير مناطقهم والجنوب تحديداً لضمان جذب هذه الطائفة الكبيرة العدد بعيداً عن الأفكار والمواقف المتطرفة وبعيداً عن التفكير بأي حلف جدي مع مفاوض صعب كالسوريين أو “متعصب” كالخميني أو عدم دائم كالسوفيات. في ضوء هذا تفهم حركة الحكم بقطع العلاقات مع إيران وتجميدها مع ليبيا، وإبعاد موظفي السفارتين كهدية رمزية تعني وصول الرسالة إلى بيروت وفهمها على وجهها الحسن.
وبقية الكلام مصدره أخبار الزيارة الرئاسية الثالثة إلى واشنطن.

Exit mobile version