للمرة الثانية خلال شهر واحد تطرح إسرائيل موضوع الصحافة اللبنانية على طاولة المفاوضات، في حركة واضحة الدلالة والهدف: ابتزاز لبنان في سيادته، معنوياً، وفي قيمه الأصلية بل وفي مبررات وجوده ومرتكزات صيغته المميزة، إضافة إلى محاولتها الدائبة لابتزازه في أرضه وفي استقلاله والسيادة بالمعنى القانوني للكلمة.
فالتعرض للصحافة هو مدخل لطرح موضوع الحريات العامة، ككل، وهو بالتالي مدخل تختاره إسرائيل لمد يدها بالسوء إلى دستورنا وإلى ما تواضعنا عليه وارتضيناه قانوناً عاماً يتيح لنا كمواطنين متعددي المشارب والانتماءات الفكرية والثقافية، أن نعبر عن أنفسنا بما يحمي التجربة اللبنانية ويغنيها.
والتعرض للصحافة، مع ربط التحريض عليها بالنتائج المفترضة للمفاوضات، هو تحريض إسرائيلي مكشوف للدولة في لبنان ضد… ذاتها.
لقد حاول ديفيد كيمحي ، ومن معه، أن يصوروا موقف الصحافة اللبنانية وكأنه “شغب” على إرادة لبنان (الشعب والحكم) في تحرير أرضه بإخراج قوات الاحتلال منها!
كأنما السيد كيمحي أحرص على لبنان وسيادته من أصحاب أقلام مثل غسان تويني (الصحافي) وجورج عميره وجوزيف أبو خليل ومحمد البعلبكي وملحم كرم وروجيه جهشان وعصام فريحة وعبد اغلغني سلام وعوني الكعكي ووليد الحسيني ووليد عوض وهنري سجيع الاسمر وفاضل سعيد عقل وكريم مروة وميشال أبو جوده، ناهيك بكتاب “السفير” ومحرريها.
على إن الهدف الحقيقي للمحتل الإسرائيلي لا يمكن إخفاءه بحجج وذرائع سخيفة، مثل هذه، بل يبقى جلياً ساطعاً: إن إسرائيل التي قدمت وتقدم نفسها للغرب على إنها “واحدة الديموقراطية” الغربية في صحراء التخلف والقمع والقهر العربية، تواجه انفلضاح أسطورتها بالمطلق في مواجهة التجربة اللبنانية، ولهذا فهي تريد ضربها وتدميرها حتى لا يكون ثمة مجال للمقارنة، وخسارة ما تبقى من تلك الأسطورة الكاذبة.
إن كيمحي يريد تحقيق الهدف الإسرائيلي: نزع “سلاح” لبنان وسلاح لبنان هو الحرية، حرية التعبيثر، حرية الرأي حرية الكلمة، بما هي صحافة وكتاب ومهرجان وندوة ومحاضرة ، وحرية العمل الحزبي، وحرية الإيمان والمعتقد.
وإسرائيل تعرف إنها لا تستطيع أن تأخذ من لبنان – الحرية ما أخذته من سادات الاعتقالات والسجون ومحاكمة الجائعين لأنهم تظاهروا اعتراضاً على الجور ورفع أسعار المواد الغذائية.
لذلك فهي تحرض لبنان على ذاته: تطالبه بأن يلغي نفسه لتوقع معه اتفاقاص يعيد إليه بعض أرضه.
وصحيح إن الأرض مقدسة، لكن صاحبها هو الذي يجعلها كذلك، أما إذا فقد هو قيمته فلا يمكن أن تحتفظ هي بطهارتها أو بقداسيتها أو حتى بأهميتها، فكما إنها تعطيه الشعور بالانتماء والاعتزاز بهذا الانتماء إليها، فهو – الإنسان – من يعطيها كل ذلك المعنى الجليل الذي لها.
إن إسرائيل تواجهنا بالسلاح الغربي، لكنها تواجه الغرب بانتسابها إليه عبر “نظامها الديموقراطي”.
والغرب يقبل منها هذا الادعاء برغم معرفته الكاملة بطبيعتها العنصرية والعدوانية، متذرعاً بكونها “ديموقراطية”.
وهكذا فإسرائيل تريد أن تنزع “سلاحنا” الوحيد الباقين أي الحريات، بينما هي تواجه العالم مدججة بهذا السلاح ذاته كمبرر لقيامها ولاعتداءاتها المتكررة على العرب في مختلف أقطارهم.
على هذا فأبسط مقتضيات الدفاع عن النفس أن تعزز الدولة هذا السلاح الباقي للبنان، الديموقراطية.
وتعزيز الحرية لا يكون إلا بالمزيد من الحرية،
وتعزيز الحرية لا يكون أبداً لا بتقييدها وبابتداع “الضوابط” البوليسية، ولا بتطبيق القوانين الجائرة اليت لمسنا جميعاً إنها أضرت بلبنان ولم تنفعه في درء أي خطر يهدده.
لقد أخطأت الدولة مرة بخضوعها لتحريض الأنظمة العربية وضغوطها عليها ففرضت الرقابة على الصحف وضيقت – لفترة – على الحريات، فخسر لبنان الكثير من قيمته ومن مكانته في عين العالم كله، وأساساً في أعين أولئك الذين حرضوا وضغطوا لكي يحرموا العرب عمومامً – ومن بينهم اللبنانيون – ما تبقى لهم من نعمة الحرية، كما تتوافر في لبنان.
وليس من حق الدولة أن تخطئ مرة أخرى بخضوعها للابتزاز الإسرائيلي، في هذا المجال.
فإسرائيل تريد اجتثاث الحرية لتنهي لبنان وليس فقط لكي تضعف نظامه أو تخفف من وهج الصيغة المميزة.
وإذا كانت حماية الحريات العامة، والصحافة خصوصاً، مهمة وطنية في فترة سابقة، فإن حمايتها اليوم على رأس الشروط المطلوبة لحماية الوطن.
ولا يعقل أن نناضل لطرد شارون (وكيمحي) من خلده والدامور والباروك والبقاع وصيدا وصور، وصولاً على “الخالصة” التي صارت – بالقهر – كريات شمونه، لنفاجأ به من بعد في مكاتب رسمية ببيروت يمارس علينا قهراً أهون منه الاحتلال.