طلال سلمان

على الطريق حل وسط للاحتلال؟!

لا مجال للوساطة بين “العربي” وبين “الإسرائيلي”، مهما كان قاسياً التسليم بمنطق الأمر الواقع،
أية وساطة، في ظل الظروف وموازين القوى الراهنة، ستكون على حساب “العربي”، فكيف إذاً كان “الوسيط” هو الأميركي؟!
إن أسوأ الوسطاء هو الأميركي، ذلك أنه بعقله البراغماتي سيقترح، على الفور، الحل الوسط، بمعنى أن يتنازل الطرف العربي، عن نصف حقه، نصف أرضه، نصف كرامته، نصف مستقبله، مقابل أن تتنازل إسرائيل عن مطالبتها “بكل” ذلك الحق وتلك الأرض وتلك الكرامة وذلك المستقبل،
أي أن يتنازل العربي عن “نصفه”، وتتنازل إسرائيل عن “حقها” في نصفه الآخر!!
وبالنسبة للبنان (وسوريا) فإن الوضع القائم لا يتحمل الحل الوسط: ثمة احتلال إسرائيلي لبعض الأرض (في الجنوب، كما في الجولان)، ولا يمكن أن يكون ثمة نصف احتلال ونصف سيادة، نصف حرية ونصف استعباد، نصف هيمنة ونصف عنفوان (؟!)
وإذا كان أمكن لياسر عرفات أن يقبل بنصف حل، أو بربع حل، أو بشبه حل، فلأنه في ظل وضعه الشخصي الراهن وفي ظل الأوضاع التي تعيشها منظمته نتيجة مراهناته وحساباته الخاطئة، كما ونتيجة التخلي العربي، الرسمي عن العروبة قبل فلسطين، لم يكن يملك أن يرفض أي شيء يعرضه الإسرائيلي عليه.
كان منطق عرفات: وماذا أفعل إذن؟! إن أنا رفضت ذهب هذا الربع أو نصف الربع الباقي، وأفضل أن آخذه أنا من أن يحتفظ به الإسرائيلي، أو – وهذا هو الأخطر – أفضل من أن يأخذني الطوفان ثم يأتي غيري فيقطف ثمار الحل!
وحتى هذه اللحظة فليس مفهوماَ لماذا تلوح مؤشرات على قبول لبنان الرسمي بمبدأ اللجنة العسكرية المشتركة مع العدو الإسرائيلي، كمدخل لتجديد المفاوضات الثنائية تحت الرعاية الأميركية.
ولقد كان يمكن تجاهل التصريحات “الرسمية” الصادرة عن بعض المسؤولين اللبنانيين، لولا إنها قد اكتسبت طابعاً جدياً أمس مع آخر ما قاله مساعد وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأوسط ادوار دجيرجيان، وقد جاء فيه أن المفاوضات اللبنانية – الإسرائيلية تسير في اتجاه إقامة لجنة عسكرية!
كيف يمكن المباشرة بالنتائج بالقفز من فوق الأسباب؟!
إن إسرائيل لم تعترف، حتى هذه اللحظة، إنها قوة احتلال، وإنها تتخذ من بعض الأرض اللبنانية رهينة للهيمنة على القرار السياسي اللبناني، أو للتأثير فيه وعليه، وعبره على القرار السياسي السوري.
وإسرائيل لم تذكر، حتى هذه اللحظة، كلمة “انسحاب” ولم تتعهد بما يشير إليه ولو تلميحاً، في حين أن وفدها المفاوضوجه إلى اللبنانيين، حكومة وشعباً، مجموعة من الإهانات الموجعة، وتعامل معهم بامتهان زادت من حدته تلك التصريحات المنافقة التي كان يطلقها بين الحين والآخر كبار المسؤولين الإسرائيليين من أن لا أطماع لهم لا في شبر أرض ولا في نقطة ماء لبنانية!
وإذا كان دجيرجيان قد فضح بعض جوانب المباحثات التي جرت بين المسؤولين الأميركيين وبين بعض المسؤولين اللبنانيين، مما لم يعرف عنه اللبنانيون شيئاً، فإن المزايدات التي صدرت وتصدر عن الأوساط الحكومية تثير من القلق أكثر مما تزرع من الاطمئنان في النفوس…
فليس مما يسعد اللبنانيين أن يكون لحكومتهم رأيان في الشأن المصيري،
وليس مما يطمئن أن يكون الأعلى رتبة والأعلى صوتاً هو الذي يتعهد بأن لا يوقع على شيء إلا بعد موافقة المجلس النيابي عليه،
فثمة بعض الاتفاقات، كذلك الذي “أنجزه” ياسر عرفات، ومن بعده الملك حسين، لا تحتاج إلى مصادقات وموافقات لاحقة… إنها تصل مصفحة ومحصنة ضد التعديل والتبديل وبالطبع ضد الرفض، ويصبحرفضها مدخلاً لحرب أهلية جديدة، خصوصاً وإن المناقصين هم “النصف الآخر” أو الوجه الآخر للمزايدين.
وتفويض الولايات المتحدة الأميركية باقتراح الحلول الوسط لا يعني غير نقل المشكلة من حيث يجب أن تكون، أي مع الإسرائيلي، إلى حيث لا يقدر أحد على المجابهة بالرفض، أي مع الأميركي.
إن مجرد الموافقة على مناقشة اقتراح اللجنة العسكرية، وبالذات مع الأميركي، يعني إعفاء الإسرائيلي من التزامه بموجبات التفاوض على قاعدة صيغة مؤتمر مدريد، كما يسفح دماء القرار 425، ويسهل على الراعي الأميركي التصل من مهمة “الشريك الكامل” و”قوة الدفع” و”الوسيط النزيه الذي لا يفضل طرفاً على آخر”.
إن ثمة ما لا تمكن قسمته على اثنين، فكيف على ثلاثة، كالأرض والسيادة والاستقلال والحرية والكرامة والعنفوان الخ،
والقبول بالصيغ الاستدراجية المعروضة، ولاسيما صيغة اللجنة العسكرية، ليس أكثر من تمهيد لافتعال مشكلة لا مبرر لها مع الشقيقة سوريا، والتخفيف عن الإسرائيلي عبء “الاتهام” بأنه “محتل” وبأنه “غاصب” و”متعنت” وضد السلام والمفاوضات وصيغة مدريد،
وإذا كان التفريط الفلسطيني، ومن بعده الأردني، قد وفر له الفرصة لغسل يديه من دماء العرب ومن صورة المحتل والمستعمر الاستيطاني والطامع في الأرض والمياه والموارد الطبيعية، فلا يجوز أن يكمل المسؤول اللبناني هذه المهمة القذرة، بغض النظر عن الألفاظ والكلمات التي توحي بالتشدد والتي يستخدمها في مجال تبرير الصفقة العتيدة.
لقد فرض الأميركي على العرب “المسارات” بدلاً من الوفد الموحد ومن المنطق الموحد في القضية الواحدة… فلا أقل من أن نحرص على “المصير” الواحد ولو تعددت المسارات،
خصوصاً وإن من مصلحة لبنان المهيض الجناح أن يستظل الموقف السوري المتماسك بدلاً من أن يتيه في زحمة المتنازلين تلهفاً على أي حل، مهما كان مهيناً، ومهما كان واضحاً أنه سيتسبب في مشكلات أكثر تعقيداً في المستقبل حتى يحصد الحاكم اليوم النتائج (ولو هزيلة) ولا يترك لغيره فرصة أن يحقق ما هو أفضل وأكرم وأقرب إلى المطامح المشروعة في ظل كل التردي الراهن.
ولسنا ندري إلى من نتوجه الآن وقد تكرس – رسمياً – إن للبنان حكومتين وسياستين حتى في الشأن المصيري،
والله وحده هو العليم مَن مِن الحاكمين هو الأقرب إلى ما هو منطقي وبديهي وحافظ لكرامة لبنان واللبنانيين، ولحقهم في أرضهم، في ظل حرب الاتهامات العلنية التي يتبادلها كبار المسؤولين عبر الأقمار الصناعية فيعممونها على العالم أجمع!

Exit mobile version