طلال سلمان

على الطريق حكومة ما بعد 6 أيار حكومة ما قبل 17 أيار

أكثر ما يحكم طبيعة هذه الحكومة هو تاريخ تشكيلها: 16 أيار،
إنها حكومة “المنطقة الحرام” بين 6 أيار سنة 1992 و17 أيار سنة 1983،
ليست الأسماء مهمة ولا الحقائب إلا بمقدار ارتباطها بالمهمة السياسية المطلوب من هذه الحكومة أن تؤديها، متجاوزة المصاعب والعقبات الكثيرة.
ولقد دارت “حروب” لاستبعاد هذا أو ذاك من المرشحين: نزلت الطائفيات والمذهبيات إلى الساحة واصطرعت رموزها، ولكنها ظلت متكاتفة وهي تتناتش فكرة الدولة ومؤسساتها. الميليشيا أهم من الطائفة والطائفة أهم من الوطن والقائد أهم من الجميع، ومن “حقه” أن يدخل حتى لو كان ذلك إضعافاً لفكرة الدولة وتشويهاً لصورة الحكم المشوه أصلاً.
حكومة 16 أيار سنة 1992
حكومة ما بعد انتفاضة الجوع، وحكومة ما قبل اتفاق الإذعان مع العدو الإسرائيلي في 17 ايار سنة 1983
وبين أركان هذه الحكومة الجديدة – القديمة من يحمل أو يحمله الناس بعض المسؤوليات عن التدهور في قيمة النقد الوطني، وبالتالي عن الأزمة المعيشية الخانقة، حتى لتكاد “عودتهم” تشكل تشهيراً بزملائهم الخارجين، بينما المسؤولية جماعية،
ويشترك معظم أركان الحكم والحكومة في تحمل بعض مسؤولية اتفاق 17 ايار في ظل قيادة “المنقذ” المغوار أمين الجميل،
لكن “الماضي مضى”، يقولون، و”نحن أبناء اليوم”، والسؤال الكبير يبقى عن الغد، وعن المسؤوليات السياسية الجسام التي ستفرض نفسها على الحكم وهذه الحكومة التي “تخصه” أكثر من سابقتها: هل سيتم النهوض بها أم ستنوء أكتاف المتعبين والتي علمتهم تجاربهم الكثير من فنون التقدم إلى الخلف أو الحفاظ على مسافة مع الحليف تحت شعار التخفيف عنه وتمكينه من النهوض بمهامه القومية الثقيلة؟!
ثم هل يكفي الالتزام بالموقف السياسي لاستقطاب الناس وإقناعهم بمزيد من الضيق في أسباب معاشهم وتحمل المزيد من التقشف بينما المال العام المهدور في ثلاثة شهور يعادل نصف موازنة الدولة السنوية؟!
هل مسىتحيل الجمل بين موقف سياسي وطني وبين سياسة اقتصادية راشدة وبين إدارة تعمل أكثر وبفساد أقل؟!
ومع التنويه بكفاءة بعض الوزراء الجدد، وبالتحديد من كلفا بالمالية (أسعد دياب) والاقتصاد (سمير مقدسي)، فإن العبء ثقيل جداً ويحتاج إلى ما يتجاوز حسن السيرة والسلوك والنظافة الشخصية… ومع التقدير لقوة الحجة التي يتمتع بها وزير الأعلام الجديد (ميشال سماحة) فلن يمكن إلغاء قرار “المقاطعة” المتخذ تأديباً للبنان، وبحيثيات سياسية، بمجرد الإعلان عن تطعيم “الحكومة المرفوضة” بوجوه مقبولة.
وما من شك في أن الرئيس رشيد الصلح هو غير الرئيس عمر كرامي، وقد يقبله ويمد يده إليه من كان يتحفظ على سلفه. لكن هذا أيضاً لا يكفي لرفع التحفظ وإطلاق المساعدات والهبات بما يخفف من ضغط الأزمة الاقتصادية على الحكم.
إن سيف الدولار الأميركي (والبترودولار العربي) ما زال مصلتا،
كذلك فإن روح الانتقام الإسرائيلي لاتفاق 17 ايار ما تزال تفعل فعلها في السياسة الإسرائيلية حيال لبنان،
وإسرائيل تجاهر بأن معركتها لعقد اتفاق جديد مع لبنان، وبموافقة سوريا دائماً، مستمرة ولم تتوقف أبداً على امتداد السنوات الثماني التي مضت على إسقاط “اتفاق العار” إياه، والتي كانت في بعض جوانبها إحدى أعنف المواجهات بين الجبارين الدوليين في “استفاقة الموت” التي عاشها الاتحاد السوفياتي في ظل الرئاسة القصيرة العمر لاندروبوف.
والمقدر أن يحتدم الصراع، داخل إطار “مؤتمر السلام” وبمستوييه: المفاوضات الثنائية، وتلك المتعددة الأطراف، في الصيف الفاصل (والرابط) بين انتخابات الكنيست في إسرائيل والانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة الأميركية،
والمقدر أيضاً أن واشنطن أرجأت الضغط الفعلي على سوريا ومعها لبنان من أجل المشاركة في المفاوضات المتعددة الأطراف، إلى ما بعد الانتخابات الإسرائيلية ليس تقديراً منها لظروفهما بل لمنع إسحق شامير من الإفادة من “الثمار” وهو على قمة التطرف الليكودي المنفر.
والسؤال هو عن قدرة هكذا حكومة تحمل مقاتلها في جنباتها على الصمود وعلى الوفاء بالتزامها السياسي الذي برر “استيلادها” عشية الذكرى التاسعة لاتفاق الإذعان الذي ما زال يجد في صفوف النواب والقياديين (وربما الوزراء والحكم عموماً) من يدافع عنه ويبرره ويبرر بالتالي التمهيد لعقد اتفاق جديد منفتح ومعدل قليلاً بحيث يسهل تمريره.
فالخطر ماثل دائماً في أن يوظف “6 أيار” من أجل “17 أيار”، أي في أن يوظف الجوع والإفلاس وسوء الإدارة والخلافات على مستوى القمة، من أجل دفع البلاد في طريق 17 أيار جديد بذرائع اقتصادية تفاقم من التهالك أو التداعي السياسي العام.
كذلك يظل السؤال مشروعاً عن قدرة هذه الحكومة على إنجاز تعهد ثقيل آخر التزمت به، في ما يبدو، وهو : إجراء الانتخابات النيابية خلال هذا الصيف.
لكأنما المطلوب من هذه الحكومة التي لم تتوفر لها ظروف القوة نفسها التي كانت لسابقتها أن تخوض وتنتصر في مجموعة من “الحروب”، وهي أضعف من أن تقاتل معركة واحدة.
… إلا إذا،
إلا إذا تحققت سلسلة من المستحيلات أولها المصالحة الوطنية وثانيها إنجاز مشروع جدي وعملي لإعادة المهجرين وبناء إدارة قادرة وفعالة والإفادة من المناخ الوحدوي الذي جسدته الانتفاضة ضد الجوع لإطلاق حياة سياسية من نوع مختلف (ومرجو) تكون الانتخابات النيابية عنوانها والمؤشر على حيويتها وعلى تعزيز الروح الديموقراطية واعتمادها أساساً في الحكم وأساساً في العلاقة بين الحاكم والمحكوم.
ومع تمني النجاح لهذه الحكومة التي هي أكثر من تعديل لسابقتها وأقل من تجديد للدم في شرايين الحكم، فلا بد من القول إن مهماتها أثقل بكثير من أن تنهض بها أكتاف القلة من المثقفين والعلماء التي أدخلت الحلبة وطولبت بأن تنتصر على الغيلان داخل دست الحكم وبأن تنصرهم في الشارع أيضاً.

Exit mobile version