طلال سلمان

على الطريق حكومة القرار الواحد وتضامنها..

القاعدة، بل البديهية الأولى في السياسة اللبنانية: الاتفاق من داخل الاختلاف.
لذلك كان الحكم في لبنان، وعلى الدوام، من طبيعة “ائتلافية” وعلى الطريقة اللبنانية حيث يختلط الكاريكاتور بالجد وتعوض الألقاب أحياناً عن الفاعلية وتراعى الشكليات إلى الحد الأقصى لتمرير “المضمون” بأقل ضجة ممكنة.
في مرات معدودة خرج الحكم على الطبيعة الائتلافية فوقع في شرك الاتهام بالهيمنة، الفئوية تارة، والدكتاتورية تارة أخرى، والمختلطة في غالب الأحيان.
لا مجال لرجل فرد لأن يحكم لبنان أو يحكم في لبنان من فوق الآخرين، وبالاستغناء عن الآخرين، أو مع تجاهل الآخرين.
حتى أيام الرئيس – الملك، قبل الحرب الأهلية، كان رأس النظام يراعي بعض الاعتبارات، ويحاول الإيحاء بأن قراره إنما جاء نتيجة تشاور وبالتوافق وليس بالفرض أو بالقسر، كما كان يحفظ مساحة للمعترضين فيتركهم يعبرون عن اعتراضهم مطمئناً إلى أنه قد “مرر” ما يشاء في جو “ديموقراطي”.
لكن الحرب، بكل ويلاتها ودروسها القاسية، قد أسقطت نهائياً دور الرئيس – الملك. وبقدر ما كان سقوط بشير الجميل درامياً فإن سقوط أمين الجميل كان هزلياً ثم كان سقوط “بطل التحرير” ميشال عون خليطاً من المأساة المضحكة أو المهزلة المبكية.
والحقيقة أنه لا مجال في جمهورية ما بعد الطائف لدور الرئيس – الملك.
لقد صار للبنان بدلاً من الرئيس ثلاثة.
فإذا أخذت مؤسسة مجلس الوزراء بالاعتبار صار الرؤساء بعدد الوزراء، أقله أولئك الذين احتكروا أو نصبّوا ممثلين لتيارات سياسية مموهة بالطائفية، أو لقوى طائفية مموهة بشعارات سياسية.
صارت الدولة كمجلس الأمن الدولي: ثمة أعضاء “سوبر” يتمتعون بحق النقض “الفيتو”، يحيط بهم عدد لجب من “الكومبارس” أو الأعضاء الثانويين الذين يستمدون “قوتهم” من موقعهم التمثيلي طائفياً، أو من لونهم السياسي المعبر عن تيار قد يضمر فيقترب من الاضمحلال وقد ينفخ أو ينتفخ فيصير قوة كبرى بحسب الظروف وطبيعة الصراع في لحظة معينة وهوية أطرافه الكثر.
وعلى امتداد الأسبوع الماضي تعاقبت فصول كاريكاتورية من لعبة التضامن المؤكدة للطابع الائتلافي للحكم.
كانت “قوة” واحدة هي الطاغية، وهي القادرة على فرض رأيها “ديموقراطياً” وبأصوات الأكثرية، في حين ظلت المعارضة “أقلية” عددية غير ملحوظة، غالباً ما انحصرت في صوت أو صوتين ولم تزد مرة عن خمسة، وإن كان بين الرافعين أيديهم بالموافقة من يضمر الاعتراض أو من يحرض على التوغل في الخطأ أو من يفرح لتورط “القوي” في ما سيؤاخذ عليه لاحقاً.
لكن للزمن فعله، ومع تغير الظروف تتبدل الأدوار وتختلف الأوزان، وقد يغدو ثانوياً ما (أو مَن) كان أساسياً، وقد توجب استحضار من كان غائباً بالرغبة أو مغيباً بالضرورة.
واللبيب من يرصد الظروف والمتغيرات ويفهم تحولاتها وانعكاسات هذه التحولات على مجرى الأحداث ومواقع المعنيين، فلا يتحرك بإيقاع أسرع من وتيرتها ولا يتباطأ حتى يسبقه الركب ويضيع طريقه في زحام الساعين إلى أهدافهم بتوقيت مضبوط.
المهم أن “هزة” قد ضربت وحدة الحكم، وأن تداعياتها قد وصلت هذه المرة إلى قلب الحكومة، التي هي خليط من الائتلاف التقليدي المجمد بالرغبة في إنجاح “بطل مغامرة النهوض الاقتصادي” ومن “حكومة الشخص” حتى لا نقول “مجلس الإدارة” كما وصفت أجهزة الأعلام الغربية هذه الحكومة التي جاءت في أعقاب الانتخابات النيابية وحازت ثقة شبه إجماعية في الداخل والخارج.
في البداية اتخذت “الهزة” شكل اعتراض عنيف أطلقه أحد الأقوياء من بين الوزراء على موضوع لا يدخل من حيث المبدأ في اختصاص مجلس الوزراء، لكن الاشتباه بتورط لبعض أعضاء المؤسسة في ما أغضب الوزير القوي جعل المسألة تنتقل إلى قلب مجلس الوزراء وتفرض عليه اتخاذ موقف تضامني شكل بعلانيته سابقة في الحياة السياسية اللبنانية.
بعد ذلك، وربما نتيجة لذلك، تشجع وزراء كانوا يرون صلاحياتهم “مصادرة” فتضامنوا مع بعضهم البعض، فإذا مجلس الوزراء مجتمعاً يضطر إلى تكريس ذلك التضامن وإن اتخذ شكل تظاهرة وزارية احتجاجاً على “هيمنة” رئيسهم القوي.
ثم كانت ثالثة الثافي حين غضب الرئيس القوي لما جرى فإذا بالوزراء يصدرون بياناً بالتضامن معه ضد … مجهول!
وهكذا تحول “التضامن” إلى مناسبة للإعلان عن التميز، وبمعنى ما العودة إلى منطق “الائتلاف”: فهي ليست حكومة الشخص الواحد أو اللون الواحد أو الفئة الواحدة، وإن كان مطلوباً أن تبقى حكومة القرار الواحد.
وليست مهمة شاقة على نائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام، وهو الأخبر والأعرف بالشؤون اللبنانية والقوى السياسية والشخصيات والأمزجة والتيارات والاهواء والأغراض ما انكشف منها وما خفي، أن يعيد صياغة الائتلاف التضامني أو التضامن الائتلافي على قاعدة “حكومة القرار الواحد”.
فليس ثمة خلافات جوهرية في “السياسة”، وإن غلف الكل تعارض المصالح بينهم بالمواقف المبدئية التي تمتد من مشروع سوق الخضار المركزية في الضاحية الجنوبية إلى المفاوضات العربية – الإسرائيلية في واشنطن مروراً بضرورات نشر الجيش في الجنوب في تلك المساحة الضيقة الفاصلة بالدبلوماسية بين قوات الأمم المتحدة والقرار 425، أو تلك الفاصلة بالنار بين قوات الاحتلال الإسرائيلي و”مجاهدي حزب الله”، أو تلك الفاصلة بالسياسة بين الموقف التفاوضي التكتيكي وبين الالتزام بالموجبات الاستراتيجية ذات الطبيعة القومية.
و”حكومة القرار الواحد” باقية ما بقي تضامنها حول “القرار” وليس حول أي شيء آخر!

Exit mobile version