طلال سلمان

على الطريق حكم بلا نصاب!

لا يكابر أحد في أن “تغييراً ما” قد بات ضرورياً لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من “حكم الطائف”.
كأنما صار ضرورياً أن يفتدي هذا الحكم نفسه بالتضحية ببعضه، والخلاف حول أي “بعض” يكون الضحية، ليس ألا!
رئيس الجمهورية يشكو من أنه يحاول فلا يستطيع لأن “البعض الثاني” يحد من قدرته مفتئتاً على صلاحياته، واستطراداً على “كرامة منصبه” وهي كرامة تتجاوز شخصه إلى “من يمثل”،
ورئيس الحكومة يشكو من أنه مستهدف، وإن ثمة قوى “تتآمر” عليه فتشل حركته (وحكومته)، وإنه قد “خدم عسكريته” وإن إن يخلص بجلده قبل أن يحترق وهو بالكاد عرف الحكم، إذ أنه “في القصر من البارحة العصر”…
أما الوزراء فنوعان:
نوع استسلم إلى أنه ليس بالإمكان أبدع مما كان، وإن الاستمرار مع التقصير أرحم من الخروج بعد التشهير، ولذلك فهو باق ليرد على “الحملات المتجنية التي اتهمته في ذمته المالية ونظافة كفه”.
ونوع آخر يعترف بالعجز عن الإنجاز ويفتقد معنى الاستمرار ولكنه يرى أن “المقتضيات السياسية” و”المصلحة الوطنية العليا” تفرض عدم التغيير، وبالتالي فلا بد من دفع ضريبة البقاء منعاً لما هو أسوأ!
(يسقط سهواً من “النوعين” وزراء من نوع نقولا الخوري كفاه اللقب وأغناه فانتشله وذهب به إلى حيث ينفعه في أعماله الخاصة، مطمئناً على أن أحداً لن يحاسبه لا عن الغياب ولا عن سوء استعمال لقب صاحب المعالي!)
ويشكو النواب من أنهم أفراد ولا مجلس، ويتذمرون من أن دورهم ملغى ومهمش، وإنهم إن جاءوا لا ينتجون، وإن غابوا لم يتأثر لغيابهم أحد، اللهم إلا متى كان “النصاب” ضرورياً لأسباب لا يعرفونها فيؤتى بهم من بيوتهم ولو كانوا على فراش المرض.
ولس تشنيعاً القول إنه منذ أن تمت زيادة عدد النواب تناقص عدد “الجلسات”… لعدم اكتمال النصاب!
على أن “النصاب” هارب أو مهرب ليس فقط من أو عن مجلس النواب،
كأنما الحكم جميعاً بلا نصاب!
… والنصاب غائب حتى لو حضر الجميع، فكيف إذا غاب من يجب أن يحضروا؟!
في مجلس النواب يقتضي استحضار النصاب تدخل “قوى الضغط” في الشارع وفي مواقع النفوذ، الداني منها والقاصي، ولاسيما القاصي،
أما في مجلس الوزراء فالنصاب غير مستقيم حتى وإن حضر الثلاثون،
لكأنما كل مؤسسة من مؤسسات الحكم “تحضر” فقط لتغلي غيرها، أو لتبطل قدرة غيرها على الإنجاز، ربما لأن الأهداف متباينة إلى حد التناقض الكلي، بغض النظر عن التبريرات التي تعطى في مجال تبرئة الذات والإيحاء بمسؤولية “الآخر” أو تقصيره.
الأخطر أن الحديث عن تغيير الأشخاص قد اكتسب معاني ودلالات جعلته يبدو أقرب ما يكون إلى “الانقلاب” وتبديل وجهة السير والغايات المقصودة.
ولقد فهم الناس أن محاولة تبديل الحكومة قد “أحبطت” لحماية النهج المعتمد حالياً من أن يضرب، خصوصاً وإن الضربة كانت ستجيئه “من بيت أبيه”.
كما فهم الناس أن ارتفاع سعرصرف الدولار هو بين بنود الرد على عدم التغيير في الأشخاص والوجهة، خصوصاً وإن بورصة الترشيحات لخلافة الحكومة الحالية قد طرحت أسماء مليئة مالياً أكثر مما يجب ومما يطلب اللبنانيون، ربما لتمويه الغرض السياسي المستهدف من وراء التغيير.
فالمعادلة الآن هي: يبقى الوضع، سياسياً، على حاله، فيسوء الوضع الاقتصادي حتى لا يعود ممكناً تحمله، بل وربما تسبب في انفجار من طبيعة اجتماعية تستقطب أو تستولد تحالفات سياسية جديدة تذهب بصيغة الطائف، أو بهذه “الطبع’” من ذلك الاتفاق حمال الأوجه…
… أو يتغير الوضع السياسي، بوجهته العامة واتجاهاته وليس فقط بأشخاص المعنيين، فتتهاطل المساعدات والهبات والقروض الميسرة، من الغرب وغرب الغرب، ويشتعل العرب الأغنياء نخوة فيمطرون لبنان بالنجدات الذهبية، وتقوم بيروت من بين الأموات فينبض قلبها مجدداً بعد إحياء وسطها التجاري، وتتم إعادة بناء الضاحية بحيث تكمل – مع الجزيرة النيويوركية – صورة مدينة الأحلام حيث تمتزج روح الشرق العظيم بالتقدم الغربي الباهر فإذا الأعجوبة قد وقفت على قدمين من نور ونار!
أي أن بعض أهل الطائف ومن يفترض أن يكونوا بين حماته يتآمرون عليه أو على البعض الآخر من أهله الأقربين،
أو لكأنما صارت للطائف نسختان تختلف أحداهما عن الأخرى اختلافاً بيناً، وإن محاولة التوفيق بينهما تبتدع صيغة أو نسخة ثالثة ليس فيها من الطائف إلا اسمه!
ولأن لبنان “بلد بلا داخل” فالكل يعني ويومئ إلى طرف في الخارج،
بعض حسني الظن يرونها مقدمات معركة ضد سوريا عبر الوجود السوري في لبنان، لبنان ما بعد الطائف،
أما الأسوأ في نواياهم فيرون أن الحرب لإنهاء لبنان وشطبه قد استؤنفت وبأشرس الأسلحة بعد هدنة قسرية فرضتها الظروف التي أملت انعقاد مؤتمر الطائف وإنجاحه ولو بعملية قيصرية،
ويقول هؤلاء إن الإعداد لصلح عربي مع إسرائيل يفترض تبديلاً جذرياً في وظيفة لبنان ودوره، وبالتالي هويته، مما يجعل استمراره مستحيلاً ويفرض عليه قدراً من التبديل يعيده إلى “تغريبته” المختزنة.
وهكذا فإن أصحاب المشروع اللبناني القديم يرحلون أو يعتكفون ويحجبون مالهم وكفاءاتهم وحيويتهم، في حين أن أصحاب مشروع لبنان الجديد (؟!) أعجز من أن يبنوه وان يحموا ما يمكنهم استنقاذه من قديمه!
وسط هذه المتاهة يبدو وكأن الحكم لا يجد للبنان الآتي لحكمه،
… ويبدو أن لبنان القديم كامن أو مخبأ في ملجأ ما، في انتظار أن تهب الريح المؤاتية التي يمكن أن تذهب ببيوت الرمل التي أقيمت بارتجال باسم الطائف، فيطل من جديد ويجيء معه الحكم المتكامل معه والذي لا يشبه أبداً آباء الطائف المقتتلين يومياً على تفسيره.
… وعندها فقط يستقيم نصاب الحكم، ولو على حساب المحكومين!

Exit mobile version