طلال سلمان

على الطريق حكم التجويع الوطني!

ليس الجوع شهادة لأي حكم بالكفاءة، ونقص الكفاءة لا يعوض بالحديث عن الوطنية،
كذلك ليس جوع الشعب شرطاً للوفاق الوطني أو من ضمانات نجاح اتفاق الطائف، بل إنه مانع للوفاق وحاجز في طريق ذلك الاتفاق الخالد!
وليس عدلاً أن يُفرض على الناس الجوع باسم “السلام” أو “الاستقرار الأمني” وكأنما “الحرب” هي السبيل إلى الشبع والازدهار الاقتصادي مع شيء من النقص في الأرواح!!
وهل أبشع من أن يتسبب حكم، أي حكم، في “إعادة الاعتبار” إلى الحرب الأهلية ورموزها وتجميل صورتها بحيث تبدو أرحم بالناس من “المصالحة الوطنية” المزعومة؟!
إن هذا الحكم يتصرف بما يُفقده الأهلية، ويُنقص من هيبته وقدراته يومياً، ويفرض على الناس مفارقة عجيبة: أن يصيروا ضده من أجل أن يبقوا مع الدولة، أو من أجل أن تبقى لهم دولة.
لقد فقد الحكم مصداقيته، وكان ممكناً أن يضعه الناس خلفهم ويمضوا إلى شؤونهم لولا طبيعة الظرف الذي يفرض أن تكون الدولة المرجعية والقيادة ومصدر القرار وولي الأمر الشرعي لعموم المواطنين.
إن الدولة هي العمود الفقري لكيان سياسي كلبان، فإذا أصابه العطب أصابها الشلل وتكشفت العاهات، والعياد بالله.
وهذا الحكم مستعد بالأجوبة البائسة سلفاً لكل كارثة تقع، وكأنه يرى نفسه مصدرها، فهو يبرر كل ما يقع من مصائب وكأنها مدرجة على جدول أعماله أو أنها نتيجة حتمية لوجوده.
ولعل أعظم مصدر للتردي والانهيار هو اطمئنان الحكم إلى أنه باق مهما قصرن أو مهما ارتكب، أو مهما تسلى أركانه بخلافاتهم التافهة وشغلوا بها عن هموم الناس المتزايدة والمتوالدة باستمرار، فكل مصيبة تجيء نتيجة لما قبلها ثم تغدو سبباً لما يتوالى بعدها، وما أكثر المتواليات.
“الحكم” كله، بمؤسساته جميعاً، وليس الحكومة فحسب، فمسؤولية مجلس النواب الغائب أو المغيب لا تقل أبداً عن مسؤولية هذه الثلاثينية الشمطاء وكذلك بدعة “الترويكا” ثم الأبدع منها “النظام الداخلي” لمجلس الوزراء وهل هو بقانون أو فرمان همايوني، وحملات التشهير اليومية المتبادلة والتي تراكمت آثارها على طرق دمشق بأكثر من تراكم الثلوج فعطلت وأضرت وهدرت الكثير من الكرامة والوقت الثمين اللازم لشيء من الإنجاز!
إنه حكم مهزوز، بدأ بإجماع اضطراري ، وهو الآن يكاد يحظى بإجماع اختياري على نقص أهليته وعجزه وسوء إدارته وانعدام الثقة في قدرته على الإنجاز، أي إنجاز، بل على ضمان دوام الحال على ما كان عليه.
إنه حكم يتبرأ منه أهله، ويهرب من الدفاع عنه المنتفعون بوجوده، ويكاد يتنصل من بنوته من هم في حكم “آبائه”.
ولا يكفي الانهماك في المفاوضات العقيمة سبباً لإطالة عمر من يجب أن يذهب، فالسياسة الخارجية – مهما حسنت – لا يمكنها أن تغطي عورات السياسة الداخلية ومباذلها، لاسيما منها ما يتصل بقوت الناس وأسباب عيشهم.
بل إن ضغط الخلل المتفاقم في الإدارة الاقتصادية للبلاد يمكن أن يُؤثر على السياسة الخارجية، فيربكها وقد يخلخلها تارة بحجة الخوف من المزايدة وطوراً بذريعة التخوف من المناقصة، وهذه كتلك تتسلح بادعاء التعبير عن هموم الناس المعاشية وتطلعهم إلى حياة لائقة أو حتى مقبولة.
إن لبنان يتقدم سريعاً على طريق الانهيار.
والأزمة التي عصفت بالنقد الوطني خلال الأسبوع الماضي، والتي ستستمر في التفاعلن قد تستولد حالة شقاق سياسي قد تذهب بكل ما تم إنجازه تحت لافتة الوفاق الوطني.
إن النقمة التي تتركز الآن على أشخاص الحاكمين، بارتكاباتهم وتجاوزاتهم وحديث فضائحهم وصفقاتهم وسمسراتهم واتجارهم حتى بكارثة الثلج، قد تتخطاهم قريباً إلى ما يرمزون إليه أو يفترض بهم تمثيله من سياسات من ضمنها الاتفاقات والمعاهدات وضمانات الاستقرار الأمني السائد حتى الساعة.
لا حل إلا بإعادة الثقة إلى فكرة الدولة، وقد يكون الثمن التضحية ببعض الحكم من أجل إنقاذ الدولة، كفكرة وكمؤسسات وكصيغة وحدوية جامعة وكمرجعية مؤهلة لأن تعيد إلى الشعب ثقته ببلاده.
والحكم العاجز لا يضمن شيئا، في حين أن حكماً قادراً ومتماسكاً وموثوقاً قد يعطي أقل ولكنه يعطي دائماً،
والمؤسف أن آخر مؤسسة يمكن التوجه إليها طلباً للإنقاذ هي المجلس النيابي، لأنها مبتلاة بمرض العجز والشلل ذاته، كما أنها – في نظر الناس – شريكة في التجاوز والارتكاب وتمويه الحقائق على الناس… وما قيل عن ضبط للهدر بإعادة النظر في بنود الموازنة غير المتوازنة، ها هو يطير عبر سلفات الخزينة التي يتوالى إقرارها فتأخذ باليسرى ما كان تم احتجازه باليمنى، تأخيراً للكارثة التي يبدو إننا نتوغل الآن فيها.
وبالطبع فلا أحد ينتظر معجزات، أو أن تتهاطل فجأة المساعدات، أو أن تسقط الهداية على المرتشي أو المرتكب أو المتهاون في حقوق الدولة، أو العاجز بالتكوين،
لكن لا بد من خطوة ما، من خارج دائرة التوقع، لكي توحي بانفتاح الباب، ولو موارباً، وانهيار الجدار المانع للضوء والأمل والثقة.
والخطوة مطلوبة من الحكومة التي نفترض أنها تفضل الرحيل بالحد الأدنى من الرصيد بدل أن يستذكرها اللبنانيون غداً بوصفها “حكومة التجويع الوطني وإسقاط اتفاق الطائف”.

Exit mobile version