طلال سلمان

على الطريق حقوق الإنسان… بالإنكليزية!

لولا شيء من التحفظ لأمكن القول أن المؤتمر العالمي الثاني لحقوق الإنسان الذي افتتح أمس في فيينا، ينعقد تحت شعار: “من فضلكم أيها المحررون الأميركيون تعالوا استعمرونا لكي تحررونا من حكامنا الجلادين”!
هذه خلاصة الكلمات “التوجيهية” التي حددت أهداف المؤتمر كما وردت على لسان أمين عام الأمم المتحدة والمروج الأبرز للنظام العالمي الجديد الدكتور بطرس بطرس غالي:
“على المجتمع الدولي أن يكون قادراً على التدخل إذا كانت الدول لا تضمن الحماية لرعاياها وتحولت إلى جلاد لكائن البشري…”.
“… على الدول ضمان حرية الأفراد، لكن مسألة التحرك الدولي يجب أن تطرح حتى يتبين أن الدول غير جديرة وحين تخالف المبادئ الأساسية الواردة في شرعة الأمم المتحدة”.
“… والتحرك الدولي لا يتناقض مع المفهوم العصري للسيادة. السيادة ذريعة أخيرة تلجأ إليها الأنظمة المتسلطة للتعرض، في منأى عن الأنظار، لحقوق الرجال والنساء والأطفال وحرياتهم…”.
لكم تبدو هذه العبارات (والمعاني) صحيحة، أو بالأحرى واقعية، طالما هي تعلن باللغة الإنكليزية ، لغة هذا “المجتمع الدولي” الذي يقرر “التحرك الدولي” وأين وكيف ومتى وبأية مبررات وتحت أي علم يتم!
أما باللغات الأخرى، وبالتحديد، لغات العالم الثالث، فإن لها معاني أخرى تستذكر وتستعيد ذلك الإرث الاستعماري الثقيل الذي تنوء تحته الشعوب التي انتقلت من قهر الأجنبي إلى قهر الحاكم الآتي باسم رد الفعل على القهر الآخر!
إذاً، وحسب الدكتور غالي، صار “العدو” في الداخل، وفي الداخل فقط، وانتفت مختلف أشكال الاستعباد والاستغلال وإذلال الشعوب والتحكم بمصائرها وفق مصالح القوى المهيمنة دولياً، والتي تكاد تختزل الآن بالولايات المتحدة الأميركية.
فبذريعة أن عدداً من الحكام (وبالذات في العالم الثالث) يتصرفون كجلادين لشعوبهم أسقط كل ذلك التراث النضالي المجيد للشعوب المقهورة من أجل التحرر، وتم إلغاء “السيادة” كمانع للتدخل الخارجي، وصار الفرد أهم من وطنه ودولته، وإنقاذ حقوقه واجباً أممياً حتى لو تم بتدمير بلاده جميعاً!
وبغض النظر عن مسؤولية قوى الهيمنة (الجديدة؟) عن وصول الحكام – الجلادين إلى سدة الحكم حيث يحكمون، وعن استمرارهم، فإن فرض الوصاية الدولية، وهي هنا تعني الوصاية الأميركية حصراً، لا يعني بأي حال استخلاصاً لحقوق الإنسان ولا تأميناً لكرامته ولا إنقاذاً له من جلاده، بل لعل ذلك يكون أقرب إلى استبدال جلاد بجلاد أقوى وأخطر وأعظم نفوذاً.
والجلادان متساويان في “الشرعية” : كلاهما يعطي “الشرعية” لنفسه عبر مؤسسات يستولدها ويتحكم فيها، ذاك باستنبات مجلس نواب من “رجاله”، وهذا بتسخير الأمم المتحدة التي باتت مجرد “دائرة” تابعة لوزارة الخارجية الأميركية لإضفاء “الشرعية” على غزواته الكونية.
من هو “المجتمع الدولي” الذي يكثر الحديث عنه الدكتور غالي، ربما بحكم وظيفته؟!
هل هو هذه المنظمة التعيسة، الأمم المتحدة، التي تحولت إلى مجرد قناع أو أداة أو “محلل شرعي” للهيمنة الأميركية على العالم، سياسياً واقتصادياً وثقافياً، ولو باستخدام القوة العسكرية (الدولية) ودائماً تحت قيادتها وتحت الراية “المستعارة” من المنظمة الدولية التي كانت ذات يوم مصدر أمل الشعوب في عالم أكثر عدلاً وأكثر أماناً وأكثر احتراماً لحقوق الإنسان؟!
ولو أنصف بطرس غالي نفسه ومنزلته الأكاديمية وتجربة بلاده وأمته مع هذا “المجتمع الدولي” لما كان قد تورط في تبرير شرعية التدخل الأجنبي بحجة إنقاذ الكائن البشري هكذا بالمطلق.
إن شعب فلسطين، مثلاً، “يملك” من قرارات “المجتمع الدولي” ما يبني عمارة أعلى من مبنى الأمم المتحدة في نيويورك، ومع ذلك فإن “جلاده” الإسرائيلي يتصرف وكأنه مجسد إرادة “المجتمع الدولي”، وهو يعطي نفسه حق الأمرة على هذا “المجتع الدولي”،… ومشهودة هي الحالات التي اضطره فيها إلى لحس توقيعه على القرارات التي لم تعجبه أو ابتلاع تلك القرارات المتضمنة للحد الأدنى من حقوق الفلسطيني كإنسان.
أم أن هذا “الجلاد” خارج دائرة الحساب، وليس ضعيفاً كذلك “الجنرال الصومالي” البائس الذي أساء إلى بلاده مرتين: مرة بحكمه الغاشم ومرة أخرى بتبرير “الغزو الإنساني” لأرضها تحت علم “المجتمع الدولي”، ودائماً وفق القرار الأميركي.
إن كثيراً من حكام العالم الثالث جلادون لشعوبهم.
ولكن متى غدا الحاكم الأميركي رسولاً للإنسانية ومنافحاً عن كرامة الإنسان وحقوقه، وجيوشه لما تفرغ من محاولة إبادة شعب فيتنام، ومن إذلال شعوب أميركا اللاتينية، وأساطيله تجوب حاملة “اليانكي” المحيطات والبحور جميعاً، وطائراته – القلاع تطوف بصواريخ التدمير الشامل في السماوات جميعاً وعلى متنها “الأميركي البشع” الذي احترف تحرير البلاد من شعوبها مع إبقاء جلادها “الوطني” فيها.
وهل أوضح من نموذج العراق وأعظم دلالة؟!
ومثل هذا المنطق الفج والمرفوض لبطرس غالي يطرح جدياً جملة من الأسئلة بينها:
*ترى لو كان لبطرس غالي منطق وطني مصري، حتى لا نقول منطقاً قومياً عربياً، أو لو أنه تبنى موقفاً نزيهاً – كأكاديمي – وكمواطن من العالم الثالث، هل كان وصل إلى موقعه الحالي كحامل أختام الشرعية الدولية ليدفع بها قرارات “السيد” الأميركي الآيلة إلى هيمنته المطلقة على الكون؟!
*… ولو كان بطرس غالي ينتمي إلى الأكثرية وليس إلى أقلية الأقلية في بلاده، هل كان أزال الفوارق بين جلاد الداخل وجلاد الخارج (الأقوى والأبقى) بهذه البساطة ومن دون أي تحفظ أو استدراك؟!
*… و لو أن إسرائيل هي المستهدفة بـ “التحرك الدولي” وبتدخل “المجتمع الدولي” لإلزامها بتنفيذ قرارات الأمم المتحدة الخاصة بشعب فلسطين، هل كان يجرؤ على إعلان هذا الموقف المبدئي التاريخي الذي ينفي عن الولايات المتحدة الأميركية ما يراه فيها رئيسها الحالي، بيل كلينتون، المتباهي بأنه رفض المشاركة في القتال ضد شعب فيتنام، أو وزير خارجيتها الحالي وارن كريستوفر المعترف بأن تاريخ بلاده في موضوع حقوق الإنسان ليس مشرقاً بقدر ما يتوهم الناس خارجها؟!
إن كثيراً من حكام العالم الثالث جلادون.
لكن الديموقراطية لا تتوفر أبداً إذا جاء جلاد الخارج فدمر البلاد كلها ثم أبقى (أو خلع – وهو على الغالب يبقي) جلاد الداخل.
وكان أن الديموقراطية لا تستورد، كذلك حقوق الإنسان.
وسيبقى واجباً على كل إنسان وحقاً له أن يناضل لخلع جلاده واسترداد حقوقه بيديه وليس إلا بهما!

Exit mobile version