طلال سلمان

على الطريق حقائق شرقية وغربية أيضاً!

بعيداً عن أي شعور رخيص بالشماتة أو التشفي، لأن المصيبة تجمع الضحايا وتسقط خطوط التماس التي يراد منها أن تفرق بينهم، فإن أحداث “الشرقية” تعيد طرح مجموعة من الحقائق السياسية الكبرى التي لا تنفع من إخفائها، بعد، لا الجعجعة الخطابية ولا المواعظ الأخلاقية ولا ادعاء الحيدة ولا اتهام “الغرباء” و”العناصر الهدامة المتآمرة على المجتمع المسيحي”!
بين هذه الحقائق الكبرى:
1 – إن المجتمع المسيحي أكذوبة، تماماً كما هو كاذب ادعاء وجود مجتمع مسلم متميز وقائم بذاته، فارض لبنان أصغر من أن تتسع لمجتمعين أو لمجتمعات متناحرة لا لسبب إلا اختلاف اللبنانيين في معتقداتهم الدينية.
فلبنان يكون بلداً واحداً لشعب واحد، وتكون له دولة واحدة بجيش واحد هويته وطنية ودوره قومي، أو لا يكون البلد ولا الدولة ولا الجيش، أما الشعب فيعود والحالة هذه إلى حيث كان قبل اختراع “الكيان” والتسليم به تهدئة لروع الخائف وإقناعه “بالملموس” إن أمته وحدها هي الحامي والضامن ومصدر السلامة والكرامة والعزة. وليس الأجنبي كائناً من كان وبالغة ما بلغت قوته العسكرية.
2 – يتصل بهذه الحقيقة إن مشروع الكانتون المرتكز إلى أساس بحث طائفي وهو وهم قاتل للقائلين به كما للمسلمين به وكذلك للمخضعين له بقوة الحديد والنار والغريزة المستثارة.
فالكانتون مستنقع سرعان ما تأسن مياهه وتصير مصدراً للمرض والموت، وهو قد يؤذي ما جاوره من مناطق ضربتها عدوى “الكنتنة”. ولكن ذلك لن يحمي الغرقى أو المحاصرين فيه من خطر الهلاك.
والكانتون أخطر من الكيان، لأنه يتطلب تنمية الشعور بالخوف لدى فريق من المواطنين إلى الحد الأقصى وتوظيف هذا الشعور، من ثمن لتحويل “الخائف” إلى “مخيف” لأهله وجيرانه.
وإذا كان الكيان يتحقق بالسياسة فإن الكانتون لا يقول إلا بالعنف. والعنف ضد الذات وضد مقومات الوجود تحديداً، وهكذا فإن لحظة الاحتفال بإقامة الكانتون تكون هي بالذات لحظة إعلان سقوطه لتعذر توفير أسباب الحياة له.
ومؤكد إنه ما كان ممكناً قيام ما يشبه الكانتون في “الشرقية” واستمراره طوال سنوات الحروب الأهلية لولا التواطؤ العلني بين “الدولة” وبين الأطراف السياسية – العسكرية التي نمت وترعرت في أحضان هذه “الدولة” ثم انقضت عليها وجعلت نفسها البديل انطلاقاً من كونها جيش المسيحيين في المجتمع المسيحي.
فالكتائب التي قدمت نفسها باستمرار على إنها حزب الدولة سرعان ما اقتطعت من الدولة “حصتها” وأقامت عليها “دولة الحزب”، ثم قفزت إلى القطار الإسرائيلي مع الغزو في صيف 1982 وحاولت أو توسع إطار هيمنتها لتشمل الـ 10452 كلم2، كما كان يقول بشير الجميل، وبعد اغتياله واصل أمين الجميل المحاولة، وكان بديهياً أن يستخدم سلاح الدولة ضد الشعب والدولة، ولما باءت المحاولة بالفشل انحسرت الهيمنة لتستقر مرة أخرى داخل حدود “الكانتون”.
لكن الرهان الخطر على العدو الإسرائيلي وفشله وسقوط المشروع و”بطله” الأصلي، كل ذلك أدى إلى استفحال أزمة الحزب الداخلية المتعددة الوجوه والتي بلغت حد انقسام العائلة ذاتها بعدد رؤوسها الثلاثة، كما أنبتت الحزب الآخر، البديل، أي “القوات اللبنانية” التي كان لا بد أن تنبت أحزاباً أخرى بديلة، وعبر سياق يتسم بالعنف ويتخذ شكل الانقلابات العسكرية الدموية بطبيعة قوى الصراع وانشطاراتها وتفجراتها المسلحة.
3 – يتصل بهذه الحقيقة، أيضاً إن هيمنة فئة واحدة أو طرف واحد على البلاد مستحيلة، ومثلها في الاستحالة إمكان الهيمنة على جزء من البلاد لفترة طويلة. فما ينطبق على الكل ينطبق على الجزء والعكس بالعكس.
ولقد شهد اللبنانيون المأساة تتكرر، خلال سنوات المحنة الطويلة، في أكثر من منطقة، ودفعوا الثمن غالياً من دمائهم ومن أرزاقهم. دون أن ترتدع القوات السياسية ذات المنحى التقسيمي والمرتبطة حتماً بالأجنبي، وبالإسرائيلي أساساً، فتتخلى عن نهجها المدمر.
فالطائفية، كأي مرض معد، تسمم الهواء على الجميع، وبقدر ما تغري – في بلد كلبنان – كل جماعة باعتبار نفسها أمة تامة، بالارتكاز إلى معتقدها الديني أو المذهبي، ليس غير، فإنها توصل الجميع إلى الحائط المسدود ذاته وتتركهم يتحطمون عليه جماعة بعد أخرى، وليس من مستفيد إلا عدوهم الواحد: إسرائيل.
ولقد سقطت الدعاوى الطائفية في المناطق كلها، تباعاً، وكان منطقياً أن يكون سقوط الكتائب الأعظم مدوياً لأنها المؤسسة الطائفية الأعرق، ولأنها بالتالي أم المؤسسات الطائفية جميعاً.
كذلك كان منطقياً أن تستمر التفاعلات والتفجرات داخل حزب الكتائب الذي التهمته بداية طموحات العائلة السياسية، ثم أجهزت عليه “الميليشيا” التي تحولت إلى غول بدأ – ككل الغيلان – بالمعارضين والمنافسين لينتهي بابتلاع صاحبه أو مخترعه والمستفيد منه.
4 – إن سقوط المؤسسة – الأم، أي حزب الكتائب، يعني في جانب منه سقوط المشروع السياسي الذي حملته وخاضت الحرب الأهلية على أساسه والذي كان بمضمونه تقسيمياً، وكان منطقياً بالتالي أن يؤدي إلى تحليل المحرم وإقامة علاقة تحالف فعلية مع العدو الإسرائيلي.
ولتبرير هذا التحالف خرج حزب الكتائب على حقائق الحياة في لبنان، فتذرع بالخطر على المسيحيين ليخرج من العرب وعليهم وينحاز إلى جانب عدوهم القومي، لكن غرضه الحقيقي كان مكشوفاً تماماً: السلطة، ولا شيء غير السلطة… وفي ما بعد، وحين اقتضت ضرورات الحفاظ على السلطة أن ينقلب الحاكم الكتائبي على الإسرائيلي ويندفع في اتجاه العربي (السوري)، لم يتردد لحظة وصار ضيفاً شبه دائم على دمشق!
على إن التاريخ لا يرحم ولا يهمل شيئاً، وتبقى دروسه محفوظة لمن يريد أن يفهم،
فمن يبدأ بقتال المقاومة الفلسطينية سينتهي باستعداء الأمة كلها، داخل لبنان ومن حوله، وسوريا أولاً، وسيصل إلى الارتباط بالعدو عضوياً، وكلا الأمرين قاتل، وبهذا المعنى يمكن القول إن قيادة آلا الجميل قد سفحت دم حزب الكتائب والكتائبيين في الاتجاهين.
ومن يتورط في قتال شعبه، بشعارات طائفية وبمنحى تقسيمي، لا يمكنه من ثم لا أن يحكم البلاد كلها، ولا أن يضبط “الطائفة” خلفه كطابور من المنومين مغناطيسياً والمقودين في اتجاهات تتجاهل واقعهم الاجتماعي والاقتصادي وطموحاتهم السياسية… فالطائفية لا تطعم الأطفال الجياع خبزاً، ولا تزيل الفوارق بين الطبقات بمعجزات القديسين، ولا تبني وطناً، كما إنها بطبيعتها الاستفزازية، لا تنفع حتى في حماية كانتون يقوم كجزيرة من الأحقاد والغرائز والمطامع تؤمن المغانم لفئة منتفعة محدودة وتمنع “الأهالي” شرف دفع الغرم ومعه الخوات وضرائب الجباية كاملة غير منقوصة.
5 – إن أحداث الشرقية اليوم، مثلها مثل أحداث الغربية بالأمس، تعني إن الخلاص واحد لا بديل له، وهو توفر المشروع الوطني الصالح لأن يكون أساساً لحوار ينتهي بوفاق وطني ثابت يجدد الصيغة السياسية للبلاد ويطور في نظامها بما يجعله قابلاً للحياة وقابلاً ايضاً لأن يعتمد كمدخل لبناء دولة قوية لوطن محفوظة فيه حقوق مواطنيه جميعاً بمناطقهم وطوائفهم كافة.
6 – إن أحداث الشرقية أكبر وأخطر من أن تنهيها قيادات من الدرجة الثانية أو الثالثة، تنقصها الرؤية الوطنية الشاملة، والنزاهة الضرورية لكل من يتصدى لدور “المرجع”… فلا المستغني بنفسه عن الناس يصلح، ولا مدعي النبوة ينفع، ولا من بنى زعامته بالسلاح والحقد الطائفي الأعمى يستطيع أن يقود الناس إلى السلام والعزة والكرامة.
إن القيادات الصغيرة تحاول تصغير القضايا والبلاد لتصير بحجمها هي، لكن طبيعة الأشياء وحقائق الحياة هي التي تفرض منطقها في النهاية فيسقط القادة الصغار وتبقى البلاد وقضايا شعبها المحقة في انتظاء من يحمل لواءها إلى النصر ويكبر به.
وأحداث الشرقية مرشحة لأن تتفاقم، حتى لو تيسر الاتفاق على هدنة أو أمكن تجميد الوضع الذي يحمل بذور التفجير في مكوناته ذاتها.
ذلك إن لا حل للشرقية وحدها، تماماً كما ثبت أن لا حل فعلياً للغربية وحدها، فالحل إذا ما جاء يجيء للبلاد ككل، ويجيء من ضمن حل عام يعكس الحقائق الأساسية في المنطقة وتوازن القوى في العالم.
ولقد قالت مدافع الشرقية ما سبق أن قالته مدافع الغربية من قبل: إن لا حل بالقوة، ولا حل بالاقتتال، ولا حل بالخروج على إرادة الأمة، ولا حل بالطائفية خاصة، ناهيك بالمذهبية وما تفرع منها وعنها.
والحل بالسياسة لا بالميليشيات وتشكيلاتها الانكشارية.
والحل توحيدي لا تقسيمي، أي وطني، وبالضرورة عربي، حتى هو يأخذ الحقائق الدولية بالاعتبار.
وبهذا المعنى فالحل يستوجب تغييرات جذرية، في القيادات والمنهج والأدوات والأساليب، هنا وهناك، وفي الدولة والتنظيمات السياسية المسلحة.
ولسوف تستمر الماساة ما استمرت مكابرة القيادات الصغيرة والموتورة في رفض حقائق الحياة وتجاهل طموح اللبنانيين جميعاً إلى وطن واحد موحد، عربي في انتمائه ومصيره، ديمقراطي في نظامه وقوانينه، لا مكان فيه لجمهوريات الطوائف أو المذاهب أو الميليشيات المحقرة لشعبها وتاريخه ودوره الضروري والمطلوب.
وفي انتظار ذلك اليوم المرتجى، وهو أقرب الآن مما كان في أية فترة سابقة، لا بد من تحمل المزيد من الآلام المطهرة.
فنحن نعيش بداية النهاية الفعلية للمشاريع والمؤسسات الطائفية، وهي ستحاول إسقاط الكثير من آمالنا وتمنياتنا ومرافقنا وقيمنا وهي تهوي لتتحطم على أرض الواقع.
وسيكون محزناً ألا تتوفر القيادة الصالحة لالتقاط هذه اللحظة النادرة وصياغة المشروع الوطني العتيد الذي به وحده يمكن الخروج من المستنقع القاتل ومن جمهوريات الزواريب وأنبيائها الدجالين!

Exit mobile version