طلال سلمان

على الطريق حصر الأضرار بهدنة أميركية!

النقاش مرجأ، والأسئلة والتساؤلات والشكوك تستطيع جميعاً الانتظار إلى ما بعد العودة للانغراس في أرض الجنوب: ولو في خيام تنصب فوق أحداث البيوت – الشهداء.
فالنقاش قد يتسبب في المزيد من الجراح، وقد يستولد صراعات جانبية مؤذية، حول المسؤولية الداخلية عما جرى وحتى عن افلنتائج المريرة التي يسهل القول إننا كنا بغنى عن تحمل تبعاتها الثقيلة لو ولو ولو…
وقف المذبحة هو المطلب، أما الثمن فما دفع خلالها من اللحم والدم والحلم والقدرة يشي ويفضح كم هو باهظ ما دفع أو سيدفع على الصعيد السياسي، المقدمات تنبئ بالنتائج، والهزائم لا تلد الأفراح والمكاسب لا على الأرض ولا في السياسة.
في مثل هذا المناخ، وحيث يكمن السحر كله في العودة إلى الجنوب، يمكن القول إن لقاءات دمشق قد نجحت، سواء تلك التي جرت في إطار مجلس الجامعة العربية وعلى مستوى وزراء الخارجية أم في ظلها وعلى هامشها وبالتكامل معها والتي شارك فيها اللبنانيون والسوريون مع الإيرانيين، أم بالاتكاء على مجموع هذه اللقاءات ونتائجها في الاتصالات مع الولايات المتحدة الأميركية التي كانت “تفاوض” العدو الإسرائيلي على ثمن وقف ناره المدمرة.
فالنجاح يتجسد، الآن، في وقف المذبحة، خصوصاً وإن الحرب كانت من طرف واحد، ولا يمكن اعتبار “الذريعة” طرفاً ثانياً بأي معيار.
ما يهم الضحية هو أن ترفع السكين عن رقبتها، وما يهم المشرد الهائم الآن على وجهه أن يتمكن من العودة إلى خطام منزله ليكون حيث يجب أن يكون.
لا مجال للمزايدات ولا لترف الشعارات الفخمة التي عجز دعاتها عن الاستمرار في حملها فتركوها تسقط على رؤوس الجميع، بمن في ذلك أولئك الذين استهوتهم فآمنوا بها.
في زمن الهزيمة تتقلص الطموحات وتتواضع التمنيات إلى حدود الوقف الفوري لمسلسل القتل المجاني، مع الاستعداد المعلن للتساهل في مناقشة الثمن.
شعار المرحلة هو هو: حصر الأضرار والحد من حجم الكارثة.
وأن تقتصر الخسارة على تدمير حوالي عشرين ألف منزل في الجنوب (والبقاع الغربي) وعلى اقتلاع أكثر من ثلاثمائة ألف مواطن من مدنهم وقراهم ورميهم في عراء اللامكان، أفضل طبعاً من ترك آلة الحرب الجهنمية للعدو الإسرائيلي تحصد المزيد من أرواح اللبنانيين وأحلامهم وبيوتهم التي كانت تجعلهم أكثر ثقة بقدرتهم على بناء مستقبل أفضل.
المعادلة بسيطة وجارحة: لا مجال لتحويل الاجتياح إلى حرب،
ولا مجال لتحميل المقاومة بإمكاناتها المحدودة وظروفها المعروفة عبء التحرير،
ولا مجال لخسارة الوسيط الأميركي، وتركه ينحاز بالمطلق إلى الإسرائيلي،
إذاً فلا بد من القبول بما لم يكن مقبولاً قبل أسبوع أو شهر، وليس أسهل من توفير المحاذير والأسباب المخففة لهذا التراجع الذي يمكن تسويقه على أنه تكتيكي ومحدود ويمكن تعويضه مع وصول المخلص الأميركي وارن كريستوفر في مهمته الإنقاذية العتيدة!
هل ذهب القرار 425 ضحية للاجتياح الجديد إذ تجاوزه الأمر الواقع الجديد الذي أقامته صواريخ الطائرات وبطاريات المدافع الإسرائيلية خلال أسبوع القتل والتدمير؟!
وهل ستنجح الجولة المقررة لوفد الجامعة العربية في إنقاذ هذا القرار الذي اعترضت عليه إسرائيل عند صدوره، ثم لم تعترف به أبداً على امتداد الخمس عشرة سنة الماضية، واعتبرت إشارتها إليه في الجولة التاسعة للمفاوضات مكسباً برغم أن الإشارة كانت ملتبسة وكمطلب للطرف اللبناني ليس إلا؟!
لقد اعتبر اللقاء الطارئ لمجلس الجامعة العربية في دمشق “مفاوضات السلام” أساسية جداً وفي مستوى “سيادة لبنان وأمنه وسلامة أراضيه” بل وسلامة المنطقة العربية بأسرها، ومن هنا أنه رأى الاجتياح الإسرائيلي عدواناً عليها جميعاً،
لكن كريستوفر بتأخير مجيئة إلى المنطقة في انتظار قبول “الطرف اللبناني”، بالشروط الإسرائيلية، التي تطال معه وعبره سوريا وإيران، كان يكرس – عملياً – الفصل بين الموضوع اللبناني وبين “مسيرة السلام”
بمعنى آخر كان يترك لإسرائيل أن تعالج “الوضع اللبناني” حتى إذا أنهت مهمتها الاستثنائية فيه صار ممكناً استعادته كأحد بنود “مسيرة السلام” وفي إطارها القانوني والسياسي المعلن، أي إطار القرار ين 242 و338 و”الأرض مقابل السلام” مع التهميش الكلي للقرار المتميز والخاص بلبنان والاحتلال الإسرائيلي لبعض أرضه: 425.
هل هي هدنة، إذاً، في انتظار كريستوفر وما يصل إليه في جولته الجديدة؟
هل احترق مؤتمر مدريد وتهدم في جملة ما احترق وتهدم في جنوب لبنان؟!
هل نجحت إسرائيل وعبر الواقع الجديد الذي استولدته باجتياحها في فرض مستوى مختلف وإطار مختلف “لمسيرة السلام”؟!
هل سقطت صيغة المفاوضات المباشرة التي استمرت، بغير نتائج، خلال الجولات العشر بشهورها الاثنين والعشرين القاتلة ببطنها؟!
الجواب معلق إلى ما بعد العودة: عودة أهل الجنوب إلى الجنوب، وعودة كريستوفر من المنطقة إلى واشنطن…
على الهامش لا بد من تسجيل بعض نقاط الضوء التي كسرت قتامة الصورة المحزنة:
• النقطة الأولى – أن تماسك اللبنانيين واعتصامهم بوحدتهم الوطنية، واتعاظهم بتجاربهم المريرة، كل على حدة أو مجتمعين، مع العدو الإسرائيلي، كل ذلك قد فوت على هذا العدو فرصة تحقيق مكاسب سياسية في مستوى اجتياحه.
لقد استوعب لبنان الضربة المريعة، فلم يسقط، واشترك المواطنون في تحمل عبء الكارثة فلم يتخلف منهم طرف أو فئة، واختفت الأحقاد الصغيرة كالشماتة والكيد والاستعانة بالعدو على الشقيق، أو الاستسلام بغير قيد أو شرط.
• النقطة الثانية – أن الاستجابة العربية جاءت مقبولة، إذا ما أخذ بعين الاعتبار التصدع الخطير الذي يتهدد العمل العربي المشترك، والافتقار إلى حد مقبول من التضامن العربي.
ومع الملاحظات على التهالك في موقف النظام المصري وتبرعه للقيام بدور “الوسيط” بينما كان متوقعاً منه الدعم، وكذلك على الرفض الكويتي المنهجي لأية محاولة لاستعادة التضامن العربي (كما أظهر موقف رئيس مجلس الأمة الكويتي من البيان الختامي للاتحاد البرلماني العربي)،
… فإن الالتزام العربي بدعم لبنان لإعادة بناء ما تهدم من مدنه وقراه وتأمين عودة النازحين إليها، ولتجهيز جيشه وإعداده لكي يتمكن من بسط سلطة الدولة على كامل الأراضي اللبنانية، يظل أمراً جديراً بالتنويه، خصوصاً إذا تم الوفاء بالتعهدات الجديدة ولم تلحق بالتعهدات السابقة طيبة الذكر،
ومبروك للجيش عيده الذي يصادف اليوم، أي في ذروة الاحتياح إليه كحصن أمان وكضمانة سلامة للداخل، كل الداخل، النظام والدولة والحكم والشعب والأرض المعطرة بدم الشهداء.
• النقطة الثالثة – إن الاستجابة الإيرانية لدواعي حصر الضرر والحد من الكارثة قد سهلت الوصول إلى وقف المذبحة، فإنقذت بذلك ما يمكن إنقاذه من رصيد لبناني للثورة الإسلامية وقيادتها… بل لعلها قد أسهمت أيضاً في تثبيت العلاقة الاستثنائية القائمة بين سوريا وإيران منذ أربعة عشر عاماً حافلة.
لم نخسر الحرب، لأننا أصلاً لم ندخلها، بل إننا لا نملك الفرصة لدخولها.
والمهم ألا نخسر الجنوب (والبقاع الغربي)، وألا نترك الاحتلال الإسرائيلي يتمدد ويضع يده على المزيد من أرض لبنان وصولاً إلى اللليطاني أو ربما إلى الأولي كما أشاعت أبواقه عبر حملتها الإعلامية الأشد فتكاً من صواريخه.
ولعلنا نفيد من “الهدنة” لترميم الموقف السياسي العام، داخلياً وعربياً، بأسرع مما سيمكننا ترميم هذه الألوف الكثيرة من البيوت – الشهداء والأخطر: من مشاعر أهلها ومن قيمهم ومن بديهياتهم الوطنية والقومية.

Exit mobile version