طلال سلمان

على الطريق حرصاً على الجيش…

الأيام تذهب بالوهج ولا يبقى من الحدث، بعد زوال أثر الصدمة، إلا دلالته الفعلية،
وها هي الأيام، بما تم خلالها ويتم، وكذلك بما لم يتم، تحجّم الحدث الكبير الذي شهدته المنطقة الشرقية في منتصف الشهر ا لجاري، مستبقية منه النتائج المحسوسة التي أثرت على الناس، سواء في حياتهم اليومية أم في نظرتهم إلى مستقبلهم الذي ما زال غامضاً.
الكل يسأل، وبإلحاح: ماذا بعد؟! متى الخطوة التالية؟!
وليس صحيحاً إن من يطرحون هذا السؤال مجرد محرضين على الفتنة أو الاقتتال داخل الصف الماروني،
بالقدر ذاته ليس صحيحاً إن المحجمين عن طرح السؤال، أو الصامتين، هم بين عوامل توحيد صف الطائفة العظمى، ناهيك بتوحيد البلاد بكل عبادها الصالحين،
فالقلق مشروع ومشاع، وهو لا يذهب بالنصائح، بل لا بد من زوال أو إزالة أسبابه.
والقلق ما زال “وحدويا” لم يتم تقسيمه – بعد – لا على أساس طائفي ولا على أساس جهوي يختزن الطائفية ويختزلها (شرقية وغربية).
فالحدث في الشرقية يعني اللبنانيين جميعاً، داخل الشرقية وخارجها، لأنه تطور نوعي في مسار الأزمة التي تطحنهم منذ سنوات طويلة، قد يقصر من أمدها وقد يطيل فيه، قد يقرب موعد الفرج وقد يبعدنا عنه أو يضعف احتمالاته.
لقد تحرك العماد ميشال عون باسم الجيش، ومن موقع قيادته، والجيش – برغم كل الاشكالات والالتباسات والملاحظات على الدور والقيادة – مؤسسة توحييدة، وهو واحد من الرموز القليلة الباقية للدولة التي كانت ، واحد المرتكزات المفترضة لتجديد الدولة، ولو بشيء من التنقيح والتعديل.
والتحرك وضع مصير الجيش ودوره، مرة أخرى، على بساط البحث،
فإذا كان العماد عون قد تحرك، أخيراً ، مغامراً بمستقبله الشخصي، حامياً سلطته من مشروع انقلاب كانت تدبره “القوات اللبنانية”، فهو قد غامر أيضاً بمستقبل الجيش ودوره العتيد.
ولعل الجيش قد تحرك بحماسة ملحوظة، استجابة للشعار الذي رفعه العماد أمامه: الدولة بديل من الدويلة.
كانت تلك فرصة للجيش لكي يستعيد هويته: جيش لدولة، لا لطائفة ولا لجهة ولا لدويلة تلغي بوجودها، أول ما تلغي الجيش، وتمسخ صورته وتلحق بها أبلغ الضرر.
والناس في الغربية كما في الشرقية حريصون على الجيش كمؤسسة، لاسيما الآن وقد استعاد الكثير من اعتباره المسفوح على عتبة الطوائف وميليشياتها المرفوضة.
والحرص على الجيش ليس بالضرورة حرصاً على العماد ميشال عون ودوره.
العماد هو الذي يقرر، في هذا الشأن: يتوحد بالجيش، كمؤسسة توحيدية ، بنيت باللبنانيين جميعاً وتخص اللبنانيين جميعاً، بوصفها أحد شروط قيام الدولة وأحد ضمانات استمرارها، أم ينفصل عنه عند مفرتق الخيار المطروح ذاته: الدولة أم الدويلة؟!
ولقد يساعد العماد عون على حسم خياره أن يستوعب بعض النتائج الملموسة لتحركه، ثم لتوقفه من دون الأهداف التي حددها لجيشه غاية، والتي بها دخل إلى الأوساط التي كانت مقفلة دونه.
*من نتائج التحرك: انتعاش الأمل باقتراب موعد نهاية الحرب أو الحروب الأهلية في لبنان.
قال الناس: ما زال جيشنا على قدر من السلامة يؤهله للعب الدور الذي يبحث عن بطله،
وقال الناس: الجيش موجود، إذن فكرة الدولة لما تمت في أوساطه، والقدرة على بعثها في ظل مناخ مؤات للحل متوفرة، وما حدث في الشرقية شاهد ودليل.
*ومن نتائج التحرك: تخلي العديد من الأسر، والشبان خاصة، عن فكرة الهجرة، أو ترددهم، أو تأجيل التنفيذ، على الأقل، في انتظار الاطمئنان الكامل إلى اتجاه الريح!.. بل إن العديد من الذين هاجروا بالفعل أو سافروا بقصد ترتيب أمور الهجرة، بدأوا يعيدون النظر في قرارهم.. فهم هاربون من الحرب، فإذا كانت إلى انتهاء فلماذا التشرد وتحمل الاهانات وعذاب اليتم الوطني في أرض الغربة التي لا ترحم.
*ومن نتائج التحرك: تلك التزكية الدولية الإضافية التي نالتها اللجنة العربية للمساعي الحميدة في لبنان، والتي أكدت إن مهمتها قد اكتسبت مزيداً من الأرض واحتمالات النجاح.
أما نتائج التوقف دون الهدف المعلن “دولة لا دويلة” فخطيرة وأبرزها:
** تصوير التحرك وكأنه مجرد ضغط بالقوة العسكرية لاقتسام الأرض والقرار و”المغانم” في الدويلة،
ولعل أخطر ما يسيء إلى ذلك التحرك ما تلغط به الألسنة، الآن، حول “الاتفاق السري” الذي عقده العماد عون مع قائد “القوات اللبنانية”، والذي يحمله كل صاحب غرض ما شاء له الهوى من مضامين وأبعاد، أفظعها ما يتصل بالجبايات والأتاوات وموارد الدولة المنهوبة،
فثمة تساؤل جدي الآن عن مصير هذه الموارد: هل ستعود إلى خزينة الدولة، مباشرة أم إلى “صندوق خاص” يكون بتصرف العماد عون، ينفق منه وفق ما يرى؟
** تصوير التحرك وكأنه تسخير للجيش لخدمة الطموح الشخصي للعماد عون، فإذا ما تبين له إنه لن يكون رئيساً للدولة العتيدة تحول إلى عماد للدويلة القائمة، وكفى الله المؤمنين شر القتال.
** توظيف هذه الخظوة الناقصة لإعادة تجميع أعداء الدولة والجيش الموحد الموحد واستنفارهم لكي ينزلوا بثقلهم إلى الشارع لتعطيل مهمة اللجنة العربية، ولسد الطريق أمام مشروع الحل المرتجى.. ولو بعد دهر.
وليس سراً إن القوى المنتفعة بغياب الدولة والعاملة لاستمرار هذا الغياب ولو بإعادة الحرب ، تتحرك الآن حركة شبه منسقةن بغض النظر عن التصريحات الملتهبة وحدوية أو الملتاعة حزناً على الجيش ودولته الغائبة.
ونقابة المتضررين من عودة الدولة تشمل مراجع روحية وأقطاباً سياسيين وزعماء وقادة ميليشيات واصحاب مصالح اقتصادية تم استيلادها بفضل الأمر الواقع التقسيمي وكنتيجة له.
والجيش مطالب بالخروج من أسار الدويلة.. فانحصاره فيها هو الفتنة وهو الاقتتال الذي سيذهب بالجيش، في حالة استمراره يراوح مكانه خلف أسوارها.
والعماد عون مطالب بأن يخرج بحركته إلى رحاب الدولة، فلا مكان له – بعد الآن – في الدويلة، ولا للجيش الذي سيعاقب غداً باعتباره “الخارج على إرادة الطائفة” أو على إنه “جزارها”!
وليست دعوة إلى الفتنة، تلك التي تطالب العماد عون بإكمال خطوته،
فالدولة تعني الناس جميعاً، في الغربية كما في الشرقية، وغيابها يحولهم جميعاً إلى ضحايا ومعهم هذه المرة الجيش الذي لا نحب أن نقول إنه أعطي حكماً فلم يحسن سياسته.

Exit mobile version