طلال سلمان

على الطريق حرب على التاريخ!

من موسكو إلى طرابلس الغرب، عبر أوروبا بشرقها عموماً ويوغسلافيا خصوصاً، مع وقفات سريعة في بغداد واستطراداً في القاهرة والجزائر، يبدو وكأن عملية مسح التاريخ للتطور الإنساني في القرن العشرن تستكمل إجراءاتها بدقة.
ليست هي نهاية التاريخ، فليس لهذا المسار الرائع والمذهلة وتيرة التحولات فيه الآن، من نهاية، ولكنها محاولة للوي عنق التاريخ وإعادة كتابته على الطريقة الأميركية.
كأنما المطلوب أن يلغي كل شعب، بيديه وربما بدمائه، تاريخه السابق بالماضي السحيق والتجارب العظيمة، بالانتصارات والإخفاقات، بالبطولات والمرارات والأحزان النبيلة وأفراح الأعياد، وأن يبدأ علاقته بالحياة (الجديدة) بلحظة استكانته أو استسلامه للهيمنة الأميركية المطلقةز
كأنما المطلوب أن يلغي العالم تاريخه لتعطيه هذه البلاد البلاد تاريخ ملامحه الجديدة وربما الأسماء الجديدة والهوية الجديدة ليمكن من ثم اعتباره منسجماً وملائماً للنظام العالمي الجديد الذي بدأته الولايات المتحدة الأميركية بحرب عالمية ثالثة في الخليج شطبت خلالها العراق ومعظم العرب، بل ومعظم الكون أيضاً.
على الروس – مثلاً – أن يخرجوا إلى الشوارع هاتفين ضد بلادهم، ضد ثورتها الاشتراكية العظمى، ضد “أنبيائهم” وقادتهم المبرزين الذين رفعوها من أمة مستعبدة لقيصر نصف أجنبي إلى دولة جبارة توصلت – برغم حصار الجوع والاضطهاد والحرب – لأن تكون قوة عظمى تقود نصف سكان الكرة الأرضية وتشارك في تقرير مصير النصف الآخر.
لا تكفي إدانة النظام (الشيوعي) – وهو في أي حال قد أدان نفسه بسقوطه – ولكن المطلوب إدانة الشعب، إدانة التجربة، إدانة التاريخ، وتحقير الماضي ومسخه وتشويهه بحيث لا يعود للمستقبل تحديد أو ملامح واضحة أو شروط “إنسانية”… المهم فقط أن يأتي فيجب ما قبله.
أي إن على الإنسان (الروسي) الذي كان عبداً أو قنا يباع والحيوانات مع الأرض فيتداوله الإقطاعيون ورجال القيصر وكأنه “شيء”، أن يخرج إلى الشارع قاذفاً تجربة أبيه وجده في التحرر واستعادة الكرامة الإنسانية في صفيحة القمامة، وأن يسارع إلى شراء سندويش همبرغر وزجاجة بيبسي كولا ويرفع علبة تشيكلس في يمناه تدليلاً على انتمائه إلى العصر وتحرره المطلق من النظام الذي استعبده سبعين عاماً أو يزيد.
أما الأوروبي الشرقي (هنغاريا كان أو بولونياً أو تشيكياً حتى بلغارياً) فجرعته أخف لأنه كان ضحية للاستعمار الشيوعي (السوفياتي)، ولذا يكفي أن يتقدم بالتماس إلى “محررة الشعوب ” الجديدة، الولايات المتحدة الأميركية، كي تستعبده على طريقتها مدخلة إياه إلى نعيم الاقتصاد الحر والتعددية السياسية التي تتيح له مجالاً هائل الاتساع للاختيار بين محافظة “الجمهوريين” وليبرالية “الديموقراطيين”!
مع يوغسلافيا يختلف الأمر، وتتخذ العقوبة طابعاً أشد، لأنها موجهة لكل أوروبا: فمن يخرج على الهيمنة الأميركية ليس أمامه غير الحرب الأهلية.
لا يكفي أن يحطم اليوغسلاف تماثيل بطلهم جوزيب بروزتيتو، وأن يعلنوا براءتهم من أي أثر من آثار الشيوعية، بل عليهم أيضاً أن يقدموا – بدمائهم – صورة المستقبل الأوروبي، إذا ما حاول بعض المكابرين فيها أن يشقوا طريقهم الخاص، وأن يبقى لأي منهم قراره الوطني المستقل، وأن يطمح بعض الحالمين من مفكريهم وحكامهم إلى وحدة اقتصادية (وبالتالي سياسية) تجعل من أوروبا قوة موازية أو موازنة للولايات المتحدة الأميركية، ولو من موقع الحليف أو الشريف الضعيف.
أما مع العرب فلا مجال للمساومة أو للتسوية: إنهم مرفوضون بالجملة والمفرق، دولاً وشعباً، ديناً ودنيا، لأنهم يعيشون على التاريخ وبالتاريخ وفيه.
والتاريخ لدى العرب غير قابل للانكسار: فهو ليس سيرة حياة أباطرة وملوك، ولكنه يرتكز أساساً إلى الرسائلة الواجب تبليغها إلى أمم الأرض كافة، والرساسة مقدسة وهم قد شرّفوا باختيارهم حملة لها، ولغتهم قد كرّمت فحفظها “القرآن” من التحريف أو الاندثار.
ولكي يقبل النظام الأميركي الجديد العربي، أي عربي، لا يكفي أن يتنصل من عقيدته السياسية، بل لا بد أولاً من أن يخلع عن تاريخه: اسمه وهويته ودينه وموروثاته المقدسة وبينها الارتباط بأرض “القرآن” وسائر الرسالات السماوية، واللغة، وقواعد محددة للسلوك فردياً وجماعياًز
لا يكفي أن يخرج العربي فيعيد قتل جمال عبد الناصر وسعد زغلول وسلطان الأطرش ورشيد عالي الكيلاني والمهدي بن بركة وعز الدين القسام والحاج أمين الحسيني وشكيب أرسلان وعلال الفاسي وإبراهيم هنانو ورياض الصلح وشهداء الثورة العربية الكبرى الخ.
بل عليه، قبل ذلك، أن يعيد قتل الرسول العربي وعمر بن الخطاب والإمام علي والحسين بن علي، والصحافة جميعاً وعمر بن عبد العزيز وموسى بن نصير وطارق بن زياد وعقبة بن نافع وصلاح الدين الأيوبي والمعز لدين الله الفاطمي الخ
عليه أن يشطب تاريخ الفتح (وتبليغ الرسالة) مستبدلاً خيل الفتح جميعاً بخيال مارلبورو.
وعليه أن يرمي أبطاله إلى المزابل مكتفياً بصور لبطل العصر الأميركي جون واين،
لا مجال للمساومة أو التسوية: يكون العربي عربياً فيقاتل وقد يقتل، ويخرج على عروبته فيقتل ألف مرة في الساعة وبلا قتال.
ولقد قتل المعارضون لصدام حسين والمنتفضون بالسلاح ضده، وبقي صدام ليظل ذريعة للتهديدات الأميركية لكل عربي، وليظل وسيلة ابتزاز أميركية لقهر الإرادة العربية واستنزاف موارد الثروة العربية.
وحصار ليبيا هو الطرف الآخر للكماشة الأميركية على الأمة العربية بمشرقها ومغربها.
ولقد قالها الأميركي صريحة فاجرة: ليست حكاية طائرة فجرت ومتهمين ليبيين، بل هي حكاية التاريخ… تاريخ العرب في ليبيا، كما تاريخهم في العراق، كما تاريخهم في كل أرضهم، ومنذ بداية تاريخهم.
لذلك فهي لن تنتهي في يوم أو شهر أو سنة، مهما اشتد الحصار.
فللتاريخ كلمته أيضاً، وليس مضطراً لأن يقولها بالتوقيت الأميركي.

Exit mobile version